*ترجمة وتقديم لطفية الدليمي
لا تزال الكاتبة ( أنتونيا سوزان بيات Antonya S. Bayat )تعيش في منزلها الأنيق الواقع في غرب لندن حيث اعتادت الكتابة معظم أشهر الشتاء وتكتب من منزلها الصيفي المنزوي في الجنوب الفرنسي الساحر أيام الصيف . وكلا المنزلين مليئان بأعمال فنية لمعاصري بيات ويزخران بمكتبات عامرة بالكتب .
الانطباع الذي يوحي به هذان المنزلان يتأكد في محادثتها التي تتنقل بثقة ورشاقة بين موضوعات الأدب والبيولوجيا والفنون الجميلة وانشغالات نظرية متعددة تنبئ عن عقل يجنح لمخالفة المألوف السائد. ليست بيات ذلك النوع من الكتّاب الذي يمكنك أن تتخيله غارقا في إغراء كتابة مذكراته لأن الأنوية الطاغية ليست من سمات طبيعتها .
ربما لم يفعل روائي ما فعلته بيات لتوسيع آفاق الرواية الانكليزية التي تدين بفضل كبير إلى ميلها الجارف للبحث والمساءلة اللتين أظهرتهما بيات في روايتها المميزة ( استحواذ Possession )التي تعد المثال الأعظم والأكثر فتنة بين الروايات الرومانسية التي يحتفظ بها الأرشيف الانكليزي ، كما اثبتت الفانتازيا العلمية التي كتبتها بيات المعنونة ( مورفو يوجينيا Morpho Eugenia )كونها مثالا تعليميا للكتّاب الشباب لا يمكن تجاوزه . بفضل بيات وطموحاتها المتعددة الآفاق لم تعد الكتابة الانكليزية محض مسألة تتناول علاقات عابرة ومماحكات اجتماعية وتحولت باتجاه القضايا الخلافية الكبرى في التاريخ والفن والافكار . ثمة القليل فقط من الروائيين من استطاع لاحقا القيام بمهمة شاقة مثل مهمة بيات في الربط بين تطلعات العقل الشغوف مع الدوافع الفردية والرقة اللامتناهية ، لكن لم ينجح روائي مثلها في تناول كل من النظرية التطورية الداروينية وموضوعة الشغف الجنسي التاريخية الحاضرة دوما . هناك قلة من الكتّاب ممن يديمون دفق الفضول العقلي الطاغي الذي تملكه بيات وممن يرون في معايشة المتع العقلية بهجة لا تضاهى .
قريبا من مسبح منزلها الفرنسي الصيفي وحول طاولة صغيرة صُفت عليها اقداح الشمبانيا كان لنا معها حوار مطول وممتع للغاية في خريف عام 2001 وقد ظهر الحوار في العدد 168 من مجلة باريس ريفيو..
* تحت اية ظروف كتبت روايتك الاولى ( ظل الشمس The Shadow of the Sun ) ؟
– يمكنني القول بأنني لم أكتب شيئا عندما كنت في الجامعة لكن في الحقيقة كنت أجلس معظم الوقت بين المحاضرات ( التي لحسن الحظ لم تكن كثيرة ) أكتب هذه الرواية التي ذكرتها بهدوء وكأنني مسكونة بها .
* ربما كتبت في هذا الوقت المبكر من حياتك لأنك لم ترغبي في الانتظار الطويل للعثورعلى حكاية مناسبة؟
– لا ، بل انني عندما أنظر الى تلك السنوات البعيدة أجدني لا أملك الرغبة الملحة للوقوع في فخ الكتابة ، لكن من الطبيعي ان استجابتي لأية دهشة ناجمة عن قراءاتي الكثيرة ، كانت في مسعاي الملّح لان اكتب.
– هل كتبت شيئا عندما كنت لا تزالين طفلة بعد؟
– نعم كتبت الكثير الذي أحرقت معظمه قبل أن اغادر مدرستي الداخلية . كتبت لي مرة احدى صديقاتي في تلك المدرسة رسالة من كندا تقول لي فيها انها لا زالت تتذكرني وهي تقرأ بصوت عال قصة مغامرة كاملة كنت قد كتبتها في تلك المدرسة . كانت القصة تدور حول شخصية ذكر في ثياب امرأة يدخل مدرسة داخلية للبنات ، وهنا يمكنك أن تدرك كم كانت حاجتي ملحة إلى الشخصيات الذكورية منذ ذلك الوقت .
* ثمة صورة قوية للغاية عن الإبداع الطفولي في روايتك الثانية ( اللعبة The Game ) أراها تتناغم مع ما فعلته الاخوات برونتي . ألا ترينها انت كذلك ؟
– نعم هذا صحيح تماما . كانت للرواية علاقة وثيقة مع ما أخبرني به رجل عن أخته التي اعتادت ان تلعب مع لوحة ألعاب خيالية تحرك عليها قطعا خيالية . هذا شيء يشبه تماما ما أخبرنا به ( هنري جيمس ) حول صعود السلم وبلوغ المعلومة التي نحتاجها . إن كثيرا مما أكتب يدور حول موضوعات : الحاجة والخوف و التوق إلى العزلة . أرى الخيال المشترك للأخوات برونتي على العموم مروعا .
* بالعودة قليلا إلى روايتك الاولى ( ظل الشمس) حدثينا قليلا عن ظروف نشرها.
– عندما غادرت كامبردج ذهبت الى الولايات المتحدة لقضاء سنة كاملة كطالبة دراسات عليا ومن هناك بدأت كتابة روايتي الثانية ( اللعبة ) بعد أن وضعت روايتي الاولى ( ظل الشمس ) في الأدراج ، ثم عدت في نهاية سنتي في أمريكا الى اكسفورد التي منحتني مزيدا من الرؤية لأكمل رواية اللعبة إذ كان علي دوما أن أعقد مقارنات بين عقليتي الأكسفوردية ونظيرتها الكامبردجية وهو ما دأبت ( أيريس مردوخ ) على سؤالي عنه دوما . تزوجت عام 1959 وذهبت للعيش في مقاطعة ( درهام ) التي كانت لا تزال منطقة قروسطية ففي تلك الأيام يأخذون منك منحتك أذا كنت امرأة متى ما تزوجت في حين يزيدون قدرها للرجل!!! لكنني في داخلي فرحت من الأعماق لهذا الإجراء لأنني كنت أرغب أن أكون روائية بدل أن انتهي أستاذة اكاديمية وقد جاء قرار قطع المنحة عني ليسرع في اتخاذي قراري المناسب . وضعت مسودة ( اللعبة ) في الأدراج وعملت على إعداد روايتي الاولى للنشر في وقت كان لدي طفلان ، وقد اعتدت أن اكتب وأواصل الكتابة بيد بينما تؤرجح يدي الاخرى طفلي الجالس في كرسيه الصغير الهزاز . عندما أنجزت مسودة عملي الاول عرضته على أحد الاكاديميين من درهام فعلق عليه “ربما عليك ان تضعيه في الدرج وتباشري عملا آخر غير الكتابة منذ الان” ، ولك ان تتخيل كم كانت دهشتي عظيمة عندما كتب تعليقا لناشري بأنه كان أول من شجعني في مهنة الكتابة .
* يبدو لي انك كنت تكتبين ما تودين كتابته انت لا بما كانت الدوائر الادبية و الثقافية تود سماعه تلك الأيام . كيف استقبلت تلك الأوساط عمليك الأولين ؟ وأي تأثير كان لهما ؟
– يمكنني القول ببساطة أن قبول كتابيَّ الأولين قد اقترن مع حقيقة كوني أخت ( مارغريت درابل Margaret Drabble ) التي كانت كاتبة هي الأخرى . لم يكن أحد يهتم بما كنت اكتب حتى وقت طويل لاحقا . كانت أختى حينها قد نشرت روايات عديدة وكانت أسرع مني في الكتابة بكثير وأعتقد على العموم انه كان أمرا مفيدا جدا لي على المدى البعيد لأنني لم أمر بتلك الحالات المصاحبة للكتاب عندما يبدأون النشر مثل القلق العارم والخشية من عدم القبول . كان لدي ذلك الرعب البسيط من أن يشار الي على انني أخت ” فلانة ” من الناس . كان من المهم لي و لوقت طويل أن لا اقرأ أيا من مراجعات كتبي .
* كتبت كتبا مميزة في النقد الادبي . أتساءل هل ندمت يوما لان أعمالك الروائية أخذتك بعيدا عن ميدان النقد الادبي؟
– لا أبدا لم أندم حتى للحظة واحدة . كتاباتي الاكاديمية أنجزتها لأسباب أهمها أنني كنت أقوم بفرز ما أحتاج التفكير فيه ككاتبة . أفكر في أعمالي النقدية التي استمتعت بها كثيرا بطريقة تتماشى مع ما فكر فيه ( كولردج ) عندما كتب عن الشعر ، و ( تي . أس . أليوت ) في مقالته الفريدة عن النقد و كذلك مقالات (جورج اليوت) التي أحبها جميعا . قبلت وظيفة جامعية عام 1972 لسببين : الاول انني كنت أكن تقديرا كبيرا لـ “فرانك كيرمود” الذي كان يرأس القسم الذي انضممت اليه ، والثاني لان زوجي أشار الي بضرورة العمل للحصول على مرتب يكفي لتسديد اقساط المدرسة الداخلية لابننا ، لكن للأسف حصل ان أبننا جارلس قتل في الاسبوع ذاته الذي بدأت فيه وظيفتي الجامعية ( توجد ملاحظة في خاتمة الحوار تفيد بان جارلس قتل على يد سائق شاحنة مخمور وهو عائد من المدرسة ، المترجمة ) . واصلت التعليم في الجامعة لإحدى عشرة سنة وكان من المفيد لي بعد ان فقدت ولدي أن يكون لي طلبة في الجامعة وأن يكون بمقدوري أن اذرع شوارع لندن في طريقي الى الجامعة وبعد رجوعي منها بدل ان أجلس و انتحب وحدي في المنزل . لم احسب يوما نفسي اكاديمية خالصة ولم ار في العمل الاكاديمي أكثر من وسيلة للحصول على المزيد من المال الذي يمكنك في النهاية من الاسترخاء والتفرغ لما تحب ان تقوم به من عمل وللحصول ايضا على قدر مهم من الاستقلالية رغم أني ارى السعي وراء المعرفة عملا مهما ورائعا.
______
*المصدر: المدى