«فيلا توما».. قبل الحرب وبعـدها



*علا الشيخ


في الوقت الذي هب فيه الشارع الفلسطيني من شماله إلى جنوبه في الأحداث الحالية في فلسطين، وفي الوقت الذي عادت الشاشة تركز على سكان فلسطين التاريخية في الناصرة وسخنين والجليل، مؤكدين أنهم في الهم وطن واحد، إلى جانب أهالي القدس والضفة الغربية وغزة، حتى لو أجبرتهم الظروف أن يحملوا جوازات سفر من احتل أرضهم وبيوتهم مقابل ألا يتركوا الأرض، يعود فيلم «فيلا توما» لمخرجته الفلسطينية سهى عراف ابنة الجليل المحتل إلى الواجهة، بعد أن تم عرضه أخيراً في الدورة الخامسة من مهرجان مالمو للسينما العربية، وتسبب في بعض اللغط من قبل ضيوف المهرجان على عدم أحقية الفيلم بالانتساب إلى الوطن العربي، وهي التي عرضته سابقاً في مهرجان فينيسيا تحت اسم «الفيلم الفلسطيني»، ما شكل لها مشكلات كبيرة مع المؤسسات السينمائية «الإسرائيلية»، واستطاعت عراف أن تثبته على شاشة فينيسيا بأنه «فيلم فلسطيني» وبناء عليه دارت به مهرجانات عالمية عدة، حاملة هم هويتها في حقيبتها مترجمة اياه عبر نص فيلم من كتابتها وإخراجها، ومن بطولة نسرين فاعور، علا طبري، شيرين دعيبس وماريا زريق.
كان لابد من شخصية بديعة في فيلم «فيلا توما» أن تدخل الفيلا المنسلخة عن الواقع، وعن كل ما يدور من حولها كي تعيد النبض فيها، وتعيد ترتيب ما فات من قرار اتخذته العمات الثلاث بأن يمارسن حياتهن وكأنهن في حقبة ما قبل الحرب.
عبارة قبل الحرب وما بعدها متجسدة تماماً في شكلهن الخارجي الذي يوحي بانتمائهن إلى عائلة أرستقراطية، من خلال أزيائهن وطريقة تسريحة شعرهن، أما ما بعد الحرب، يتجسد في نظرة عيونهن التائهة والحزينة، وريبيتهن وخوفهن الدائم، وعدم قدرتهن على صنع ابتسامة على وجوههن، تأتي إليهن إلى تلك الفيلا الشامخة في مدينة رام الله ابنة شقيقهن الوحيد الملعون من قبل العائلة لزواجه من مسلمة، هذه الابنة واسمها بديعة التي عاشت طفولتها في ميتم بعد وفاة والديها، ونضجت كفاية إلى درجة ضرورة رحيلها، من مكان اعتادته رغماً عنها، إلى مكان هي تدرك أنه لن يحتمل وجودها بسبب الذكريات التي ستعيدها إليه، ذهبت إليهن ببنطال الجينز والشعر المتطاير، الذي لا يتناسب مع الشكل الذي أرادته العمة الكبيرة جولييت المسيطرة على المنزل وقوانينه وحتى على حياة شقيقتيها، ذهابها إليهن ليس مصادفة بل ضرورة أرادت عراف من خلالها إسقاط كل شيء على آلية التحول وضرورتها كي يبقى الوطن.
حسناً.. نحن أمام عائلة تصر على أنها تعيش في زمن الطبقية، تقتات مما تنتجه أرضها، تشعر بأن هذه العائلة تعيش في حقبة ولى زمنها وانتهى، إلى أن تجد العمات الثلاث وابنة شقيقهن يمشين في شوارع المدينة، لتدرك مدى الفجوة بين «فيلا توما» التي يعشن فيها، وبين الواقع الذي يعشيه الفلسطيني، بديعة ابنة الأخ الملعون، تحاول عماتها طوال الوقت تعليمها فنون اللياقة والإتيكيت، بدءاً من تغيير طريقة ملابسها، ومروراً بدروس البيانو واللغة الفرنسية، وليس انتهاء بطريقة تقديم نفسها، خصوصاً لسيدات المجتمع اللاتي تلتقيهن العمات فقط في مناسبة الزواج أو العزاء.
لكل عمة من العمات حكاية، مرتبطة بالمكان والزمان، فجولييت العمة الكبرى قررت فسخ خطبتها بعد أن توفت والدتها كي تعتني بالمنزل وشقيقتيها، عدم الشعور بالأمان هو الذي حولها للهيئة التي تظهر بها، فقدان الأم يعني فقدان الحضن يعني فقدان الوطن، هي متربصة دائماً ومتوجسة من أي غريب عن ديانتها حتى لو كان الرجل المسن الذي خدمهم طويلاً (أبوحسين)، لكن هذه القسوة تبددت بلحظة لم تتكرر في الفيلم إلى ابتسامة خجولة عندما طبعت بديعة قبلة على خدها.
أما أنطوانيت العمة الوسطى، لا يمكن تجاهل الأداء الذي قامت به من شدة الحرفية فيه، بكل تفصيل وتعبير خرج منها سواء بلغة جسدها أو بحالات الانهيار العصبي التي تجتاحها، هي تؤكد لنفسها طوال الوقت أنها أكثر حظاً من شقيقتيها، لأنها تزوجت، لكنك كمشاهد تدرك أن حظها كان مع رجل بعمر جدها، مات بعد زواجه منها بيومين، تهرب انطوانيت كل ليلة إلى غرفتها ترتدي بدلة عرسها وتحلم، وترقص، وتضحك، وتحاكي نفسها، كل هذا ايضاً له علاقة بالخيارات المتاحة التي فرضتها الحرب، هي لم تأخذ الأرض والجاه والصيت فحسب بل أخذت الحرية بالقرار، قرار الأشياء المتعلقة بالحياة.
أما العمة الصغيرة فولييت، هي الأقل وطأة بشدتها من شقيقتيها، ومن الواضح أن رضوخها هو تعبير عن عدم وجود البديل، تلبي ما يطلب منها، وتحاول اظهار نفسها قوية مثلهن، لكن في داخلها حكاية من نوع آخر، لا أحد يعرفها سوى بديعة التي دافعت عنها العمة فولييت كثيراً، وكانت تشكل حالة توازن لها بين الحين والآخر، فولييت عاشقة، ومن الواضح أنها عشقت رجلاً لا يتناسب مع مستوى عائلتها، لكنها متمسكة بحبها له، على الرغم من هجرته إلى أميركا، هذا التمسك بالنسبة لشخصية فولييت، هو الأمل المرتبط بالتمسك بحنين الماضي كي يظل المستقبل أجمل.
جميعهن يعشن في منزل هادئ بأثاثه وطريقة ترتيب الطاولة والصور المعلقة بالحائط، الذي يؤكد أنهن يعشن في زمن غير الزمن، تقرر العمة الكبرى جولييت أن تزوج بديعة للتخلص من همها، فلا تترك عرساً أو قداساً أو عزاء حتى وتذهب إليه كي تعرض بديعة وتحيك حولها قصة خيالية بأنها كانت تعيش في فرنسا، لكن العمة انطوانيت تؤكد لأهل العريس الوحيد الذي دق بابهن أن بديعة جاءت من ميتم.
أداء الممثلات في الفيلم بلا استثناء كان محط إعجاب كثيرين، واستطعن بالفعل تجسيد النص الذي بين أيديهن، والتماسّ مع ادارة مخرجة تدرك بالفعل محط القوة في كل واحدة منهن، فاستطاعت اظهار أجمل ما يمكن من طاقتهن في الأداء المقنع الذي كان حديث مشاهدي الفيلم بعد انتهائه. تستمر الأحداث على هذا «الرتم» الذي لابد أنه بحاجة إلى صخب ما كي يغير مساره ويعيد تركيب تفاصيل الأمور كي تتشكل اللوحة النهائية المرادة منها. تعجب بديعة بالشاب خالد وهو مطرب من مخيم قلنديا، حتى إنها تتحدى جمود عماتها في أحد الأعراس وتتركهن وترقص معه، لتنمو علاقة حب بين الطرفين، يكون فيها خالد هو الأجرأ، يتسلل إلى «فيلا توما»، وهنا تحديداً بداية خرق قانون الفيلا، يلتقي حبيبته بديعة، ويقيم معها علاقة كاملة، ويختفي بعدها، لتكتشف بديعة أنها حامل، تحاول البحث عن خالد دون جدوى، عملية البحث هي التي ستكشف الكثير من حكايات «فيلا توما»، يبدأ بطن بديعة في النمو، وتكشف ذلك العمة انطوانيت، ترفض بديعة الكشف عن هوية الأب، وتبدأ مهمة أخرى للعمات، في تجنب الفضيحة، يطرق بابهن شاب ابن جارة لهن، هارب من مطاردة جنود الاحتلال، هذه الجزئية كانت ضرورية في الفيلم، لتؤكد أن القوقعة التي تعيش فيها نساء «فيلا توما» لا تشبه الواقع المبني على المقاومة من قبل جميع سكان البلاد من مختلف طوائفهم، تدخله العمة وتقرر تزويجه لبديعة، لكنه يعي المخطط ويهرب. والمصادفة وحدها تكشف أين خالد وسبب اختفائه، فقد استشهد وصوره تملأ الشوارع، وهنا تبدأ نهاية الفيلم وتغيير مساره تماماً، حتى في طريقة تعاطي العمات معه، الذي في بطن بديعة ابن خالد المسلم الشهيد، لعائلة متشبثة بديانتها، وطردت يوماً الشقيق الوحيد لهن لأنه خالف هذا العرف، تنجب بديعة طفلاً، لكنها تفارق الحياة، بعد أن استطاعت تغيير المفاهيم الثابتة في فيلا هجرت نفسها بنفسها عن معنى الوطن. في المشهد الأخير الذي يختصر الكثير من الحكاية، تتبدل المواقع وتصبح على رأس الطاولة الشقيقة الصغرى فولييت، التي تتمسك بحبها الضائع أملاً في المستقبل، وإلى جانبها ابن خالد وبديعة في مهده، وهنا اكتملت الصورة صورة الوطن الكامل.
________
*المصدر: الإمارات اليوم

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *