*أحمد الشيخاوي
خاص ( ثقافات )
قصائد للشاعر المغربي كمال أخلاقي..
كنتيجة طبيعية للتشظي الملمّ بالذات في إنصاتها لإيقاعاتها الداخلية المتعدّدة، ثمة لحظة إبداعية معينة تتولّد عنها الأصوات الهامسة عبر لغة يطغى عليها الخطاب الوجودي، مع اعتبار الغاية من إقحامه كمظلة أو قناع لفعل البوح، كامنة في التفريغ التدريجي للمعاناة وبمنأى عن الجملة الواحدة، والتزاماً بنبرة الغضب والاحتجاج الهادئة والمتّزنة.
التعاطي الحذر مع نظير هذا اللون من التجارب الحية الألصق بلحمة الراهن في أدقّ تفاصيله ومفارقاته وتناقضاته، نلمسه عند الشاعر المغربي الألمعي كمال أخلاقي العاشق الأول لنبض جسد القصيدة ومرجّح العنصر السمعي على مقابله البصري في جل المجاميع الشعرية التي أصدرها حتى الآن.
فهو لا يستدعي المفردة ترفاً وفانتازيا، بل حاجة وضرورة بمقدار محاكاتها للرؤية وتناغمها مع المشهد في كليته.
دؤوب الاشتغال على تقنية تعفير أو تمريغ الفكرة في العاطفة والعكس بالعكس، وبذلك يرتسم له أفق البصيرة كنواة أو شرارة لروح الانغماس في العالم والانسجام التام مع الذات والطبيعة.
.1
أَغلقْ باب قلبكَ بإحكام
واسلك طريقاً لا يعرفهُ أحد غيرُكَ
اصعد نحو الهضبة واقطفِ الزهور
انسَ أنك كنتَ بشراً وكان لكَ لسان
أنتَ الآن عصفورٌ بجناح مكسور
أنتَ غيمة تحلق فوق أرض خراب
أنتَ ملاك محكوم عليه بالإنشاد
ستموت قرب النهر وبعد قرن
ستصنعُ لك الأسماكُ تمثالاً وتؤمن بك
الأسماكُ المؤمنةُ والنمل المؤمِنُ والطين
لكن ليس البشر’.
الحكمةُ هي أن العاصفة في خريف عمرها
تقبل يد الريح وتنحني إجلالا لهسيس هواء
لذلك أغلق بإحكام باب القلب
وافتح ذراعيك للقطار الذي يمضي ولا يلتفت
للفجر، الفجر الذي يعوي في السهول البعيدة
مثل ذئب جريحْ.
يستهل شاعرنا نصّه بوابل من أفعال الأمر يمطر بها المتلقي محاصراً الذهنية وموجهاً الذائقة نحو ارتقاء سلمّ تعبري بلاغي يحتفي بمنظومة عناصر طبيعية على نحو معطّل للذاكرة وينمّ عن مؤاخذة أو معاتبة البشر الصمّ البكم عن أدب التضحيات في سبيل التّرسيخ لقناعات محددة تكتسي صبغتها القيمية والتوعوية والنهضوية والأخلاقية من تشبُّعها بالوازع الإنساني في أنساق سيريالية لا يفصلها عن الواقع أكثر من خيط دقيق للغاية يشفُّ عن أوبئة فتّاكة.
2.
في آسفي رأيتُ البَحر محطماً كأحلام العشاق
رأيتُ الرمل منهوباً
في شاحناتٍ تقتل النسوةَ العائداتِ
فجراً من معامل تصبير السردين
رأيت طفلةً تحلم بالأوكسجين
بحصتها في الحياة التي يكنسها
مصنع الكبريت
في آسفي رأيت السفن في الميناء تبكي
والصيادين يموتون يلفُّهُم كفنٌ من ضباب
رأيتُ
قصْرَ البحر صار قصراً للخراب
كنا ندخله كالملوك ونحارب البرتغال بقطعة
خبز ونسبح من حجر إلى حجر
صار قصرا للخراب!
آسفي مدينة لا تصلح إلا لشيء واحد:
الأسف.. الأسف..الأسف
ظاهرة الهروب إلى أحضان المكون الطبيعي، مشروعة ومذيلة بإدانة المكان، آسفي هنا، مسقط رأس الشاعر والمدينة التي تبتلع أبناءها تباعاً، جراء التلاعبات المؤسساتية السياسية بالمصائر والتدخل بشكل سلبي في الطبيعة كما الحالات الإنسانية، عبر تبنّي الأيادي الملوثة وقد طالت أجواء المدينة قاطبة بما في ذلك تشويه الموروث وفبركة ما يتيح إجهاض كل أثر فردوسي قد يغذي النفس المكلومة أصلاً.
.3
قلبي يرتعدُ من خوف قديم ورثَهُ من جدِّي
الذي فرَّ من الأندلس باتجاه الجبل؛ كان جدي
يحرُث السهل
ويبكي ويرعى القطيع ويبكي
وقبل أن ينام كان يتوسدُ قلبَهُ ويعلقُ على
القمر صورةَ الملكِ ويبكي
هذا التّرقيم متضمّن لسمة من نبوغ شاعرنا وقد برع إلى حد بعيد في تمرير رسالة محرضة على انتشال خرافة ظلت مستأسدة قرونا وتعويضها بأيديولوجية جديدة تغربل الوعي المتعلق بالأمجاد وتشحذه وتعمق مفهوم صلة الملك بالشعب.
4.
ربما ضاقت أرضُ القصيدة فدلفنا إلى رُبوع
النثر، نرعى الحكايا بحليب الاستعارة وفي
قلوبنا غُصّة من شعر.
ربما اتسعت أرض القصيدة ففقدنا الوجهة إلى
النهر، منّا من مات في الصحراء ومنّا من
لايزال يرعى هناك على حطب لا يصلح
لتدفئة الخيال
هنا، الغصة التي تلبس قلب الشاعر تبرز وبشدة الصوت الصارخ المتسامي على السؤال الشخصي والمتعدّية إلى استنطاق حالة المبدع المزرية السرمدية المقيمة في الذوق والذاكرة. أما آن لهذه الطينة من البشر أن تعلن إفلاسها؟ في غياب ملبٍّ مستجيب لصيحات الحناجر المطالبة بإنصاف هذه النماذج المهمّشة والمسكونة بهواجس الإقصاء.
.5
كلماتي في هاته القصائد
سُمِعَ دوِيٌ لها في أشعار بعيدة
………………………………………….
حروف كلماتي تطير وتختفي كالسراب
لكن البياضَ الذي بنى عشَّهُ
بينَ أغصانها كان دائماً
حقيقياً
تشبيه الكلمات بالسراب في هذه الوحدة، نابع من فراغ اللحظة المحيلة على سؤال التفرغ والدعم المعنوي والمادي المتيح للمبدع طقوس الحرفية في مهامّه وبلوغ الذروة في رسالته.
.6
..لن أصلَ إلى باب الجنة
كنت ضالاً وما أزالْ
الشعر هداني إليَّ وإلى النار
ما ذنبي يا أالله!
عضضتُ القصائدَ واحدةً تلو أخرى
وأنتَ جعلتها بطعم التفاح
بــ”لن” القطعية تم رسم صورة ندية لظرفية شاعرنا نيابة عن أترابه ومن على شاكلته، وقصة حرمان أب البشرية آدم من الجنة بسبب التفاحة.
كأن ذنب الشعراء الوحيد، الطعم كقاسم مشترك بين الفاكهة المحرمة هناك والقصيدة هنا.
فهم بالتالي أسرى قدر سطّر سلفاً شظفهم الحياتي وبؤسهم، وكل ما يسجل لهم بصمتهم وخلودهم عبر الكلمة.
.7
العصفور في قلب القناص يحلق
في قلب الصياد تسبح
المرأة في قلب عشيقها تتعرى
القصيدة في قلب الشاعر تنفجر
تستمد هذه الأسطر الشعرية نبضها ونضارتها من قالب تعبيري يستهدف المألوف بطريقة غرائبية جدا وشاهدة على الفوضى التي تمارسها القصيدة على قلب وكيان الشاعر. لكنها فوضى تتغيا الترتيب وتروم الجدة والإضافة فهي إذن تشفع لصاحبها.
.8
في الصباح
أحمل أكياس الشعير إلى الطاحون
وأسقي الزهرات الثلاث بالحب
في الليل
أطوف بين الحانات حاملاً قلبي في سلة
وأكتب الشعر تحت أشجار الأوكاليبتوس
تلك كانت حياتي ببساطة
وكأن البساطة في أسمى تجلياتها مختزلة في العيش للشعر وبتنفّسه، بل وإدمانه حدّ التأريخ للحيثيات الحياتية والروتين اليومي وما ولاه من السلوكيات التي تمسنا في هويتنا ووجودنا، بيد أن المسألة في تعلقها بزمرة الغاوين تمثل استثناءً ووجعاً مضافاً تناغيه نكهة الممارسة الإبداعية.
قبل هذا المقطع المدهش، استمرّت ثيمة “الموت” ضمنية متوارية تناوش التلقّي ظلالها فقط.
وهنا يتم الإفصاح المباشر عنها بغية التنبيه إلى فلسفة معينة يتقيد أو يتحلى الشاعر بها في نظرته الرمزية إلى هذه الثيمة كلغز محير مستعصٍ على الإدراك.
10.
الآن أدركتَ أن لا شيء يتشبث بك
الجهد العظيم الذي بدلته وأنت تعدّ النجوم
مستلقياً على العشب
سيظل ديناً في ذمة السماء
وليكن النبيذ شاهداً على سقوطك المبهج
أما الليل فاتركه في غموضه يتفرج على
ضحاياه
11
اذهب الى الشعر
عزيزي الشاعر
اذهب خفيفاً كصياد يحمل قصبة وانتظر موجاً
أو رذاذاً أو لا شيء
لا تكترث كثيراً لبريق القصائد على الرمل
سيجرفها المدُّ
وقد تصير قواقع لتزيين مكتب شاعر آخر
يصفّف الكلمات
الشعر هواء سمّمه اليقين وأدمنتْه رئتاك
لذلك اذهب عزيزي الشاعر
اذهب وابق متيقّظاً
الصمت عدوّ آخر لا يقلّ شراسة
لكنه يقبل التفاوض كجسد يتألم
12
لن نقتسم الغد الرائق إذن
الذهب
تركنا البحر للقراصنة
واليابسة للطغاة
واحتمينا خلف الأشعار
منّا من مات ومنّا من هدّه التعب
13
هو ذا الغياب
هي ذي يقظة الظلال كلّها
في عتمة الباطن تمتدّ كجذر أركانة
يثقب الأرض
وفي لحظة سامية كالفجر
يرخي أغصانه
لتشتعل الأشجار
وتضاء الغابة
14
عندما تكلم زرادشت
اختفت الآلهة وخرج الشعراء
يرقصون في الهواء
يحملون الكلمات التي سقطت من فمه
ويمرّغونها في التراب
كانوا يفعلون ذلك لتنبت الأغاني ولتصير
لأرواحهم أجنحة
وليحلّقوا بعيداً كصغار الملائكة
15
عندما سيسقط الشاعر ميتاً
لا تذرفواً دمعا ولا تنشدوا فوق رأسه آيات
بيّنات
لا تضعوا زهوراً ولا داعي لجرعة زائفة من
الألم
يا من رقصتم على جثة شِعره كالوحوش
ضعوا قصائده على قبره
صبّوا الكثير من الماء
صبّوه دفعة واحدة وانصرفوا
كأن لم يكن لكم وجود في حياته
التي عذبت قرناً من الأحزان
وحده الله يعرف أنه
بعد غد ستنبت من ترابه أجمل الأغنيات
وفيما تبقى من ترقيمات، تراوح ثيمة “الموت” بين مستويات البروز تارة والاختفاء أخرى حسب الحاجة إلى ذلك تزامناً مع بثّ لمسات جمالية ودلالية لتناسلات يوقعها المكون الطبيعي كما أشرنا، والذي يثري خارطة القصيدة بتفشيه الطاعن بلذة لغة السهل الممتنع في احتفاء هامس وخفيض ببصيرة تنشد البعد الإنساني وتفجّر هذيانات مقاربة عوالم المصالحة مع الذات والكونية انتهاء.
* شاعر وناقد مغربي
شاهد أيضاً
العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة
(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …