هيكل سليمان.. تقويض الأسطورة





ما الذى يجري في القدس اليوم؟
حكماً أنه لعب بالنار، فالتصعيد في الحرم القدسى الذي يشتمل على المسجد الأقصى وقبة الصخرة وما حولهما لا يجب أن يفاجئنا، فمنذ عدة أسابيع والحكومة الإسرائيلية تتبع نفس النهج الذي سارت عليه قبل نحو عام، وانتهى بصدامات شديدة، وأزمة سياسية عميقة مع الأردن المسؤولة عن المقدسات الدينية الإسلامية في القدس. ففى صباح العيد (عيد الأضحى) اقتحمت الشرطة الإسرئيلية بأعداد كبيرة الحرم، ما أدى إلى إصابة عشرات الفلسطينيين، وإغلاق الحرم أمام المسلمين، وفيما بعد دخل رجال الهيكل إلى الحرم وعلى رأسهم الوزير أوري أريئيل تحت حماية الشرطة، وقد صلى الوزير أريئيل في المكان خلافاً للأوامر، وبسبب ذلك اندلعت المواجهات في شرقي القدس، حيث رشق الفلسطينيون الحجارة وقُتل مواطن إسرائيلي.
ثلاثة هياكل
يستوقفنا هنا لفظة «رجال الهيكل»، والتي تعني أن قضية بناء الهيكل، في موقع وموضع الأقصى المبارك، أضحت فكرة لها رجالاتها، ومنظروها، بل وها هي تتبلور رويداً رويداً بمباركة إسرائيلية، وتحت سمع وبصر رجال الشرطة الإسرائيلية، ما يعني أن المسألة جدية بالنسبة للإسرائيليين… ما الذي يخيف أكثر في هذا المشهد العنصري المتصاعد؟
بالقطع يتطلب الأمر الحديث عن مشروع خطة تقسيم الأقصى زمانياً ومكانياً، بمعنى أن الأقصى الذي كان طوال ألف وأربعمائة عام، مكاناً مقدساً للعالم الإسلامي والمسلمين حول العالم، سيضحي عما قريب ووفقاً لهذا القانون، محل تقاسم لأداء شعائر صلوات اليهود أيضاً بوصفه الأرض التاريخية التي أقام عليها سليمان هيكله من قبل حسب الادعاءات اليهودية، والخطة من دون تطويل ممل أو اختصار مخل، تفيد بتخصيص أوقات معينة لدخول المسلمين، وأخرى لدخول اليهود طوال أيام الأسبوع، حيث يتوجب على المسلمين مغادرة الأقصى على ثلاث فترات صباحاً وظهراً وعصراً.
أما التقسيم المكاني، فيعني تخصيص أماكن بعينها في المسجد الأقصى لكل من الطرفين، وبالتحديد تخصيص مساحة في الجبهة الشرقية من المسجد تشكل خمس مساحة ما يسمى بـ«جبل الهيكل».
ولعل السؤال الأوَّلي والأساسي في هذا السياق، هو: هل هذا المشروع هو البداية الفعلية التي تنشد الوصول إلى بناء هيكل سليمان حتى لو كان الأمر لاحقاً يؤدي إلى المساس بسلامة المسجد الأقصى وهدمه بشكل أو بآخر؟
كم هيكلاً عرفت إسرائيل تاريخياً؟
في وسط الزحام والغبار الناتج عن الفوضى التي تحدثها قوات الاحتلال الإسرائيلي على الأرض يثور تساؤل تاريخي عن الهيكل المنشود، وعن تاريخه مع بني إسرائيل، والشاهد أن هناك في العمق ما لا يعرفه الكثيرون، فاليهود طوال تاريخهم عرفوا ثلاثة هياكل وليس هيكلاً واحداً:
1- الهيكل الأول: هيكل سليمان، وبني لأول مرة في عهد الملك سليمان بن داود، وكان ذلك حوالي عام 1004 قبل الميلاد، وهدم في حوالي 606 – 587 ق.م على يد نبوخذ نصر ملك بابل، حينما سقطت أورشليم في أيدي البابليين.
2- الهيكل الثاني: هيكل زروبابل، وكان بناؤه عام 200 – 150 ق.م، وبمعاونة من بعض أنبياء بني إسرائيل وسمي بهيكل زروبابل نسبة إلى حاكم اليهودية آنذاك، وكان بأمر الملك الفارسي قورش الذي أرجع اليهود من سبي بابل إلى أورشليم ثانية، وقد دمره أنطيوخوس الرابع 175 – 163 ق.م.
3- الهيكل الثالث: هيكل هيرودس، وقد بني الهيكل على يد ملك اليهود في ذلك الوقت هيرودس الكبير ابتداءً من سنة 19 ق.م وظل يُبنى حتى عام 64 بعد الميلاد، ولم يمضِ بعد ذلك إلا 6 سنوات حتى دمره نهائياً القائد الروماني تيطس سنة 70 ميلادية.
هل يعني ذلك شيئاً؟
ربما يفيد القارئ بأنه ليس هناك هيكل بعينه يراد بناؤه، وأن الحديث عن هيكل سليمان هو حديث عن هيكل تاريخي انتهى زمانه والغرض منه، كما أن التدمير المستمر طوال ألفي عام لأقدس المقدسات اليهودية التي كانت لدى الشعب الإسرائيلي يوماً ما، هو إشارة بعينها تفهمها طوائف يهودية فهماً مضاداً لما تود أن تقوم به إسرائيل في حاضرات أيامنا وهو ما سنأتي عليه بالتفصيل لاحقاً.
نظريات يهودية
لماذا يسعى اليهود فى طريق إعادة بناء الهيكل من جديد؟
باختصار شديد لأنه يرمز إلى وجود علاقة بينهم وبين السماء، هذه العلاقة فى نظرهم قد انقطعت منذ عام 70 ميلادية حينما دمر الهيكل الثالث، ومنذ ذلك الوقت توقف تقديم الذبيحة أو الكفارة على الهيكل، أي أن الصلة بين الله تعالى وشعب إسرائيل قد انقطعت.
في هذا الصدد يتذكر المرء ما قاله «بن جوريون» الرئيس الأول لدولة إسرائيل من أنه: «لا قيمة لإسرائيل من دون القدس، ولا فائدة للقدس من دون الهيكل»، وعلى هذا فإن بناء الهيكل يعني استئناف العلاقة اليهودية الربانية، والتى تهيئ الأجواء لعودة «المسيح اليهودي»، حيث إنهم وحتى الساعة لم يؤمنوا بالمسيح عيسى بن مريم.
هل هناك اتفاق إسرائيلي على موقع وموضع الهيكل القديم؟
الشاهد أن كثيرين منهم يقولون إنه يقع حيث تقع قبة الصخرة اليوم، ولهذا يرى غلاة المتطرفين من اليمينيين اليهود، أنه يجب إزاله المسجد، وآخرون يذهبون إلى أن أساساته قائمة تحت زوايا وأركان المسجد الأقصى، ولهذا فإن الأقصى هو الهدف، وبين هذا وذلك تبقى منطقة الحرم بأكملها عنواناً مستباحاً لأعمال الحفر والتنقيب عن آثار الهيكل القديم، وإن لم يحددوا على وجه الدقة، أي هيكل من الهياكل الثلاثة.
والشاهد أن الآراء الإسرائيلية المختلفة تعطي للقارئ خلفية عن الأوهام المسيطرة على حاخامات الأشكيناز اليهود، ففي أوائل الثمانينيات قال «الحاخام غوردن» إن الهيكل كان يقع على الشمال قليلاً من قبة الصخرة.
فيما ثمة نظرية ثالثة تقول: «إن الهيكل كان يقع إلى الشمال من الساحة، وهم يعتقدون أن قدس الأقداس يقع قرب قبة الصخرة. والرأي الرابع يعتبر أن الهيكل قد سبق أن تم بناؤه، على شكل كنيس ضخم في شارع جورج الخامس في غرب القدس. وباختصار المشهد فإن أحداً لا يعرف على وجه التحديد أين كان هيكل سليمان الأول الذي بني منذ ثلاثة آلاف عام، لكن جل الذين يعرفونه تمام المعرفة، هو أنهم يريدون بناء الهيكل، محل الأقصى، بأي وسيلة حتى لو أدى الأمر إلى اشتعال حرب أديان عالمية في المنطقة.
تاريخ عدواني
منذ أن سيطر الإسرائيليون في يونيو 1967 على المدينة القديمة (القدس الشرقية) وهناك مسيرة طويلة من الآلام تعيشها الهوية الإسلامية والآثار والمقدسات الإسلامية، فبداية تذرعوا بحاجتهم إلى مساحة كبيرة للصلاة تجاه حائط المبكى، أو جبل الهيكل كما يطلقون عليه، ولهذا أزالوا بآلياتهم الحي المغربي – الذي سمي كذلك نسبة إلى منطقة بشمال أفريقيا – مما أدى إلى تشريد ما بين 5 و6 آلاف شخص كانوا يعيشون فى هذا الحي…
هل كانت هناك نية لتدمير منطقة الحرم بما فيه الأقصى وقبة الصخرة غداة الخامس من يونيو عام 1967؟
في مذكراته يسجل الجنرال «أوزي ناركيس» قائد المنطقة الوسطى الإسرائيلية في حرب العام 1967 ما نصه: «إنني وقفت بجوار الحاخامات وهم يتلون بعض الأدعية أمام حائط المبكى، بصوت عالٍ يصيحون ويبكون فرحاً وسط تزاحم ضباط وجنود من الوحدات الإسرائيلية العسكرية المختلفة، الذين جاؤوا لمشاهد الحائط وملامسته تبركاً».
في ذلك الوقت ظهر كبير حاخامات الجيش الإسرائيلي الجنرال «شلومو جورين» إلى جانب الجنرال ناركيس وأخذه من يده جانباً وهمس فى أذنيه «أوزي أليست هذه هي اللحظة الملائمة لوضع مائة كيلو غرام من المفرقعات فى مسجد عمر، وقبة الصخرة حتى تتوقف دعاوى المسلمين بوجود حق ديني أو تاريخي لهم في القدس؟»… بماذا أجابه الجنرال ناركيس؟
يقول في المذكرات عينها: «قلت لكبير الحاخامات أرجوك ذلك أمر لا داعي له، إذ سوف يثير الدنيا علينا… المجتمع الدولي وعلى رأسه أميركا… فأميركا لها صداقات كثيرة في المنطقة، ونحن أيضاً لنا أصدقاء في العالم الإسلامي، تركيا وإيران بالذات، وأندونيسيا وباكستان وغيرهم كثيرون، ولكن كبير الحاخامات أصر على إزعاج ناركيس بالقول: «أوزي هذه فرصتك لدخول التاريخ وأنت تضيعها»، فما كان من الجنرال الإسرائيلي النافذ، والذي يدرك أبعاد وتبعات المأساة التي يريد كبار المتطرفين من حاخامات اليهود إحداثها إلا أن جاوبه: «إنني سجلت اسمي في كتب التاريخ بدخول القدس وانتهى الأمر… فما كان من كبير الحاخامات إلا أن أدار ظهره لي ومشى بعيداً».
علوم الآثار
ماذا عن حقائق الآثار والحفريات تجاه رواية الهيكل؟ وما الذي يقوله علماء الآثار شرقاً وغرباً وبخاصة علماء الآثار اليهود تجاه إشكالية الهيكل؟ خذ إليك ما يقوله البروفيسور «يسرائيل فنكلشتاين» رئيس المعهد الأركيولوجي في جامعة تل أبيب، والذي يعرف بأبي الآثار، لصحيفة «جيرو ساليم بوست» الإسرائيلية التي تصدر باللغة الإنجليزية – بحسب رواية دعاء الشريف مدير تحرير مجلة «فلسطين في شهر» الصادرة عن جامعة الدول العربية فى كتابها «تحطيم الأساطير التوراتية» – ما الذي يشير إليه الرجل؟
يقول «يسرائيل فنكلشتاين»: «لقد أثبت البحث الأركيولوجي في السنوات الأخيرة، أنه لم يكن هناك شريحة من اليهود يعرفون القراءة والكتابة، ومن يقول اليوم بالاعتماد على الوثائق فإنه يخدع نفسه»، وقد اشترك مع المؤرخ «نيل سيلبرمان» في دراسة نشرت لهما عام 2006 بعنوان «داود وسليمان: البحث عن الكتاب المقدس… الملوك وجذور التقاليد الغربية»، ومن خلال هذه الدراسة يؤكد «فنكلشتاين» فيما يتعلق بالهيكل «أنه لا يوجد أي شاهد أثري يدل على أنه كان موجوداً بالفعل»، ويضيف أن علماء الآثار لم يعثروا على أي أثر لخراب معبد، ولا مملكة متألقة لسليمان، ولا أي شيء آخر.
ولننتقل إلى عالم آثار آخر وهو العالم «رافاييل غريبنرغ»، والذي يعمل في التدريس والكتابة عن الآثار والمجتمع والسياسة في علم الآثار في القدس القديمة، وقد نقلت صحيفة «جيروساليم بوست» عن «رافاييل غرينبرغ» قوله مؤخراً: «كان من المفترض أن تجد إسرائيل شيئاً هناك، فقد واصلت الحفر لمدة ستة أسابيع، غير أن الإسرئيليين في مدينة داود بحي سلوان بالقدس، يقومون بالحفر دون توقف منذ عدة أعوام ولم يعثروا على شيد».
أما البروفيسور «يوناثان فرارحي» وهو عالم آثار مستقل، عمل سابقاً مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية فذهب إلى القول إن «جمعية إلعاد» اليمينية اليهودية لم تعثر حتى على لافتة مكتوب عليها مرحباً بكم في قصر داوود، برغم أن الموقف كان محسوماً لديهم في ذلك الشأن، كما لو أنهم يعتمدون على نصوص مقدسة لإرشادهم في عملهم».
فيما عالم الآثار الإسرائيلي «مائير بن دوف» فقد فجر الأيام الماضية قنبلة دوت صدى في المنطقة حيث كشف النقاب عن أنه لا يوجد آثار لما يسمى بجبل الهيكل تحت المسجد الأقصى، مناصراً بذلك الأصوات السابقة التي كشفت عن ذلك ولا سيما من علماء الآثار الإسرائيليين بقسم التاريخ بالجامعة العبرية، وفي لقاء مع صحيفة «القدس» تحدث مائير دوف قائلاً: «في أيام النبي سليمان عليه السلام كان في هذه المنطقة هيكل الملك الروماني، وقد قام الرومان بهدمه، أما في العهد الإسلامي فلم يكن هناك أثر للهيكل، وفي العهد الأموي بني المسجد الأقصى المبارك، ومسجد قبة الصخرة المشرفة، وأشار عالم الآثار الإسرائيلي إلى أن منطقة الحرم القدسي الشريف كانت على مستوى مختلف مما هي عليه اليوم، فعبر ألفي سنة لم تكن تلك المنطقة بنفس المستوى من التضاريس فمثلاً هيكل الملك هيرودس الروماني كان بمستوى أعلى من مستوى الصخرة المشرفة اليوم..
هل تتوقف القراءات في هذا الشأن؟
بالقطع لا، ذلك أن إحدى الدراسات العلمية الحديثة تذهب إلى أن الهيكل الذي حاول داوود بناءه، ثم بناه ابنه سليمان، لم يكن سوى الهيكل اليبوسي نفسه، الذي بناه ملكهم «ملكي صادق»، والذي كان الغزاة يهدمونه أو يحرقونه في العهد الإسرائيلي، بسبب لجوئهم إليه وقت الحصار، أي أنه كان عند الإسرائيليين بمثابة قلعة حرب يفرون إليها لحصانتها وليس لما فيها من قداسة.
والحديث يطول في هذا السياق غير أنه يبقى هناك علامة استفهام مهمة جداً: هل يجمع كل يهود العالم على فكرة حتمية بناء الهيكل وهدم الأقصى أم أن الشعب اليهودي الذي عاش الدياسبورا عبر ألفي عام مختلف في هذه الجزئية كاختلافه في الكثير جداً حول قضايا تاريخية وآنية يهودية.
اختلافات يهودية
يضيق المجال عن السرد التاريخي للطوائف والجماعات اليهودية التي تتجاوز ستين جماعة تختلف في أمور كثيرة، ويصل الاختلاف حدته عند البعض منها الذي يرفض قيام دولة إسرائيل من الأساس، ويرى أن فكرة بناء الهيكل غير واقعية، بل محرمة تحريماً شاملاً وجامعاً، وفي المقدمة منها جماعات «ناطوري كارتا» التي تقشعر من قيام حركة يهودية للتحرر القومي.
يقول لسان الحركة «الحاخام يزرائيل» في الولايات المتحدة الأميركية: «إن أي عمل مخالف لإرادة الله يؤخر مجيء المسيح المنتظر، وقيام الدولة ليس من ضمن علامات المرحلة السابقة للمجيء التي نعيشها، بل لعلها تعطل لحظة التنوير، وكل أولئك الذي يعرفون التوراة متفقون على أن إقامة دولة بالقوة الذاتية مخالف لشريعة الله، فالدولة تقف ضد التوراة، وضد الله.
هل في التلمود الإسرائيلي ما يقف ضد بناء الهيكل؟
ذلك كذلك بالفعل، فقد جاء في مجلد «كثوفوت» من التلمود: «إن الله طلب من العبرانيين عند ذهابهم إلى المنفى بعد هدم الهيكل الثاني أن يقسموا على ثلاثة أشياء وهي: ألا يعودوا بالقوة، وألا يثوروا ضد الأمم، وألا يحاولوا التعجيل بنهاية الزمان».
وفي هذا الفهم تضاد واضح بين السعي لبناء الهيكل من أجل هدف الإسراع بانقضاء الأزمنة وبين الروايات التلمودية ما يجعل كثيراً من اليهود أنفسهم في حيرة من أمرهم، لجهة أي تيار فكري ينبغي أن يصدقوا.
والشاهد أن مسألة الهيكل تزداد تعقيداً لا سيما وأن أجزاءً أخرى من التلمود تشير إلى أن الهيكل الثالث لن تبنيه أيادٍ بشرية، بل سيُبنى بشكل فجائي.. كيف ذلك؟
تشير بعض الدراسات إلى أن الهيكل اليهودي سينزل في نهاية الزمان من السماء، هذا القول منسوب إلى الحاخام شلومو بن إسحاق، وهو من أقدم مفسري التلمود وأكبرهم، وعنده أن الهيكل سيكون مبنياً مع تجهيزاته، وبهذا لن يضطروا إلى المشاركة في عناء البناء كما حصل في بناء الهيكل الأول والثاني.
ويزداد الاضطراب في الداخل الإسرائيلي، لا سيما إذا نظر المرء إلى حركة «حباد»، وهي أكبر الفرق اليهودية الأرثوذكسية في العالم ومقرها في نيويورك، والتي لم تسلم بما جاء به الحاخام إسحاق، بل طورتها وصارت تؤمن بأن جزءاً من الهيكل الثالث سينزل من السماء بشكل معجز، والجزء الآخر سيبنى على يد «المسيح اليهودي» الذي سيظهر في نهاية الزمان وأتباعه، ولهؤلاء قول مأثور مفاده: «إلهنا متع أبصارنا بهيكلنا، الذي في السماء، وأسعدنا، بالمشاركة في إصلاحاته».
موقف المسيحية
ماذا بعد في هذا المشهد؟ وهل تدعم المسيحية الحقيقية فكرة بناء الهيكل أم تخالفهما؟
يبقى هذا السؤال محور اهتمام للباحثين الثقات لا سيما من اللاهوتيين الكبار، فهل بناء هذا الهيكل من عمل الله وهل تتفق المسيحية مع هذا النهج أم ترفضه؟
من دون الإغراق في القضايا الدينية أو الأبحاث اللاهوتية يمكننا القول إن السيد المسيح تنبأ بزوال هذا الهيكل وبعدم بنائه مرة ثانية، وهذا ثابت في الإنجيل (متى 24: 1، 2) و(مرقس 13: 1) والنص كالتالي: «فتقدم تلاميذه لكي يروه أبنية الهيكل، فقال لهم يسوع أما تنظرون جميع هذه؟ الحق أقول لكم إنه لا يترك هاهنا حجراً على حجر إلا وينقض».
وفي رؤيا يوحنا اللاهوتي، هذا السفر الميستيكي، أي المليء بالأسرار، نقرأ وصفاً لأحداث ما يسمى بالأسخاتولوجيا أي علم الأيام الأخيرة وقيام الساعة ينافي ويجافي فكرة هدم الأقصى وبناء الهيكل الثالث، إذ يتحدث عن أورشليم الجديدة النازلة من السماء، والتي لم يكن هناك فيها ذكر لهيكل اليهود، بل على العكس من ذلك، يقول صراحة: ولم أر فيها هيكلاً، لأن الرب الله القادر على كل شيء هو والخروق هيكلها (رؤيا 21: 22).
لم يعد إذن في التدبير المسيحي مكان جديد لهيكل من حجارة، وعليه فإنه من المؤسف أن تقوم بعض التيارات اليمينية المسيحية المتصهينة والتي عرفت باليهودية المسيحية أو المسيحية المتهوِّدة، بالترويج لأفكار ترتبط ببناء الهيكل الثالث، وعودة اليهود إلى ممارسة شعائرهم الدينية القديمة، وخاصة الذبائح والعمل على شيوع وذيوع تلك الأفكار بوصفها خطة الله، وأن من يحاربها فكأنه يقف ضد الله.
هذا الفريق يشير إلى أن إقامة دولة إسرائيل بعاصمتها أورشليم (القدس) وإعادة بناء الهيكل، هي بمثابة إعداد المسرح لعودة المسيح إلى الأرض وإقامة الملك الألفي السعيد، وأن كل مساعدة في خطة الله هذه هي بمثابة دعم لتسريع مجيء المسيح ثانية إلى الأرض.
هذه الأفكار لم تكن إلا اختراقاً يهودياً جرى لجانب من المسيحية في أوروبا في القرن السادس عشر، عندما انشق «مارتن لوثر» عن الكنيسة الكاثوليكية، وتوجه إلى يهود أوروبا ليجد لديهم الحاضنة التي تنمو فيها أفكاره، لا سيما في ظل العداء الذي ساد بينهم وبين الكاثوليكية في ذلك الوقت، وقد ألف وقتها كتابه «عيسى ولد يهودياً» قبل أن يعود بعد عشرين عاماً عن أفكاره الداعمة لليهود حول العالم ليؤلف كتاب «اليهود وأكاذيبهم»، لكن الاختراق كان قد مضى مثل السيف في العمق المسيحي البروتستانتي، وإن بقيت الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية، ترفض هذه الرؤى المنحولة وفي مقدمتها قيام دولة إسرائيل وبناء الهيكل.
الخلاصة..
وماذا الآن؟ هل سيترك العرب بمسلميهم ومسيحييهم المقدسات في الأراضي الفلسطينية نهباً لمزاعم تاريخية يمكن أن تقود العالم إلى مواجهات دينية وعرقية يمكن أن تؤثر على سلام العالم كافة والشرق الأوسط خاصة؟
الشاهد أنه منذ العام 1967 والاعتداءات على الأقصى مستمرة والحفائر من أسفله ماضية قدماً، والكارثة التي تواجهها إسرائيل اليوم هو أن الإرهاب الداخلي من أبنائها أضحى يستهدف قيام دولة إسرائيل ذاتها، ويمضي نحو تدمير الدولة القومية، وإقامة الدولة اليهودية الدينية المحكومة توراتياً.
في هذا السياق يتعين على العرب والمسلمين سوية وفي لغة علمية وموضوعية يقبلها العالم، مخاطبة الحاضنات الفكرية والعلمية، الأدبية والروحية، الإعلامية والثقافية، وشرح أبعاد القضية الحقيقية، وقضية المقدسات الإسلامية، لا سيما الأقصى، الذي يراد به الشر في هذه الأيام المضطربة شكلاً وموضوعاً، والتي لا يعلم إلا الله وحده إلى أين تمضى في ظل الخلافات السياسية النسبية، فكيف يكون المشهد حال الصراعات المطلقة والدوجمائية بنوع خاص؟
ما الذي يجري في الأرض المقدسة، وتحديداً في مدينة القدس؟ هل المسألة ثقافية فكرية، دينية تاريخية، أم أنها إشكالية سياسية؟ عن المحاولات الجارية لتهويد مدينة القدس، وهدم الأقصى المبارك، وبناء هيكل سليمان نتحدث، لا سيما في ظل التطورات السريعة الحادثة في الأيام الأخيرة، من محاولات لاقتحام الأقصى وإقامة شعائر دينية يهودية هناك.
ولعل من المؤكد أن هذا الطرح يحتاج إلى ملفات بعينها، لا إلى قراءة سريعة وإنْ كانت معمقة، وعليه فإن الأمر يحتاج بداية إلى تفكيك لكثير من المفاهيم الدينية، وربطها بالسياقات التاريخية للوصول إلى حقيقة المشهد، تلك الحقيقة التي تبين زيف الادعاءات الإسرائيلية – اليهودية في الحال والاستقبال.
هامش ص 4
الحفريات الإسرائيلية
حفريات المسجد الأقصى هي مجموعة من الحفريات التي تنفذها قوات الاحتلال الإسرائيلي حول وتحت المسجد الأقصى. بدأت أولى مراحل الحفريات بعد حرب 1967، حيث تم هدم حي المغاربة الملاصق للحائط البراق في الجهة الغربية من المسجد الأقصى، حيث تم جعل باب المغاربة مدخلاً لجنود الاحتلال الصهيوني والمستوطنين إلى ساحات المسجد. ومنذ ذلك الحين بدأت قوات الاحتلال الإسرائيلية بإجراء الحفريات تحت المسجد الأقصى للبحث عن هيكل سليمان، حيث إنهم يعتقدون وجوده هناك، وقد تطورت هذه الحفريات. منذ يونيو 1967 تمت أغلبية الحفريات حول الحرم القدسي بمبادرة مؤسسات حكومية إسرائيلية أو منظمات يهودية.
ورفض الفلسطينيون والعرب هذه الحفريات، واعتبروها محاولة للاستيلاء على مواقع ذات أهمية دينية إسلامية، واتهموا إسرائيل بمحاولة لتقويض أساسات المساجد الموجودة في الحرم القدسي.
وقامت قوات الاحتلال الإسرائيلية في شهر فبراير من عام 2007 بتثبيت كاميرات لتصوير أعمال الحفريات التي تقوم بها حول المسجد الأقصى.
أضرار الحفريات
في عام 2010 بث ناشطون فلسطينيون صوراً للانهيار الذي وقع داخل ساحة المسجد الأقصى المبارك بالقرب من سبيل قايتباي مقابل المدرسة الأشرفية داخل ساحات المسجد الأقصى المبارك في المنطقة الغربية للأقصى بين باب القطانين والسلسلة، الذي أدى إلى إحداث حفرة بطول مترين وعرض متر ونصف المتر وعمق متر واحد.
وأكدت مؤسسة الأقصى أن الانهيار حصل بسبب الحفريات الصهيونية تحت وفي محيط المسجد الأقصى، وقد جمعت مؤسسة الأقصى شهادات من أصحاب البيوت الملاصقة للمنطقة التي وقع فيها الانهيار، الذين أكدوا سماعهم أصوات الحفر العالية تحت بيوتهم على مدار ساعات الليل والنهار التي أدت إلى تشققات خطيرة في البيوت التي تقع ضمن الجدار الغربي للمسجد الأقصى بالقرب من باب المطهرة وباب السلسلة.
وأكد شهود عيان أنه تمت تغطية منطقة الانهيار بألواح خشبية خشية وقوع ضرر للمصلين وحتى يتسنى فحص المنطقة بأكملها.
وأكد أهل القدس الذين تقع بيوتهم ضمن الجدار الغربي للمسجد الأقصى والقريبة من المدرسة الأشرفية في منطقة سبيل قايتباي أنهم يسمعون أصوات عالية لآليات الحفر الهوائية «كومبريسر»، وأكدوا أن الحفر يبدأ يوميا من الساعة السابعة صباحاً ويستمر حتى الساعة الحادية عشرة مساءً، وأكد أهالي هذه البيوت أن هذه الحفريات أدت إلى تشققات كثيرة وخطيرة في بيوتهم وتهدد بيوتهم بالانهيار.
________
*المصدر: الاتحاد.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *