شذريات يحيى حقي ..ماذا لو طارت هموم الإنسان؟


*تقديم واختيار: إيهاب الملاح


لم يكن الكاتب الكبير يحيى حقي (1905 ـ 1992) مبدعا عظيما فقط في القصة والرواية، كان مبدعا عظيما أيضا في كل ما خطّ في الأدب والنقد والفن والسياسة والتاريخ والترجمة، مُبدعا لا يُبارى في تذوق النصوص ومنادمتها، التعليق عليها والكشف عن جمالها، التوقف عند عباراتها وإيحاءات ألفاظها وبراعة تصاويرها، ويتحسس العلاقات بينها ومدى ملائمتها للمعنى الذي تعبر عنه أو تسعى لتصويره، كان مُبدعا فذا في علاقته الحميمة باللغة التي يكتب بها، يحاورها، يهامسها، ويُسايسها حتى منحته كنوزها وخفاياها ينهل منها ما شاء كيفما شاء.

ترك حقي إرثاً نادراً ورائعاً من الكتابة الجميلة عن الإبداع والفن والنقد وخصائص اللغة الأدبية، خاصة في كتابيه القيمين الرائعين «عشق الكلمة» و«أنشودة للبساطة».. وهما كتابان عظيمان لا يفارقاني منذ كنت طالبا في الجامعة، ولا أملّ من معاودة النظر فيهما ومطالعة مقالاتهما.. وكيف لا وهما يحملان قدرا وافرا من نظرات عبقرية في صنعة الكتابة وإبداع القصص والفنون بعامة، سجلها حقي بحس فنان عظيم، وخبرة كاتب قصة من الطبقة الأولى وروح إنسان ترقى في معارفه ومداركه حتى وصل لغاية رفيعة من التواضع الحقيقي والذوق الأصيل في التعامل مع البشر والنصوص.
«أنشودة للبساطة ـ مقالات في فن القصة»، بالتحديد، واحد من أجمل ما كتب يحيى حقي، وهو في الوقت ذاته أنشودة العمق والأصالة والفهم الحقيقي للأدب، قدم فيه دروسا باذخة لناشئة الكتاب والمقبلين على الكتابة لن يجدوها في أي مكان آخر سوى مدرسة البديع يحيى حقي. «قراءة كتب يحيى حقي بمثابة قراءة علاجية ضد الاكتئاب والزهق وكرشة النفس. هذا غير أن لغته لا مثيل لها بين الكتّاب جميعا».. هكذا وصف أحد كتابنا الكبار أثر حقي على نفسه وروحه.
يحيى حقي في «أنشودة للبساطة» وفي «فجر القصة المصرية» وفي «كُناسة الدكان».. بل في كل ما كتب هو أحد المؤلفين المصريين الذين لم يحصلوا على ما يستحقّونه. لا يمكن أن نتخيل حجم المساعدات التي قدّمها هذا الرجل، للفنانين والأدباء الشبان، منذ كان مسؤولا عن مصلحة الفنون الشعبية في وزارة الثقافة المصرية منتصف الخمسينيات، مسؤولا عن أول نادي للسينما في قصر عابدين في نهاية الخمسينات، إلى أن أصبح رئيسا لتحرير مجلة «المجلة» في منتصف الستينات. وقد أحيل إلى التقاعد سنة 1965، أشهر أعماله «قنديل أم هاشم»، «صح النوم»، «أم العواجز»، «سارق الكحل»، «الفراش الشاغر»، عدا ترجماته الأدبية والفكرية والتاريخية. هو بلا أدنى شك أحد الآباء الروحيين الكبار لأجيال وأجيال من المبدعين والكتاب.
* لغة عبقرية في قدرتها على الاختصار الشديد مع الإيحاء القوي..
(عن اللغة العربية)
* ولا ولوج إلى ساحة السعادة ـ في اعتقادي إلا من أحد أبوابٍ ثلاثة: الإيمان والفن والحب..
(قنديل أم هاشم)
* عجبتُ للإنسان يوصي غيره بالقناعة.. ولا يقنعُ هو!..
(صح النوم)
* لا تنسوا أن الأدب العربي هو مادتكم التي تشتغلون بها.. اقرأوه بإمعان.. بنظرة فاحصة جديدة تسندها ثقافة العصر، هو وحده الذي سيعلمكم فن القول. وما فن القصة إلا نوع من فن القول. أنتم تقيمون بناء أحجار هي الكلمات، ستجدون في الأدب العربي الخالي من القصة سر هذه الكلمات؛ دلالاتها، جرسها، أطيافها. لا تبحثوا في الأدب العربي عن القصة، لن تجدوها.. ابحثوا فيه عن الكلمة، ستجدونها.. ستشبع نفوسكم بسر اللغة التي تكتبون بها..
(أنشودة للبساطة ـ مقالات في فن القصة)
* إن كل قول في الفن إنما هو وجهة نظر فردية، فالفن قنيصة يبقى منها دائماً خارج الشباك جزء منفلت.. إنه يكره التعميم ويعلو عليه، ويكره الحد والقطع، أبرع تعريف له لا يغنينا ولا نبلغ به حد الاطمئنان والشبع.. ونحن أقدر على الإحساس بغياب الفن منا على الإحاطة به وتعريفه حين نلقاه..
(عشق الكلمة)
* أبأس الخلق هي الطيور التي لا تقع إلا على أشكالها.. فإنها تجمد على نقائصها وتظل فضائلها فرضا من الفروض لافتقارها إلى الضد.. إن سعادتها وهمية..
(عشق الكلمة)
* الإلهام نور ساطع كاشف لجميع آفاق الروح والعالم.. يهبط على من يختاره دون سبب ظاهر فيتلقاه بغير سعي منه إليه..
(أنشودة للبساطة)
*.. أما عن الموهوبين في القصة من كتاب الجيل الجديد، فهم كثيرون ولكنهم ضائعون وسط زحام شديد من قصص تافهة يكتبها أناس لا ترى في عيونهم لمعة الذكاء، ولا في جباههم بصيصا من ضوء.. فليست المسألة ماذا كتبت بل هي من أنت؟…
(أنشودة للبساطة)
* كل إنسان تنشأ بينه وبين همومه من طول الصحبة روابط ألفة حلوة، وصداقة لذيذة، يؤمن أنها هي شغلته ومشغلته، حديثه مسمره، إنها رأس ماله وثروته، بل هي كل ما تملك يده، ماذا يبقى له لو طارت منه؟..
(فكرة.. فابتسامة)
*.. ويبقى للكاتب عذابات أخرى، قد يعدها الناس صغيرة، ولكنها عنده شديدة، حين يجد الكلام الذي حرص على أن يجعله سهلاً واضحاً مفهوماً يتحقق وجوده وانفصاله عن اللغو والمتشابه، عن الغموض، ومن ثم الضياع، قد خاب مصيره عند قارئه.. ليست المصيبة أنه لم يفهمه، بل إنه سلكه مع غيره من الكلام الملقى على عواهنه. عذابه أن التلميح ينفذ دائماً من خروق الغربال، كأنما حتم، كأنما المطلوب ألا يبقى به إلا الزلط الغليظ، ولونان فحسب، أسود وأبيض… أما الرمادي فيعامل معاملة التراب.
(أنشودة للبساطة)
*.. ورغم انبهار الشباب حينئذٍ بأسلوب المنفلوطي، فإن تأثيره عليهم كان قد خفّ حين ظهر طه حسين بأسلوبه الذي اختص به وحده كابتدائه المقال بواو العطف.. «وقيل على سبيل التندر إنه يقلد مبيضي النحاس الجوالة في شوارع القاهرة، وكلهم من سوهاج – وهم يصرخون: وابيض النحاس و..»، ثم تكراره للجملة القصيرة الواحدة، بالإثبات والنفي والاستفهام والتعجب، كحكاية مقاله المشهور «وللمعلمين قضية» فَقَد هَام حينئذ كثيرٌ من الشباب – وبخاصة طلبته في الجامعة – بتقليد هذا الأسلوب.
حظ لم يفز به العقاد، ولا المازني. لأن طه كان مجدداً جريئاً، والشباب يحب الجرأة والتجديد. وحين نجا هؤلاء المقلدون فيما بعد من قيد الأسر لا أظن أنه قد غضب لعقوقهم، بل حَمَد لهم هذا التحرر لأنه دليل امتلاك الذات.
(أنشودة للبساطة)
* كان علينا في فن القصة أن نفك مخالب شيخ عنيد شحيح، حريص على ما له أشد الحرص، تشتد قبضته على أسلوب المقامات، أسلوب الوعظ والإرشاد، والخطابة، أسلوب الزخارف والبهرجة اللفظية والمترادفات، أسلوب المقدمات الطويلة والخواتيم الرامية إلى مصمصة الشفاة، أسلوب الواوات والفاءات والثمات والمعذلكات والرغمذلكات واللاجرمات والبيدأنات واللاسيمات، أسلوب الحدوتة التي لا يقصد بها إلا التسلية. كنا نريد أن ننتزع من قبضة هذا الشيخ أسلوبا يصلح للقصة الحديثة كما وردت لنا من أوروبا، شرقها وغربها ولا أتحول عن اعتقادي بأن كل تطور أدبي هو في المقام الأول تطور أسلوب. كان علينا أن نضرب على يد من يحكي لنا قضية جنائية، ويقول اكتبوها فهي قصة جميلة حقا، ونقول له: «القصة شيء مختلف أشد الاختلاف».
(أشجان عضو منتسب ـ سيرة ذاتية)
________
*المصدر: جريدة الاتحاد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *