*د. حسن مدن
في أحد نصوصه يقول شكسبير على لسان إحدى شخصياته: «إذا ما الكدح أعياني هربتُ إلى سريري، تجد فيه أعضائي المنهكة بترحالها راحتها العزيزة، ولكن الرحلة تبدأ، عندها، داخل رأسي تشغل الذهن بعد أن قضى الجسم شغله».
والحق أن في ذهن كل منا تشتعل مثل هذه الشواغل عندما نأوي إلى أسِّرتنا في المساء أو ننفرد إلى ذواتنا، للدرجة التي ينتابنا فيها ذلك الإحساس بالرغبة «في الخروج من حياتنا كما نخرج من بيوتنا للسير في الشوارع» بتعبير أحد الكتاب. الحق أن الشواغل التي تشتعل في الذهن هي أشد وطأة وإلحاحاً من تلك الأعباء التي ينوء بها الجسد، لأن استغراقك في نوم عميق قد يعوض لجسمك ما كان قد فقده من طاقة أو ما يعاني منه من إرهاق، ولكن شواغل الذهن ليست من النوع الذي يتبدد بسرعة أو يتلاشى، إنها سريعة في تسربها إلى الذهن واستيطانه، وشديدة البطء في مغادرته.
الروائي العراقي الراحل غائب طعمة فرمان اختار مقولة شكسبير أعلاه ليضعها في مقدمة روايته «المرتجى والمؤجل». ولسنا هنا في صدد الحديث عن هذه الرواية الجميلة الجديرة بالقراءة بقدر ما نحن في أجواء الأحاسيس والأفكار التي يثيرها عنوان هذه الرواية في نفوسنا. لو تأملنا في عدد الآمال والأحلام المرتجاة في حياتنا لوجدناها كثيرة، ولوجدنا أنها تطال تفاصيل كثيرة تخصنا. ولو تأملنا أكثر لوجدنا أن غالبية هذه الأحلام مؤجل، وفي الغالب يأتي هذا التأجيل لأننا لسنا وحدنا من يقرر تحقيق المرتجى من هذه الأحلام. وهذا المرتجى هو على ما يبدو تلك الشواغل التي يضج بها الذهن في لحظة انفرادنا بأنفسنا، في اللحظة التي نأوي فيها إلى أسِّرتنا لننام، أو في اللحظة التي يتعين علينا فيها مواجهة الذات، بكل ما تطرحه هذه المواجهة علينا من أسئلة وتداعيات.
من أين تأتي فكرة التأجيل هذه؟!
إنها، على الأرجح، تأتي من وعينا بتلك المسافة الشاسعة التي تفصل بين الرغبات الأحلام وبين الممكن المتاح، لذا يسكننا ذلك الشعور الغامض بأن العين لا تقر برؤية ما ومن تحب أو تهوى ساعة تشاء، أو حين تكون أعمق الرغبات مكبلة وعصية على التحقيق، كأن كل نجاحاتنا الصغيرة والكبيرة في الحياة ما زالت أعجز من أن تجلب لنا السعادة المشتهاة، ونبدو عاجزين عن التصالح مع أشياء كثيرة محيطة بنا، فالسعادة تأتي فقط حين يتصالح المرء مع ذاته، ولكن دون هذه المصالحة، ثمة عوائق وحواجز وصعاب.
ويمكن لما بنا، وما حولنا، أن ينقسم إلى معلوم ومجهول، المعلوم، حتى وإن كان غير مريح، يبعث على درجة من الطمأنينة لأننا اعتدنا التعامل معه بطريقة أو بأخرى، لكن المجهول، حتى وإن كان من المؤمل أن يكون حلواً، يبعث على الخوف والترقب والقلق.
«قد يكون الغيب حلواً، إنما الحاضر أحلى»، نوظف هذا البيت من الأغنية الشهيرة في السياق الذي أتينا عليه، فنحن لا نعلم ماذا يخبئه لنا المستقبل من مفاجآت، إن كان على الصعيد الشخصي أو على الصعيد العام الذي يهمنا معاً كجماعة. ورغم أننا، فرادى أو جماعات، نعيش دائماً مفعمين بالآمال والمشاريع ونسعى جاهدين لتحقيقها، كلها أو بعضها، إلا أن آمالنا محاطة دائماً بالقلق والخوف عليها، الناس لا يتهيأون، كقاعدة، للأحسن إنما للأسوأ.
المجهول يقع في تلك المنطقة الغامضة من حياتنا المقبلة، ولا نبدو قادرين على التنبؤ بالمصادفات المتوقع منها وغير المتوقع، خاصة حين يجري النظر للأمر من تلك الزاوية الفلسفية من أن التاريخ ليس سوى سلسلة من المصادفات وهي التي تكاد تخلع على الأحداث لا غائيتها وربما عبثيتها، والتي تجعل من التاريخ الساخر الأكبر من البشر ومشاريعهم وأحلامهم، رغم أنهم صناع هذا التاريخ وفاعلو أحداثه.
بيد أن هذا الخوف من المجهول يمكن أن يتحول إلى طاقة للفعل الواعي، للاستثمار في المستقبل بالمعنى الحضاري، بديلاً للامبالاة والانتظار السلبي لما قد يأتي به هذا المستقبل، سلباً كان أو إيجاباً. إن المجهول يمكن أن يحرضنا على اقتحامه، على معرفة ما به من كوامن ووعود، والتقدم نحوه بثقة وثبات.
يجب أن يكون لدينا دائماً ما هو مرتجى ومؤجل، لأننا لا نستطيع الإمساك بالأمور كلها دفعة واحدة، ولأن ذلك وحده يجعل للحياة هدفاً ومغزى وغاية متجددة إليها نسعى. ربما لأن التأجيل الذي يأتي بمحض اختيارنا الحر هو تأجيل واع، بخلاف ذلك التأجيل المفروض علينا والأشبه بمصادرة أعز الأماني وأغلى الأحلام.
حين كان المفكر التنويري الشهير سلامة موسى في الستين من عمره أُلقي القبض عليه بتهمة لفُقت ضده، رواها بشيء من التفصيل في سيرته الموسومة «تربية سلامة موسى»، ساعتها لم يفكر الرجل في كيف سيقضي فترة السجن، وإنما كيف سيقضي السنوات العشر القادمة من عمره بأن وضع لنفسه برنامجا من العمل والمسرات التي يصبو لنيلها، وقال ما قاله ابن سينا عن نفسه: «إني قوي القوى كلها»، وكان سلامة موسى يقصد أنه وهو في الستين لا يشعر بالوهن أو اليأس، إنما بالأمل.
ورغم أن الصورة التي رسمها للمستقبل القريب للعالم كما كان يراه في 1947، سنة القبض عليه، بدت صورة سوداودية، إلا أن ذلك لم يمنعه من أن يضع لنفسه برنامجاً متفائلا لسنواته العشر القادمة، بل قال بيقين انه يطمع في عشر سنوات أخرى تليها معولا على ما بلغه الطب من تقدم.
وضع الكاتب في أول البرنامج قراءة أو إعادة قراءة بعض الكتب التي تركت في نفسه شكوكا أو شبهات، ومن ذلك رغبته في أن يقرأ كتاب «الغصن الذهبي» الذي قرأ له ملخصا في نحو ألف صفحة، ولكنه يشعر أن ذلك لا يغنيه عن الحاجة لقراءة مجلدات الكتاب كاملة وعددها عشرون مجلدا، فهو يشعر أن «تربيته» ستبقى ناقصة إن لم يقرأه كاملاً.
ذكر موسى أسماء كتب أخرى لا مجال هنا لتعدادها، ولكن اللافت رغبته وهو في تلك السن بأن يتعلم الذرة حتى لو اقتضى الأمر استئجار مدرس. أما لماذا الذرة بالذات، فذلك لأن صاحبنا يرى أن خطورتها أكبر من يهملها رجل مثقف، ففي المستقبل حين تستغل الذرة لخدمة البشر بدلاً من قتلهم سوف يقسم التاريخ البشري قسمين، ما قبل الذرة وما بعدها.
قال أيضا أنه يريد التعمق في البيولوجيا والسيكولوجيا وهما من غرام شبابه الأول، ولكنه يرغب في أن يزداد فيهما نضجا، ووعد بأنه لن يكف عن كتابة الكتب «المقلقة» كي تكون خمائر صغيرة يبعثها في مصر وسائر أقطار العرب كي يزعزع التقاليد السوداء ويحرق العفن.
ثمة أمنية جميلة أخرى: أن يقضي آخر عمره في الريف يصادق الشجر ويتحدث إلى النجوم ويُحيي الشمس في الصباح ويضحك مع الماء حين يجري، لأن «من واجب من يعيش في الدنيا أن يرى الدنيا».
سلامة موسى نفسه، انصرف مرة للتمعن في سيرة عدد من المشاهير الذين عمروا طويلاً، كأنه يريد لقارئه أن يسترشد في توجيه حياته بما في دروس حياة هؤلاء من عبر، وممن اختارهم شخصيات مثل غوته أديب ألمانيا الكبير، الذي كان يكرر دائما بأن «المعيشة فوق المعرفة، والحياة أولى بالعناية من الفن»، ولم تكن ثقافته وفنه وعلمه إلا توسعاً وتعمقاً في الحياة. مات غوته في الثالثة والثمانين، وكان في الرابعة والسبعين حين وقع في حالة حب، وبقي شاباً يعمل ويحب ويختبر إلى يوم وفاته.
من الشخصيات التي تحدث عنها سلامة موسى أيضاً كان الزعيم الوطني سعد زغلول الذي مات بعد السبعين لكنه لم يعرف شيخوخة الذهن أو النفس. أصبح سعد محامياً بعد أن تجاوز الثلاثين، ولكنه وجد ثقافته ناقصة فعاد تلميذاً ليدرس اللغة الفرنسية والقوانين الفرنسية ويتقدم لامتحان الدبلوم وهو في الأربعين، وحين عطلت الجمعية التشريعية في مصر أثناء الحرب العالمية الأولى التي كان رئيساً لها أبى أن يتقاعد ويتثاءب، وكان قد تجاوز الستين، فعمد إلى اللغة الألمانية يدرسها وهو في تلك السن.
الأديب الإيرلندي الأصل برنارد شو ألف وهو في التسعين من عمره كتابا في السياسة والاجتماع. يذكر أن برنارد شو توقف عن تناول طعام اللحم منذ أن بلغ الثمانين من عمره واقتصر على الطعام النباتي، ولم يدخن أو يتعاطى الكحول قط، لكن سلامة موسى يعتقد أن حياة الكفاح التي عاشها شو هي السبب الأكبر أو الرئيسي لحيويته العجيبة التي ظل محافظاً عليها في عمره الذي كاد يبلغ مائة سنة.
يريد سلامة موسى أن يحملنا على إدراك جدوى ألا نعيش في خواء الذهن والنفس وعطالة الجسم. أن تكون لنا في هذه الحياة قضية وهدف نبيل نكرس جهودنا وطاقاتنا في سبيله، مما يجعل لحياتنا مغزى.
______
*المصدر: جريدة عُمان