سياسة الذاكرة


*لينا هويان الحسن


لا يمرّ يوم من دون أن نلمح فيه طيفا مخاتلا للذاكرة، كأن نحتفل بذكرى رحيل مبدع ما، أو ذكرى معركة بعينها، أو نهاية حرب.. وعلى الرغم من ازدحام مثل هذه الاحتفاءات، وضرورتها وشرعيتها، لكن تظل هنالك احتفاءات محرضة، ملوثة، غير بريئة بالمطلق.
إذا كان ثمة زمن للنقل، وزمن للتلقي، فإن ثمة أيضاً «زمناً للصمت، وزمناً للكلام» فالذاكرة ترفض أن تصمت، وكونها قاهرة، وكلية الحضور، غازية، مغالية وتعسفية، فإن من المبتذل أن نذكر بأن سلطتها مدينة لقلق الأفراد والجماعات الباحثين عن أنفسهم. وإذا كنّا نعاني من «الأرشيفات»، ومن الآثار والذكريات، وإذا كنا نعتبر أنفسنا مدينين للذاكرة، فالسبب ثمة ضروب شتى من الندم، جعل الناس حساسين لواجب الذاكرة.
أكثر ما شهده هذا العصر، نشاط ملحوظ ضمن حركة استعادة الذاكرة، ذاكرة المعتقلات والجرائم، بحق الأقليات، والمجازر، مما يعطي صورة أكيدة أن العالم لا يريد المزيد من الحروب والقتل والتصفيات والابادات. لكن الاجرام لا يعرف حدودا ولا نواميس.
احتفالات متعددة بالذكريات التراجيدية، إنها العودات المستمرة إلى الذاكرة، عودات لم يكن ثمة لولاها على ما يبدو «هوية ولا ثقافة».
عدم الاستجابة لواجب الذاكرة إنما هو التعرض للزوال فالنسيان يمكنه أن يكون سبب فقدان المرء ذاته، ولكن التذكر أيضا يكون سببا للحزن، وربما للحقد وتأصيله وتوريثه، وهذا اجتراح خاص بالمناسبات الدينية.
أن ننسى، في ذلك مجازفة مدمرة لهويتنا لانتماءاتنا، وأن نتذكر فإننا نهدد حاضرنا بحزن عميق ونقمة جاهزة للانقضاض على مستقبلنا!
مسألة الصفح وما يرتبط بها من مفاهيم كالمصالحة والتسامح والاعتذار والندم والتوبة والرحمة، إضافة إلى الأشكال المؤسسية للصفح مثل العفو والعفو العام. ولا يخفى ما لهذه القضية اليوم من أهمية. ذلك أن من يجيل النظر في مختلف مشاهد التوبة والاعتراف أو الاعتذارات التي تتناسل على المسرح الجيوسياسي، وبشكل متسارع منذ بضع سنوات، لا يلبث أن يرى إقبالا متزايداً على طلب «الصفح»، ليس من قبل الأفراد فحسب، بل أيضا من طرف جماعات بأكملها، هذا يحدث في اوروبا.
المصالحة تستهدف «طي صفحة الماضي»، أما الصفح فيستلزم ذاكرة فعالة تستحضر الشر ومعه الجاني. إن تكاثر مشاهد التوبة والصفح المطلوب اليوم يدل على حاجة مستعجلة للذاكرة، وعلى الرغبة في التوجه الصريح نحو الماضي. على هذا النحو يعمل الصفح ضد المؤسسة التي تنزع بطبيعتها إلى «تدبير النسيان»، وأحيانا تحت غطاء الاحتفال بالبدايات والتسامي بها و «تخليدها» المتواتر. صرح مانديلا ذات مرة: «نعم للصفح، لا للنسيان».
——–
السفير

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *