نظرة في المقامة الأصبهانية للهمذاني


*صلاح نيازي


حدّث عيسى بن هشام، أنه كان بأصبهان وهو على أهبة السفر إلى الري، وبين توقعه لقافلة الرحلة، وترقبه لها في كل آن، فإذا بمنادٍ يدعو إلى الصلاة، فأصبحت إجابتها فرضاً. يقول ابن هشام : “فانسللت من بين الصحابة، أغتنم الجماعة أدركها، وأخشى فوت القافلة أدركها.”
كذا ومنذ البداية، أحكم الهمذاني عنصر التشويق والإثارة بخلق آلة الشد والجذب بين فرض الصلاة، وبين الوقت، أي العجلة للحاق بالركب. وحتى يقطع على بطله عيسى بن هشام خط الإنسلال والهروب، جعله يتقدم إلى “أول الصفوف” ابتدأ الصراع عملياً مع الوقت، على الوقت، حينما تقدم الإمام “وقرأ قاتحة الكتاب بقراءة حمزة، مدة وهمزة” يقول الشارح: أراد أن الإمام كان يطيل في القراءة ويمد بها صوته، فيأخذ وقتاً طويلاً “فيشتغل بالي وتعتريني الهموم والخوف من أن تسافر القافلة”.
ثم تبع الإمام الفاتحة، سورة الواقعة، فما كان من عيسى بن هشام ” إلا السكوت والصبر، أو الكلام والقبر، لما عرفت من خشونة القوم في ذلك المقام، أن لو قطعت الصلاة دون السلام”.
إذن يئس عيسى بن هشام أو كاد من السفر . وهنا ، وربما نتيجة لما شعر به من إحراج وتذمر، التفت إلى الإمام، فوجد طقوسه مختلفة عليه وقال: “ثم حنى قوسه للركوع، بنوع من الخشوع، وشرب من الخضوع لم أعهده من قبل، ثم رفع رأسه ويده وقال : سمع الله لمن حمده وقام ، حتى ما شككت أنه نام، ثم ضرب بيمينه واكبّ لجبينه ثم انكبَّ على وجهه”.
إن تراكم هذه الصورة التفصيلية، التي ظاهرها بريء، وباطنها الإحباط والألم، لا تختلف عن ضحك في بطن مجروح. وهي إلى ذلك تفضح حالة ابن هشام نفسه، لأنه مجرد تتبع حركات الإمام بدقائقها، فذلك ينم على أنه لم يكن مستغرقاً في صلاته ومنقطعاً لها. وهنا ندرك أن العجلة للحاق بالركب أهم. أخذ عيسى بن هشام يتحين الفرصة للإنسلال قائلاً : “ورفعت رأسي أنتهز فرصة، فلم أر بين الصفوف فرجة فعدت إلى السجود، حتى كبّر للقعود إلى الركعة الثانية “أطال بها إلى يوم القيامة واستنزف أرواح الجماعة”.
وكما هو واضح، لم يصف ابن هشام الإمام ولا حركاته في هذه القراءة الثانية، وكأنما أطبقت عليه غيبوبة، فانسلبت حواسه إلى حين، كالذي ضاق حيلة، فقنط عاجزاً على مضض. ويبدو أن ابن هشام لم يصحُ إلا على الإمام وقد “فرغ من ركعته، وأقبل على التشهد بلحييه (عظم الحنك الذي عليه الاسنان ) فمال إلى التحية بأخدعيه وقلت “قد سهل الله المخرج، وقرّب الفرج”.
يظهر أن استعمال المثنى هنا (ركعتيه، لحييه، أخدعيه )أفاد أيضاً أن عيسى بن هشام عانى من مصيبته مرتين.
لم يكتف الهمذاني، بما أنزل على صاحبه من تأخر، فكرب، فهمّ، بل جعل رجلاً آخر يقوم بعد كل ما حدث ويقول “مَنْ كان منكم يحبّ الصحابة والجماعة فليعرني سمعه ساعة”.
لو ألقينا نظرة أخرى على هذه المقامة لرأينا أن الهمذاني، شغل نفسه بعنصرين أساسيين: الحركة والزمن وأصعب ما في العلاقة بينهما، أنه كلما اشتدت الحركة بطؤ الزمن. هذه العلاقة العكسية هي مصدر الإثارة الحقيقية التي لا تجعل من القارئ متفرجاً، تقع الأحداث بالصدفة وخارجه، بل مشاركاً فعلياً فيها، وهذا من أول مبادئ الأدب الحقيقي..لنأخذ أولاً الحركة ونتبين كيف عالجها الهمذاني. هناك ثلاث حركات في هذه المقامة. الحركة الأولى، هي قرب رحيل القافلة وقلقه المستميت على مرافقتها، فحين يقول عيسى بن هشام: ” كنت بأصبهان، أعتزم المسير إلى الري، فحللتها حلول الفيّ، أتوقع القافلة كل لمحة، وأترقب الراحلة كل صبحة” فإنه بكلمة ألفيّ (الظل أي التنقل من حال إلى حال)، فإنما وصف نفسه باللا استقرار وبضرورة السفر. وبكلمة كل صبحة أي في كل آن، فإنه إنما دلل على مدى تحرقه للرحيل.
تختفي هذه الحركة الأولى، حالما يلبّي ابن هشام نداء الصلاة ولكنها وإن اختفت من على مسرح الأحداث، إلا أنها القوة الخفية التي ستؤثر في مجمل الأحداث اللاحقة، ولولاها، لما كانت المشاهد التالية، إلا يومية عادية تمر دون أن تأخذ معاني أوأهمياة إضافية.
من الجدير بالذكر، أن القوى الخفية في مسرحيات شكسبير، ومنها موت الملوك هي المصدر الرئيسي والمحرك، لكل الشخصيات والأحداث الدائرة على المسرح.
الحركة الثانية: هي مجموعة الحركات الطقوسية التي قام بها الإمام. وحتى يزيدها الهمذاني بطئاً، فقد أرفقها بالصوت وقراءة حمزة والتكرار، تمطيطاً وتمديداً وإطالة. بالإضافة إلى ذلك فإن هذه الحركة جعلت الزمن داوياً متورماً يراوح في مكانه وكأنه زمن متجمد. وهذه الحركة، على براءة صاحبها الإمام ـ مؤذية لمنْ هو يسابق الزمن.
الحركة الثالثة مقيدة تعتمل في داخل عيسى بن هشام، وتجهد في إيجاد منفذ له. فهو لا يستطيع إلا “الوقوف بقدوم الضرورة، على تلك الصورة، إلى انتهاء السورة”، وأنه وإن كان قد فكر بالهرب، إلا أنه لم يقو عى ذلك لأنه كان في أول الصفوف، أي محط النظر. حتى حينما انكب القوم في السجود، لم ير “بين الصفوف فرجة” بالإضافة فهو مهدد بالقتل، إن أقدم على فعلة كهذه، وأُمسك متلبساً بها.
يمكن بالطريقة نفسها تقسيم الزمن في هذه المقامة إلى ثلاثة أقسام، وهي رغم تزامنها الواحد، إلا أنها مختلفة متضادة:
الزمن الأول : وقت الرحيل ، وهو رغم حياديته ، يقرر نوعية الزمنين الآخرين.
الزمن الثاني : هو ساعة الدخول في طقوس الصلاة، وهو زمن لولا عجلة عيسى بن هشام، لمر كبقية الأيام من دون أية علاقة له بالزمن الأول أي الرحيل.
أما الزمن الثالث فهو الذي يعتمل في صدر عيسى بن هشام وقد ظهر بصيغتين يائستين مملوءتين بالقلق. صيغة إيجاد توافق بينه وبين زمن الرحيل، وصيغة إلغاء أو في الأقل اختزال الزمن الثاني البطيء (زمن الطقوس ) وقد جعل المؤلف ذلك مستحيلاً وعقوبة اختزاله الموت.
بهذه المعادلة الصعبة من الأزمان الثلاثة المتزامنة، جعل الهمذاني قارئه طرفاً فعلياً مسؤولاً عن اتخاذ موقف، بل فيه ما في عيسى بن هشام من “الغم المقيم”.
_______
*المصدر: المدى

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *