د. عبد المعطي سويد
محمد عبده رجل دين إصلاحي، ومثقف عربي إسلامي، ومفتي الديار المصرية، موسوعي ومفكر عقلاني، كان رائداً لفكرة إصلاح الساحتين: العربية والإسلامية، وهو من صناعة الأزهر الشريف، وكغيره من النهضويين كان هدفه الاستراتيجي: إصلاح الفكر العربي الإسلامي انطلاقاً من التعليم، لقّب بالأستاذ الإمام، وكان صديقاً فكرياً، حميماً للمتمرد الكبير، والثائر جمال الدين الأفغاني اجتمعا في (باريس)، ولم ينكرا معاً كون المدينة المذكورة مركز الفكر التنويري والحرّ في أوروبا، لم تكن شخصيته مقلقة للسلطتين التقليدية الأزهرية، والسياسية، كما كانت شخصية الأفغاني، ولم يخف إعجابه بالتقدم الغربي أو حضارة ومدنيّة الغرب.
لكنّه قال إن الإسلام يملك مقومات الحضارة والمدنية، وأن الإسلام عاش التاريخ الوسيط مرحلة اللحظة الإسلامية، ومع ذلك اتهمته التيارات التقليدية بأنه كان ماسونياً، متأثراً بالغرب المستعمر.
هو في ميزان الثقافة العامة والعالمة تنويري بلا منازع، وأفكاره النهضوية كغيرها من أفكار النهضويين لم يطوها الزمن، إلا أن الجهود العبثية التي قامت بها تيارات تقليدية ومتشددة قد نجحت في قمعها وكبتها، كما تم تهميش غيرها من أفكار النهضويين، أو جعلتها في أقل تقدير غائبة في بطون الكتب، وزوايا المكتبات المظلمة.
إنّه الشيخ محمد عبده (1849-1905) ابن قرية متواضعة ذهب إلى باريس التي كانت مطمح كل النخب الفكرية المتطلعة للتغيير والتقدم، وحاور كثيراً من الغربيين، وخاصة أولئك الذين حملوا في فكرهم كثيراً من الأفكار المسبقة، وعبّروا عن عدم صلاحية الإسلام لبناء الحضارة، مثل (رينان) وزعمه بأن الفكر الفلسفي عند العرب والمسلمين هو ترجمة للفلسفة اليونانية. وحاور (هانوتو) في ميزة الإسلام بالقياس إلى الأديان السابقة، ورأى الشيخ كثرة لا بأس بها من الأفكار الإيجابية في غرب التنوير يمكن للمسلمين الأخذ بها أو الاستئناس بها بلا تردد، مثل: مبدأ العقل والعقلانية، والحرية والإنسانية مع بعض التحفّظ إزاء المعايير والقيم الأخلاقية الفردية أو الاجتماعية التي تخالف شرع الله. فالإسلام يعبر عن الإرادة الإلهية، ولكن الحضارة الأوروبية آخذة في الانتشار كما قال، ولا بد من الالتقاء معها على أرضية التقدم الإنساني.
كان الشيخ يرى أن السعادة لها قوانينها وهندستها وهي أي، السعادة، هدف الأديان والحضارات وإن اتباع الإسلام الصحيح طريق السعادتين في الدنيا والآخرة.
تمتع الشيخ بثقافة فلسفية واسعة، مبتدئاً بثقافة العقل التي دشنتها فرقة (المعتزلة وقال بها علماء الكلام ) في العصور الوسطى الإسلامية، ومنتهياً بالاطلاع على كل ما تيسر له من ثقافة الغرب.
لم يحتمل الشيخ الفكر التقليدي ولا أنصاره الذين حاولوا تسريع الخطى نحو الخلف ساعين ظناً ووهماً وخيالاً بعث ما تخيّلوه من زمن جميل.
الواقع لقد كان الفكر التقليدي منذ حينه وحتى اليوم وبالاً، وكارثة على صعيد الفكر والحياة في العالمين العربي والإسلامي، وعمل هؤلاء على احتضان كل أشكال التطرف والراديكالية والانحراف الكامل عن طموحات العرب والمسلمين في التقدّم والحداثة ،رغم هيام كل التيارات التقليدية حتى يومنا هذا في الإقبال على مكتسبات التقدم المادي (والمنجز الحضاري ) ولقد كان هذا الفكر التقليدي المشؤوم، يرفع كامل عقيرته بكامل العنجهية والنرجسية الصادرتين عن سوء فهم لللحظة الإسلامية، وكذلك سوء تأويل فهم عميق للآية «كنتم خير أمة أخرجت للناس». وقال الفكر التقليدي بالتقدم الماورائي، ورأى أن التاريخ يسير نحو الوراء إنسانياً، وأنّ على المسلمين أن يفكّروا ويعيشوا من أجل حياة ما وراء الحياة وما بعدها.
أوّلاً فيما يتعلّق بفكر الشيخ السياسي فهو من أنصار النظرية الذائعة الصيت في الثقافة السياسية العربية والإسلامية، أعني الحاكم المستبّد العادل، وهي نظرية تعاني من ثغرات كثيرة أهمها ألّا شيئاً يضمن أن يكون المستبّد عادلاً، خاصة أن الإسلام يعلمنا: أن النفس أمّارة بالسوء.وليس من شأننا هنا الدخول في تفاصيل هذه النظرية، بل إنّ ما يستوقفنا هنا مجموعة أخرى مختلفة من الأفكار النهضوية للشيخ، التي تم تغييبها أو إسقاطها عمداً من قبل كثير من التيّارات الإسلامية الفكرية التقليدية، ومن هذه الأفكار:الفكرة المنطقية، والفلسفية الجدلية التي تأثر بها الشيخ في (اللاشعور الفكري ) أي: تفسيره لظاهرة ظهور الأديان الثلاثة التوحيدية، وهذه الفكرة وردت في كتابه الرئيسي والمهّم «رسالة التوحيد»، يقول: «عاشت البشرية طفولتها الأولى فأنزل الله لها ما يناسب وعيها الديني فكانت اليهودية، وفي المرحلة الثانية من نضج الإنسانية أنزل الله الديانة المسيحية، ولم تكن الديانتان ملبّيتين لمرحلة النضج الإنساني الثالثة، فأنزل الله الإسلام المكمّل والمتمّم، لرسالات الله الثلاثة، لكل ما اعتراهما من نقص»، وترجمة هذه الفكرة حسب المنطق والفلسفة الجدليين هي التالية: كانت اليهودية هي الإثبات تولّد منها النفي وهي المسيحية، وصدر عن صيرورة الديانتين وتغيرهما مع تغير الواقع الإنساني، فكان الإسلام وبعبارة جدلية، ومنطقية كما يدرك المشتغلون في المنطق الجدلي (منذ أفلاطون وحتى الألماني هيغل) فاليهودية هي الأطروحة والمسيحية هي الطباق، والإسلام هو التركيب أو التأليف بينهما، الذي يعبر من خلال التركيب هذا عما هو جديد وهو هنا الدعوة الإسلامية إلى الوحدانية الإلهيّة.
الفكرة النهضوية الثانية للشيخ عبده التي تمّ قمعها فكرة التقدّم الدائم إلى الأمام فيما يتعلق بالتقدم الإنساني والحضاري، وبناء المدنية التي تبناها الشيخ التي تعارض الفكرة التقليدية القائلة بالتقدم الماورائي.
وأخيراً ميل الشيخ النهضوي إلى عدم الخلط بين الدين والفلسفة، وهو ما لم تتوصّل إليه كثير من الثقافات العالمية وخاصة الثقافة العربية-الإسلامية، والواقع لقد كان من الصعوبة بمكان في سياق المرحلة الزمنية التي عاشها محمد عبده وسياق الثقافة الأزهرية الفصل بين:العقل والنقل، لقد كان عبده واسع الاطلاع على الثقافة العربية الإسلامية العقلية والمتجلية فيما سميّ بعلم الكلام لدى (المعتزلة) وفيما بعدها لدى الفلاسفة في الإسلام في العصور الوسطى، كما ذكرنا وود لو يأخذ المسلمون بالمنهج العقلي في الفهم والتفسير.
_______
*المصدر: الخليج الثقافي