*محمود شقير
خاص ( ثقافات )
الحلقة الثانية
1
لم أزرها سوى مرة واحدة أثناء إقامتها في الزرقاء. لو أنني ذهبت إليها مرة أخرى، وسألتها انطباعها عن المدينة التي عاشت في أحد أحيائها ذي البيوت المتلاصقة. لم أذهب، فهل كنت مشغولاً إلى هذا الحد؟ أم أنني كنت أؤجل الأمر إلى أن تحل عطلة المدارس الصيفية، فأتخفف من دوامي في المدرسة ومن ثم أذهب إلى بيتها لأقيم عندها بضعة أيام؟ لم أذهب، ربما لهذا السبب أو لغيره.
حياتها في المدينة ظلت سراً مكتوماً بالنسبة لي. والزرقاء من وجهة نظرها ظلت ملكاً لها وحدها. والزرقاء لم تكن من وجهة نظري مدينة مثل باقي المدن. إنها تجمع بدو كرماء قادمين من البادية، وفلاحين قادمين من الحقول، مستعدين لاستقبال الضيوف في كل الأوقات. ولا أذكر أنني رأيت فيها فندقاً واحداً. فلماذا الفنادق والناس يأتون إلى أقاربهم للنوم في بيوتهم؟ وإن لم يكن لهم أقارب في المدينة، فإن بوسعهم البحث عن معارف لهم، فإن لم يكن لديهم معارف في المدينة، فإنهم لن يعدموا من يقبل استضافتهم في بيته من باب الكرم وإيواء الضيوف.
جئت أول مرة إلى الزرقاء العام 1960. لم يكن لي أقارب في المدينة ولم تكن أي من أخواتي فيها. ولم أكن تعرفت إلى زوجتي وأهلها في بلدة صويلح. جئت إلى عمان من أجل السفر إلى دمشق للتسجيل في جامعتها. نمت ليلة في بيت أشخاص لهم صلة قرابة مع أمي (كانت في عمان فنادق عديدة، إلا أن التقليد القروي دفعني إلى تجنب النوم في الفندق، ربما من باب تقليل النفقات، وربما انصياعاً لطغيان هذا التقليد الذي لا يعني الحرج من النوم في بيوت الأقارب والمعارف والأصدقاء)، وفي الليلة التالية ذهبت أنا واثنان آخران من أبناء القرية التي عملت فيها مدرساً في ريف رام الله، إلى مدينة الزرقاء للمبيت في بيت شيخ من عائلة معروفة في القرية، وهو يمتهن الطب الشعبي ويعتاش مما تدفعه له نسوة يأتين إلى بيته، لغرض التداوي للحبل أو للحصول على أحجبة ضد الحسد أو لجلب الحظ وتليين قلوب الأزواج. وكنت على علاقة طيبة مع أبناء عائلته. رحب بنا، وقدم لنا طعام العشاء. نمنا في بيته معززين مكرمين، وفي الصباح تناولنا طعام الفطور، وغادرناه شاكرين له فضله وكرمه، وهو يستعد ليوم جديد يستقبل فيه مريضاته ومرضاه.
كانت أمينة آنذاك في الخامسة عشرة من عمرها، ولن تذهب إلى الزرقاء إلا بعد خمس سنوات.
2
لا أذكر من طفولتها إلا نتفاً متناثرة. مرت طفولة أمينة من أمام عيني، مثلما مرت طفولة أخواتي الأخريات، دون أن يرسخ شيء كثير في ذهني عن تلك الأيام.
أذكر أننا اعتدنا النوم متجاورين حينما لا تكون جدتي لأمي في بيتنا. كانت لدينا دبّية (طولها أربعة أمتار وعرضها متران أو أقل قليلاً، لها هدب كثيف، وهي منسوجة من صوف الأغنام) ندخل أنا وأخواتي تحتها في ليالي الشتاء وننام. أنام في الطرف القصي وفي ذلك امتياز، حيث بوسعي أن أستفيد من الفراغ الممتد من جهة اليسار. أمينة تنام إلى جواري من جهة اليمين، تنحشر بيني وبين بقية أخواتي. أتجاذب أطراف الدبية مع أختي الكبرى التي تنام في الطرف المقابل لي. هي تريد أن تستأثر بأكبر مساحة منها، وأنا أريد أن أستأثر بأكبر مساحة. ونحول الأمر إلى مزاح صاخب، تساعدني أمينة في الجذب، ولا يهدأ صخبنا إلا بعد تحذيرات أمي، التي تدخل إلينا غاضبة من الباب الذي يفصل غرفتنا عن الغرفة التي تنام فيها هي وأبي. تطلب منا أن نلتزم الهدوء. ثم تغادرنا بعد أن تخمد الضجة وننام.
لم أعد أذكر إن كنت جلست مرة لتناول الطعام معها. أذكر أنني اعتدت تناول الطعام مع أبي. نأكل طعامنا وحدنا أنا وأبي، وأمي وأخواتي يأكلن الطعام وحدهن. إنه تقسيم ظالم، إلا أننا مارسناه دون أي إحساس بأننا نظلم غيرنا (هل كان انتسابي للحزب احتجاجاً على هذا التقسيم الظالم؟ أم كان مجرد انسياق وراء احتمالات السياسة؟ ربما هذا وذاك). كان أبي يأكل وحده في بعض الأحيان. طبخت له أمي ديكاً بلدياً ذات يوم. فاحت الرائحة في أنحاء البيت، وامتدت نحو الخارج. منيت نفسي بوجبة شهية. خرجت إلى اللعب أنا وأمينة وعدد آخر من أولاد العائلة وبناتها. بعد ساعة عدت إلى البيت ولم يكن تبقى من الديك سوى قطع صغيرة بيضاء. أبي التهم الديك بتواطؤ تام مع أمي، ربما لأنه كان خارجاً من المستشفى، وأمي تريده أن يسترد عافيته. يومها شعرت باستياء من أبي لأنه لم يتذكرني وهو يلتهم لحم الديك. ولم أعرف إن كانت أمينة شعرت باستياء.
كانت تخرج معي إلى اللعب. تخرج حافية القدمين، وأخرج أنا حافي القدمين. ترتدي فستاناً ملوناً بسيطاً وتخرج إلى اللعب. لها عينان عسليتان وشعرها ينسدل على كتفيها. نخرج إلى ساحة بئرنا الغربية، يأتي ابن عمي ومعه أخوه، يأتي نفر من أولاد العشيرة، كل ولد يأتي ومعه أخوه. أنا آتي إلى اللعب ومعي أختي. ليس لي أخ يخرج معي إلى اللعب، ويساندني إذا ما تشاجرت مع الأولاد. كان هذا الأمر يؤلمني. أغضب أحياناً من وجودها معنا نحن الأولاد. أغضب منها وأطردها لكي تعود إلى البيت أو لكي تذهب وتلعب مع البنات. في بعض الأحيان نلعب نحن الأولاد والبنات بشكل مختلط، فيكون وجودها معي مبرراً.
لا أذكر شيئاً من كلامها في الطفولة. لا أذكر شكل ضحكتها، لا أذكر شيئاً من مطالبها. أعتقد أنها عاشت طفولتها دون مطالب، أو هذا ما تصوره لي أنانيتي. ولعلّ التمييز الذي مارسه أبي وأمي في البيت لصالحي، هو المسؤول عن امحاء طفولتها من ذاكرتي. ما حاجتي إلى تفاصيل طفولتها ما دامت محكوماً عليها بأن تحيا في الظل بعيداً من مجال امتيازاتي؟ وهي امتيازات طفيفة على أية حال.
لا أذكر إن كانت مرضت في طفولتها. لا أذكر متى أخذتها أمي إلى المدينة لتطعيمها ضد الأمراض السارية. لا أتذكرها وهي على صدر أمي ترضع الحليب من ثديها (أمي قالت إنها أرضعتها سنة مثل بقية أخواتها. قالت إنها أرضعت كلاً من أبنائها الذكور سنتين كاملتين)، لا أتذكر إن كان أبي حملها بين ذراعيه وراح يهدهدها. لا أدري إن كان رفعها في الهواء ومن ثم تلقفها بيديه وهي تضحك من بهجة وفرح. لم يكن لطفولتها في طفولتي سوى حضور طفيف.
كنت أراها وهي تلعب مع البنات. لها حضور مميز بينهن، سيتعزز هذا الحضور حينما تذهب إلى المدرسة، ستظهر قوة شخصيتها وهي تلميذة، ما سيجعل المدرسات يحببنها ويضعن ثقتهن فيها. تلعب مع البنات وتبدو أقدر منهن على ابتداع أساليب اللعب، وعلى التحكم في مسار كل لعبة. تجلس مع صاحباتها وتنهمك معهن في صنع عرائس من قماش، يصنعن العرائس ويحملنهن إلى صدورهن، كأنهن يتدربن على الأمومة التي سوف تأتي بعد زمن.
في أحيان أخرى، كانت تتسابق مع صاحباتها وقريباتها، يركضن حول البيوت ثم ينطلقن نحو ساحة بئرنا الغربية، ولا يندر أن تأخذ كلبنا ذا الشعر الأبيض المرشوق ببقع حمراء، حماسة مفاجئة فيركض مع الراكضات، ثم لا تلبث العدوى أن تنتقل إلي وإلى غيري من الأولاد، فنظل نعدو أمام البنات وخلفهن حتى نفسد لعبتهن، ونحكم عليها بالانتهاء.
3
ليتها كانت هناك في الزرقاء، لكي تضحك مني وأنا أذهب إلى عرس لا أعرف من أهله أحداً. التشابه بين الشوارع والأحياء، أو ربما ضعف رسوخ المدينة في ذاكرتي، قادني إلى عرس لم أكن أقصده. سلمت على أهل العرس وجلست، وبعد دقائق سألت: أين محمد؟ (أقصد العريس). قال لي عدد من أقاربه بصوت واحد: إنه عند العروس. ولم أفرط في طرح الأسئلة، ولم يسألني أحد أي سؤال.
كان العريس هو محمد أبو الوفا العائد من بيروت بعد خروج المقاومة الفلسطينية منها. دعاني إلى عرسه فذهبت إليه. وصف لي الحي والبيت وذهبت. وتصادف أن كان عرس آخر في الحي. وفيما بعد تأكد محمد من أنني ذهبت خطأ إلى العرس الآخر، حينما سألني عن شكل علبة الحلوى التي قدمها لي أهل العرس، فإذا هي مختلفة عما كان يقدمه هو وأهله لمن يأتون إلى عرسه. فليتها كانت هناك، لكي تعرف ما فعلته المدينة بي، ولكي تضحك قليلاً.
وليتها كانت هناك لكي تضحك وأنا أقود موكب الخطوبة إلى بيت عمي خطأ. انطلق الموكب من مدينة صويلح حيث يقيم أهل زوجتي. انطلق الموكب إلى مدينة الزرقاء ووجهته بيت عمي، وذلك لكي يخطب أخو زوجتي، ابنة عمي القادمة من الكويت قبل أشهر معدودات. وكان يتعين علي أن أقود سيارتي في مقدمة الموكب لكي تتبعني بقية السيارات الذاهبة إلى حفل الخطوبة. دخلنا الزرقاء، وهناك وقع الالتباس. فأنا لا أعرف سوى طريق واحد يقود إلى بيت عمي. وقد التبس علي الشارع الفرعي الذي يتعين علي أن أدخل نحوه من الشارع الرئيس ذي الاتجاهين. لم أنعطف نحو اليسار في اللحظة المطلوبة، ما اضطرني إلى مواصلة السير ومن خلفي الموكب كله، في الشارع الرئيس إلى منتهاه. كان الشارع مزدحماً بالسيارات، ولم ينتبه أحد في الموكب إلى أنني ارتكبت خطأ إلا حينما انعطفت بسيارتي عند آخر الشارع وعدت في الاتجاه الآخر من الشارع نفسه، إلى حيث كنا عند مدخل المدينة.
وصلنا بيت عمي متأخرين نصف ساعة عن الموعد المحدد بسبب هذا الخطأ غير المقصود. وكانت مادة الحديث أثناء اجتماعنا في البيت، هي هذا الخطأ الذي قاد إلى هذا التأخير، ومن المسؤول عن ذلك؟ أنا بطبيعة الحال. فليتها كانت هناك لكي ترى كيف تهزأ مني هذه المدينة.
وليتها كانت هناك، لكي تبكي قليلاً على عمي الذي مات في الزرقاء ودفن في مقبرتها. العم غادر القدس أواخر الخمسينيات من القرن الماضي. دفعته لقمة العيش إلى مغادرة المدينة هو وأسرته. عمل ممرضاً في مستشفى أريحا الحكومي بضع سنوات، ثم سافر إلى الكويت ليعمل في مهنة التمريض سنوات طويلة. بعد تلك السنوات، عاد ليقضي شيخوخته في الزرقاء بعد أن أصبح له فيها بيت وأولاد وأحفاد.
حينما مات، لم تكن أمينة هناك.
_____
*روائي وقاص فلسطيني