حساء العظم.. رحيق الذاكرة


*خيري منصور

في صباه اللاتيني شأن العديد من أبناء جيله حلم ‘ماركيز′ بالحياة في باريس، وهي ‘النّداهة’ التي اجتذبت إليها كتابا وفنانين وشعراء من كل القارات، لكن الفتى الكولومبي كان محظوظا، لأنه ظفر بالسكن في غرفة كانت احدى العائلات الفرنسية قد خصصتها لإستضافة كتاب من الشباب، وبالرغم من ذلك كانت حياة امثاله في باريس بالغة القسوة، مما اضطره وبعض اصدقائه الى تداول العظم من اجل وجبات من الحساء، لابد ان آخرها كان مجرد ماء، او اشبه بالحكاية المعروفة في تراثنا عن المرأة التي كانت تخدع اطفالها الجياع بغلي الحصى في الماء.

في تلك الآونة اجتذبت ‘النداهة’ الباريسية مبدعين في مختلف المجالات، وكان العراب الراعي كما يقول همنغواي هو الشاعر ‘ازرا باوند’ الذي لم يبق واحد ممّن استضافهم ورعاهم الا وطعنه في الظهر، وتلك بالطبع حكاية اخرى.
والمهم ان من تناول حساء العظم المستعمل لسدّ الرّمق عاد ليقدم حساءه الروائي الخاص الى الغرب وفي المقدمة منه فرنسا التي سحرتها الرواية المشحونة بالاسطورة والمضمخة بأسرار القارة البكر، ولم يكن اطلاق عنوان مثل رائحة الجوافة على حوارات مبكرة مع ‘ماركيز′ إلا تعبيرا عن ذلك الشغف المفقود، في القارة الداجنة، التي فقدت شبق الحياة وحوافزها في فترة ما بين الحربين، حين بلغت شكوك الأحفاد بما انجزه الأجداد حدا من العدمية التي كانت افرازاتها سلالة من اللامعقول سواء مسرحيا او فنيا، ولعلّ الدادائية وهي كلمة لقيطة لا جذر لها في المعاجم هي التعبير الأدق عن فترة الفراغ الروحي السحيق.
ما اجتذب اوروبا في المنجز الأدبي لأمريكا اللاتينية ليس فقط سحرية الواقع او ما سمي الواقعية السحرية، بل تلك الطّزاجة في تناول التفاصيل اليومية، ثم الإغداق الفنيّ عليها بحيث تجترح معمارا غير مسبوق في الرواية التي عرفت بأنها ملحمة البرجوازية الأوروبية.
وقدر تعلق الظاهرة بماركيز الذي مات مرارا وليس مرتين فقط على غرار ‘كانكان العوام’، فهو عبر الحدود كلها بموهبة من طراز فريد، زاوجت بين العسر واليسر، وبين المألوف والمستهجن، لكن هناك هاجسا لم يفارق الروائي على الاطلاق وهو الخوف من البطالة بمعناها الفكري والروحي وليس بالمعنى الاقتصادي المعروف، تجسد هذا الهاجس في بطالة الكولونيل المتقاعد، وفي خواتيم حيوات لشخوص لم تجد لديها ما تفعله غير ان تموت، وربما لهذا السبب عانى ‘ماركيز′ اكثر من اي مؤلف اخر مما يسمى قتل الأبطال في الادب، ففي احدى رواياته، اطال من فترة احتضار البطل لكنه كان مضطرا لاسباب روائية الى قتله، وحين قتله ارتمى لأكثر من ساعة على السرير وهو يبكي، وهذا يذكرنا بما قاله ناقد انجليزي عن ‘كازنتزاكي’ قال ان ‘كازنتزاكي’ خلق ‘زوربا’ لكنه لم يستطع قتله، وكأن الشخصية هنا تتمرد على المؤلف، ثم تصبح منافسه له في الشهرة، تماما كما هو ‘هاملت’ بالنسبة لـ’شكسبير’، و’جان فالجان’ بالنسبة لـ’فكتور هوغو’، ولعله امر يتجاوز المصادفة انني وجدت في عنوان مذكرات ‘ماركيز′ قبل اسبوع من رحيله احد تجليات ‘شهرزاد’ في الليالي الألف، فهو كما يقول عاش ليروي.
وشرط السرد هنا ان يتحول الواقع المعاش الى الذاكرة كي يعاد انتاجه محررا من شوائبه، لهذا كان من الممكن له ان يقول عشت لأتذكر ثم لأروي، بخلاف ‘نيرودا’ ابن القارة ذاتها الذي قال اشهد انني عشت، حيث لم يكن بصفته شاعرا مضطرا الى اعادة انتاج واقعه كي يقدمه مجروما من العظم او منقى من غبار النهار هذا اضافة الى الحسية المشهودة بوضوح في تجربة ‘نيرودا’.
ما اعتدناه في وداع امثال ماركيز هو طقس الاحتفاء، والتلويع بالورق الابيض بدلا من الكتابة عليه رغم ان مثل هذا الوداع كي يليق بهؤلاء يجب ان يقشر الطلاء الاعلامي الذي يتعامل مع المشاهير بالجملة وبالوصفات النموذجية باتجاه نخاع التجربة، وهذا ما قاله ‘لوركا’ ذات يوم حين اشار الى شكل العمل الادبي، ومضمونه باعتبارهما اللحم والعظم، والمسكوت عنه الأقنوم الثالث الذي يعطي النص نبضه واستمراره وهو النخاع.
*********
لم يجد ماركيز حرجا من ان اي نوع في الكتابة عن كل ظواهر الحياة، بدءا من البغايا حتى القراصنة البريين، وليس انتهاء بالفنانة الكولمبية ‘شاكيرا’، التي ودعته على طريقتها عشية رحيله، وكتب ماركيز تحقيقات صحافية، ولكن باسلوبه وعلى طريقته، منها ما كتبه عن المخرج الذي نفي عن تشيلي ثم عاد اليها متخفيا ومخترقا كل اسوار الديكتاتور بنيوشيه، واطلق على هذا العمل اسم رحلة المخاطر تقمص فيها صديقه الفنان ميغيل ليتين وتحدث بضمير المتكلم، رغم ان معظم ما كتبه كان قد استمع اليه خلال عدة ايام من ميغيل.
لهذا ليس عسيرا على الباحث الحصيف ان يعثر على الأسس والركائز الواقعية للكثير من اعمال ماركيز، تماما كما فعل الناقد فيليب يونع وهو يقرأ اعمال ‘همنجوي’، وتحديدا العجوز والبحر التي قيل انها حكاية صياد اصغى اليها الكاتب وثمة من يقولون انه اشتراها.
ان مجرد سرد قائمة باعمال ماركيز يكفي لتسويد صفحات مقالة احتفالية لكن الابعد من ذلك هو السؤال الاشكالي الذي حوله بعض النقاد الى مساءلة روائية حول ما انجزه ماركيز وبعض زملائه من قيامة ادبية في القارة المنهوبة والتي قفزت برشاقة من الهامش الى المتن، فهم عادوا الى اوروبا من خلال ابداعاتهم فاتحين بعد ان لاذوا بثقافتها كمهاجرين فهل كان هذا بفضل الفائض في واقعهم المضمخ بالاسطورة!.. ام بفضل فائض الموهبة الذي حول الفحم الى ماس، بحيث اصبح ماركيز بالتحديد اشبه بميداس لكنه لا يحول التراب اذا لمسه الى ذهب، بل يحول الحكي الى رواية ذات معمار باذخ.
انها مناسبة ايضا لاستقراء ظاهرة ثقافية عربية هي اننا نقرأ منتج الثقافات الاخرى مصحوبا بالنقد الذي واكبه او اعقبه في تلك الثقافات وكأن هناك اعترافا غير معلن بقصور نقدي ازاء اعمال غير مسموح لنا الا بالاختلاف حول اساليب الاحتفاء بها لهذا عندما عبر طه حسين عن رأيه برواية الغريب لألبير كامو ووجه بالاستهجان رغم انه لم يصل الى الحد الذي عبر عنه ‘تولستوي’ مثلا حول اعمال شكسبير التي قال بأنه لا يستطيع اكمال قراءتها وتكرر الامر مع اخرين منهم الروائي ادوارد الخراط حين كتب عن رباعية الاسكندرية من منظور نقدي مضاد للسائد وكان علينا كعرب ان ننتظر ما كتبه القس اوبراين عن رواية الطاعون لكامو التي اعتبرت رواية مقاومة لاستعمار الجزائر وقد استخدم الكاتب رمز الطاعون للتعبير عن الاحتلال، وما قاله اوبراين هو ان رواية اسماء شخوصها فرنسية وتخلو من اسم عربي واحد هي تعبير عن اللاوعي لدى المؤلف ازاء الحدث الذي كتب عنه، لهذا تسللت جرثومة الطاعون من صفحات الرواية لتصيب المؤلف!.
ان ثقافة تعتاش على الاصداء على حساب صوتها المختنق ومصابة بسايكولوجيا المغلوب انطلاقا من التوصيف المبكر لإبن خلدون عليها ان تتلقى فقط، فاذا كنا في الصناعة نتلقى المصنوع مع قطع غياره ففي الثقافة يحدث ذلك ايضا ونتلقى المنتج الادبي مع النقد الذي كتب عنه بلغته او بلغات اخرى، فالترجمة على ما يبدو مصطلح يتجاوز النصوص ليشمل واقعا بأسره بحيث يصبح واقعا مترجما لكن بتصرف!.
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *