*آسيا رحاحليه
خاص ( ثقافات )
يبدو أنك لا تقرئين التاريخ .. قال لي أخٌ صديق، على هامش محادثة وديّة راقية .. انتهت المحادثة وبقيت أفكّر في قوله .. وانتبهت إلى أنّني فعلا لم أقرأ كثيرا في التاريخ لسبب بسيط هو أّنني لم أحبه، أبدا، لا هو ولا أخته الجغرافيا، حتى أنّ أعلى علامة كنت أتحصّل عليها في مادة التاريخ، في الثانوية، كانت عشرة من عشرين وكان أستاذي الفلسطيني في ذلك الزمن، ذكره الله بكل خير،
وهو يمنحني ورقة الإجابة، يعلّق قائلا ” لقد منحتك المعدّل من أجل الأسلوب وليس المعلومات .. ” الكتب الوحيدة التي لها علاقة بالتاريخ، وشدّت انتباهي وقرأتها بشغف في سن مبكّرة، كانت ألف ليلة وليلة وكتب جورجي زيدان .. / ربما بسبب بنائها القصصي واعتمادها على الحكي / ..قرأت جميع قصص زيدان تقريبا، مع أنّي عرفت بعد ذلك أنه متأثّر بالمستشرقين وأنّه زوّر التاريخ الإسلامي، لكني لم أهتم كثيرا، أولا لأني قد قرأتها وانتهى الأمر وكنت صغيرة، وثانيا لأن ليس المستشرقون وحدهم من يزوّرون تاريخنا، فنحن نفعل ذلك أيضا وببراعة . قول صديقي جعلني أفكٍّر كثيرا في أمر القراءة والكتابة والعلاقة بينهما ..و هو موضوع قد أسال ومازال الكثير من الحبر ..كان أستاذي في الثانوية يقول لنا ..” اقرؤوا .. اقرؤوا : التاريخ، الفلسفة، السير، علم النفس، اقرؤوا الروايات العالمية.. “
و هو محق طبعا لأنّ الكتابة لا تأتي من فراغ أبدا،لابد أن يمتلئ الكأس لكي يفيض، وأذكر هنا قول الانجليزي ” وِل سِلف ” في موضوع كتابة القصة تحديدا.. ( …هذا إذا كنت قرأت كمَّاً هائلاً من القصص سابقاً، أما إذا لم تكن قد فعلت ذلك، فلا شأن لك بكتابة القصص ).. في الجامعة تخصّصت في اللغة الانجليزية / لازلت أتذكّر صداع المحاضرات عن تشومسكي /.. لم أتخصّص في الأدب العربي ولا النقد ولا أملك الكثير من المعلومات عن المذاهب الفكرية والمدارس الأدبية ولا عن الحداثة التي لا ألتفت لها كثيرا خاصة التي تتبنّى الغموض وتؤيد إغلاق النصوص بالقفل والمفتاح باعتبار ذلك مؤشرا على الإبداع والتميّز والجودة ..
و أنا أكتب الآن، تذكّرت أغنية شهيرة .. ” في مهب الريح ” للمغني والشاعر الأمريكي روبرت تسيمرمان ( Bob Dylan) :
كم من الطرقات ينبغي للرجل أن يقطعها قبل أن ندعوه رجلاً؟
/ how many roads must a man walk before we can call him a man /
ووجدتني أتساءل ..نعم .. وكم من الكتب ينبغي للكاتب أن يقرأها قبل أن ندعوه كاتبا أو أديبا؟
تصوّرت لو أنّ أحدهم يكدّس مجموعة من الكتب ويقرّر في نفسه ” سأقرأ كل هذه وحين أنتهي منها سأكتب وسأصبح كاتبا وأديبا !” .. ليت الأمر بهذه البساطة ..إنّ فعل القراءة نفسه ليس أمرا يسيرا.. أقصد القراءة الواعية الذكية، فما بالك بالكتابة .. الأمر إذا أكبر من هذا وأعمق، وأكثر تعقيدا حتى بالنسبة للكاتب نفسه . اليوم لا أستطيع أن أقول بأنّي على اطّلاع بكل ما يحدث في الساحة الثقافية، آخر المستجدات، الإصدارات، الحوارات، الترجمات، المناهج النقدية الحديثة، وآخر الروايات والدراسات / أكيد بسبب كسلي عن القراءة ومحيطي المنغلق، وندرة التفاعل مع عالم الأدباء .. حتى الأديب الياباني ” موراكامي ” المرشّح لنوبل، لم أكن أعرف بوجوده.. ولولا أخبار هذه الجائزة لكنت ظننت أنّه الأخ الشقيق لــ ” ماروكو ” في الفيلم الكارتوني ! كنت ولازلت أقف أمام المصطلحات الأدبية الجديدة الغريبة حائرة، وكنت أحسب أنّ السميولوجيا مثلا لها علاقة بالجيولوجيا ! وفقط مؤخّرا، وبفضل ” جوجل ” بدأت آخذ فكرة عن معنى التحليل السيميائي للنصوص الأدبية . صحيح، لم أقرأ كثيرا في السنوات الأخيرة حيث سقطتُ في مثلث برمودا / التدريس / وكرّست له كل وقتي وطاقاتي، ولكنني الآن أكتب ..أكيد من وحي الموهبة الحقيقية التي لا تموت مهما تعثّرت ..من مخزون قراءاتي الكثيرة في شبابي وباللغات الثلاث، العربية والفرنسية والإنجليزية / لقد قرأت كثيرا فعلا .. عن الحب والحرب، عن الطلاق والزواج، عن الإيمان والكفر، عن المرضى نفسيا والشواذ، عن العباقرة والمجانين، عن الفقراء والمقهورين، عن الشعراء، عن الملائكة والشياطين ..عن الإنسان في كل حالاته / ومن وحي تجاربي في الحياة وعلاقاتي بالناس ومعلوماتي في علم النفس والفلسفة ولغتي التي أدنى ما أستطيع أن أقول عنها أنها سليمة جدا .. هكذا صرت أكتب وسأظل أكتب .. الشعر والمقال والقصة القصيرة.. وليغفر لي التاريخ .
______
*أديبة جزائرية.