“الخارجون عن القانون”: فيلم مختلف




مهند النابلسي*


خاص ( ثقافات )

تماثل الثوار مع عصابات المافيا: تقليد إبداعي لمشاهد من فيلمي “العراب وميونيخ”!

الفيلم رائع ويعد بحق مفخرة للسينما الجزائرية أو العربية من حيث نمط اخراجه العالمي، واحتواءه على مشاهد سينمائية ابداعية متميزة، كمشهد الاستهلال الدال (الذي يعود للعام 1945 مع انتهاء الحرب العالمية الثانية)، عندما يتم طرد عائلة الفلاح الجزائري البسيط مع زوجته وأولاده الثلاثة الصغار من أرض الآباء والأجداد بحجة عدم امتلاكه لحجة تمليك مكتوبة، وكمشهد وتفاصيل مجزرة سطيف البالغ الاستفزاز، والمعبر تماماً عن وحشية الاستعمار الفرنسي وتنكيله بالمدنيين العزل، ومن ثم مشهد النهاية التراجيدي وملابسات مصرع الشقيقين مسعود وعبد القادر وما رافقه من ملاحقات عنيفة ومواجهات دموية صاخبة، لخصها قائد الأمن الفرنسي عندما شعر بالهزيمة، موجهاً كلامه المجازي لجثمان عبد القادر المضرج بدمائه وهو ملقى على رصيف مترو باريس: لقد فزتم أخيراً!

يبدو أن مخرج الفيلم رشيد بوشارب معجب لحد الشغف بشريط الأب الروحي لفرانسيس فورد كوبولا، لدرجة أنه استوحى منه نمط الإخراج المشوق كما اقتبس العديد من اللقطات والمشاهد السينمائية المعبرة، تبدأ بانتقام سعيد (الأخ الأصغر) من الوالي الجزائري الظالم (الذي شردهم من أرضهم)، بطعنة في خاصرته وهو يسترخي على كرسي القيلولة، وضمن حوار يذكرنا تماماً بطريقة طعن دون كوروليوني (روبرت دي نيرو) لزعيم المافيا الصقيلي العجوز، منتقماً ومذكراً إياه بقتل والدية، ثم تتكرر مشاهد الاقتباس بأسلوب اغتيال قائد اليد الحمراء الضابط الفرنسي بواسطة عبد القادر، وذلك عندما نجح مسعود في تهريب المسدس له لداخل مبنى الأمن المحصن جيداً، وعندها أطلق عبد القادر برباطة جأش عدة رصاصات على رأس الضابط الفرنسي في مشهد يذكرنا لحد بعيد بطريقة اغتيال آل باشينو لزعيم العصابة التركي وقائد الشرطة المرتشي في مطعم إيطالي هادئ في ضواحي نيويورك، وتتكرر هذه المشاهد المستوحاة من العراب بطريقة اغتيال الإخوة الثلاثة “لرئيس العمال” الجزائري المتعاون مع الفرنسسين في مصنع رينو للسيارات، وذلك عندما خنقه مسعود بحبل رفيع وهو يتناول طعامه، ثم في حادث مقتل الشقراء الفرنسية الجميلة المتعاونة مع الثورة، والتي يعشقها عبد القادر، عنما يتم اغتيالها بواسطة سيارة مفخخة! وحتى طريقة وسيناريو لقاء الإخوة الثلاثة مع قائد الأمن الفرنسي وحاشيته، فهي تذكرنا لحد بعيد بلقاء العراب مع منافسيه وخصومه قبل أن تبدأ التصفيات الجسدية، وذلك من حيث برودة اللقاء المشحون بالنوايا الخفية، وكذلك الديكورات والإضاءة الخافتة والموسيقى المصاحبة، وأعتقد أن بوشارب ربما يكون فد طلب من ممثليه الثلاثة مشاهدة فيلم العراب مراراً، ليتمكنوا ببراعة من تقمص نمط الشخصيات الثلاث في الفيلم الشهير.

عبد القادر هذا الذي يخرج من السجن الفرنسي ليصبح قائداً في الجبهة الوطنية لتحرير الجزائر، كما يتماثل أيضاً قي تقمصه اللافت مع اسلوب “آل باشينو” من حيث تقديسه المتطرف وحماسه الشديد لقضية الثورة وتحرير الجزائر، وكذلك في تضحيته بمصالحه الذاتية وعواطفه ممارساً الانضباط والصرامة والقسوة، حتى أنه يفكر في أحد المشاهد في قتل أخاه الأصغر سعيد لرفضه مطالبهم في إلغاء حفل الملاكمة، كما أنه سعيد بنزقه وحبه

للمال والترف والحياة الرغيدة وانغماسه في الملذات والملاهي يتماثل مع سلوكيات الأخ الأوسط في العراب، وعلى الرغم من هذا التماثل المبالغ به، فإن الفيلم يبقى ممتعاً ومشوقاً، ولكن بوشارب بفعل تأثره الزائد بفيلم كوبولا انزلق في أحيان كثيرة لصنع فيلم عصابات، ونسي أنه يصور فيلماً عن الثورة الجزائرية التي كانت نموذجاً تاريخياً ملهماً للكثير من ثورات التحرير الشعبية في ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وحتى يبرر قسوة ردود الأفعال فقد استهل الشريط بمجزرة سطيف الشهيرة، وكذلك استعرض الممارسات الوحشية لفرقة اليد الحمراء الفرنسية بحق الجزائريين في فرنسا.

وأثناء سعيه الطموح لنيل الأوسكار أو السعفة الذهبية في كان، لم يستطع مقاومة إغراء تقليد مشاهد العنف والقتل في فيلم المافيا الشهير، ناسياً أنه يخرج فيلماً سياسياً درامياً بامتياز، ولكن وعلى الرغم من ذلك فقد نجح في اختياره للممثلين الثلاثة الذين برعوا تماماً في تقمص أدوارهم، كما نجح في بناء سيناريو محكم ومقنع يربط الأحداث والمشاهد بطريقة تصاعدية، مع موسيقى تصويرية معبرة وإنتاج ضخم (حيث تم التصوير في سبعة مواقع وستة بلدان منها أمريكا وفرنسا وألمانيا وبلجيكا)، وكان تصويره للفيلم أخاذاً أعطاه نكهة عالمية ومحلية في آن واحد قل أن تجدها في معظم الأفلام العربية، مما جذب الجمهور العالمي مع تنوع الأطياف والأذواق، وحيث إنك لا تملك كمشاهد إلا أن تصفق إعجابا وبحماس متأثراً بأحداث النهاية ومصير الإخوة الثلاثة الدرامي وتضحياتهم العظيمة، والتي توجت بمشاهد وثائقية معبرة عن انتصار الثورة الجزائرية في العام 1962.

في علم الإدارة لا ضير في تبني نموذج ما ومحاكاته فيما يعرف “بالمرجعية القياسية”، ولكن صناعة السينما تعتمد كثيراً على عناصر الإبداع والتجديد والترفيه والتشويق، وربما لا ضير هنا أيضاً في محاكاة نماذج أفلام كلاسيكية مشهورة سواء في نمط الإخراج أو في اقتباس لقطات بعينها، وربما نجد أمثلة لا تحصى على هذا النوع من الاقتباس الإبداعي والتماثل، والأهم هو وضع اللقطات المقتبسة في سياقها العضوي داخل نسيج الفيلم دون أن نشعر بغرابة إقحامها! ثم إن أي ثورة تحرير شعبية لا تدار بالترويع والقتل والإرهاب المضاد حتى لا تفقد شرعيتها وتقبل الجماهير لها، ولنا في ثورة ليبيا (وكذلك سوريا لاحقاً) مثال معبر، حيث انزلقت الثورة الشعبية بسرعة وتبنت الحل العسكري وأقحمت المستعمر الأجنبي وحلف الأطلسي حتى كادت تتحول لانقلاب عسكري وصراع محموم على السلطة والنفوذ واقتسام ثروات هذا البلد العربي، وظهر التناقض واضحاً بين بساطة الثوار ومظاهرهم الكادحة وأسلحتهم البسيطة ونواياهم البريئة وبين انتهازية متسلقي الثورات ومنظري التلفزيون وبزاتهم الأنيقة ووجوههم المتوردة، وهذا التناقض لاحظناه بوضوح في بعض لقطات الفيلم، ومنها مشهد خنق العامل الجزائري البسيط فقط لأنه تجرأ واستخدم بعض المال لشراء ثلاجة لأسرته المتواضعة، فيما تلاحظ مظاهر الاكتفاء لكي لا أقول البذخ في نمط حياة الاخوة الثوارالثلاثة، وشعرت بحق بأن هذه اللقطة مقحمة على السياق وغير مبررة، وبدا مسعود وهو يخنق العامل المسكين بحبل رفيع وبرودة قاتل محترف بعد اعترافه، وكأنه مايكل كوروليوني وقد أصدر أمراً بقتل زوج أخته بنفس الطريقة البشعة، وذلك بعد اعتراف الأخير باستدراج الأخ الأكبر لمصيدة اغتيال مروعة في لقطة خالدة من مشاهد العراب!

كذلك فان أي ثورة شعبية مسلحة شاملة تستند أساساً للجماهير العريضة وتنظيماتها وتتفاعل مع نبضها ومتطلباتها، ولا تعمل بنظام عصابات المافيا التي تستند للخلايا العائلية وتسلط العصابات، وتدار بنظام تراتبي أبوي فردي متشدد وغير متسامح، وهذا ما شاهدناه في هذا الشريط: فعبد القادر يدير الثورة بالتفرد والتسلط والقهر (بالتعاون مع مسعود)، وكأنه بالفعل زعيم عصابة لا ثورة مجيدة خطفت أبصار العالم في ستينيات القرن الماضي. وللمقارنة الطريفة فقد كشف ربيع الثورات العربية المتأجج أن معظم الدول العربية تدار بنفس النمط المافيوزي من حيث تحقيق مصلحة العائلة أو النظام وحاشيته وسرقة مقدرات الشعوب والتنكيل بها وازدهار الفساد واستعباد الخلق والعباد!

*هناك تماثل إبداعي بين مشهدي التفاوض مع ممثل الأمن الفرنسي في اجتماع هادئ ضمن ديكورات باذخة، ومن ثم التحول للاقتتال العنيف صبيحة اليوم التالي، ويتماثل ذلك مع النقاش والتناظر السياسي ما بين أفنر (قائد وحدة الموساد للاغتيالات في فيلم ميونيخ) ومناضل فلسطيني، لينقلب الأمر نهاراً إلى مواجهة مسلحة عنيفة يسعى فيها كل طرف للقضاء على الطرف الآخر.

وكما استند بوشارب لمذبحة سطيف، سعى شبيلبيرغ في فيلمه المنتج في العام 2005 لعرض لقطات تسجيلية لحادث تصفية أحد عشر لاعباً رياضياً إسرائيلياً في أولمبياد ميونيخ في العام 972 (من قبل منظمة أيلول الأسود)، وكأنه يبرر قسوة ودموية الرد الإسرائيلي في سعيه لتصفية قادة منظمة التحرير المسوؤلين عن العملية في عدة عواصم أوروبية، وذلك استجابة لطلب غولدامئير المباشر.

يتطابق الشريطان من حيث التصوير المدهش لمشاهد الاغتيال الخاطفة والدموية والتي لا مجال للخطأ في تنفيذها، كما أن شبيلبيرغ يلجأ لسجله السينمائي العتيد، فيقتبس مشاهد تشويق من فيلمه الشهير “الفك المفترس” (كمشهد انتظار خروج الطفلة لتنفيذ عملية الاغتيال بواسطة عبوة ناسفة مزروعة في التلفون!)، ولا ينسى كذلك أن يقتبس من فيلمه الآخر الحائز على الأوسكار “قائمة شندلر”، وهو على الرغم من إخلاصه ليهوديته وشغفه بإسرائيل، فإنه يحاول أن يظهر نوعاً من الحيادية وتقبلاً لوجهة النظر الأخرى في شريطه هذا المثير للجدل، وذلك عندما يظهر امرأة فلسطينية تتحدث عن أربعة وعشرين عاماً من القتل الإسرائيلي المستمر، ومن ثم يظهر مندوباً لمنظمة التحرير يتحدث عن أنه آن الأوان لإيجاد دولة للشعب الفلسطيني المشرد، وللمفارقة المضحكة أليس أوباما الرئيس الأمريكي الديموقراطي الأسمر (الذي استهل حكمه بخطب رنانة حول العدل والحرية والمساواة وتفاهم الحضارات)، هو الذي يقف اليوم عقبة في طريق إعلان الدولة الفلسطينية في شهر أيلول المقبل دعماً لحكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، مستهتراً بالإرادة الفلسطينية والعربية، وفي تناقض واضح مع دعمه (الكاذب) لثورات الربيع العربي الساعية للحرية والديمقراطية والتحرر من الطغاة وممارساتهم وفسادهم، أم أن كل المبادرات تتوقف وتتراجع امام سحر بني صهيون ونفوذهم السرطاني وتلا قي مصالحهم مع المصالح الاستعمارية لأمريكا والغرب المنافق!

يستند فيلم ميونيخ لرواية ناجحة اسمها “الانتقام” ألفها جورج جوناس وحولت بنجاح لسيناريو سينمائي، فيما يبدو أن قصة فيلم “الخارجون عن القانون” قد كتبت خصيصاً للسينما بتمويل فرنسي مكلف. لقد نجح بوشارب في بناء شخصيات فيلمه المتميز هذا بتوازن وعمق مستنطقاً التاريخ وعبق المكان والزمان ومشروعية النضال الجزائري للتحرر من كابوس الاستعمار الفرنسي الغاشم (بالرغم من استناده لممثلين جزائريين غير معروفين عالميا)، فيما فشل شبيلبيرغ (على الرغم من تاريخه السينمائي الحافل وقدراته الاخراجية الفذة) في بناء الشخصيات وتبرير العنف ودموية القتل والاغتيال، وليس من الناحية السينمائية والإبهار التقني اللافت (فقد استند لمجموعة ممثلين عالميين مشهورين)، وإنما لأنه يعلم في أعماق نفسه أن قضيته خاسرة أخلاقياً وإنسانياً، فلا يوجد انسان صادق مع نفسه حتى لو كان يهودياً أمريكياً يمكن أن يتعاطف حقيقة مع عصابة من المغتالين القتلة، الذين يتنقلون من عاصمة أوروبية لأخرى بتواطؤ ودعم واضح خفي من مخابرات وأجهزة هذه الدول، التي أنشأت إسرائيل وتعاطفت ولا تزال تتعاطف معها وتدعم غطرستها واجرامها المزمن بحق الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة.

وأخيراً فإني سأذهب فيما ذهب إليه الفقهاء من شعار: إن رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب!

* ناقد سينمائي وكاتب من الأردن

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *