رلى راشد
في منطق جنوب العالم لا مشكلة البتّة في استدعاء الأرواح إلى عالم البشر وفي أن يُسمح لها بالإختلاط بالآدميين وبمشاركتهم كل لحظة غبطة وبؤس وتردّد.
والحال ان نيليدا بينيون البرازيلية المولودة في ريو دي جانيرو لوالدين إسبانيين استطاعت في منجزها أن تُقدّم أبهى نموذج على الفساحة بين العالمين الراهن والمنصرم، وبين البُعدين الأرضي النهائي والماورائي المفتوح على جميع الإحتمالات.
تورد بينيون في أحد أجزاء كتابها “خبزٌ في كل يوم” الجامع بين الملاحظات والمقالات والصادر في 1994، ان بعض الأصوات التأليفيّة تفيد من حظ سعيد أحيانا يسمح لها بأن تتحالف مع إرث الحكايات الشفوي ذي الحضور الطاغي في أميركا اللاتينية. والحال انها سمحت لهذه التركة بأن تُشكّل جزءا من معيشها التأليفي، فكتبت في هذا السياق وفي صراحة لافتة: “تتناول الأساطير الطعام إلى طاولتنا”.
بينيون إسم تأليفي ذائع الصيت وواسع التأثير في مسقطها البرازيل وامتدادا في العالمين الناطق بالبرتغالية أولا والقشتالية ثانيا. وليست “جائزة أمير أستورياس للآداب” المهيبة في إسبانيا التي ركنت إليها في 2005 أو عضويتها في “الأكاديمية البرازيلية للآداب”، سوى محطتي تكريم في سياق تجربتها المتمهّلة عند الهجرة من جهة، وعند الأسرة ومفاهيمها من جهة ثانية.
في “قميص الزوج” أحدث إصداراتها القصصيّة بعد غياب عن النوع، نصادف مجموعة من الناس خلال الإنزلاق إلى لحظات الكره والمهانة والعنف، نتقرّب مما يصح معاينتها التروما الأسريّة. ها هنا نواجه نظرة سوداوية للعائلة التي وعلى ما يأتي على لسان إحدى الشخصيات، لا تأتينا بالسرور فحسب وإنما تُجهز علينا أيضا. لا يمكن وفق بينيون الفرار من الأسرة ومن النواة ومن القبيلة. تزيد اننا لسنا مُنتج أُُسرِنا فقط وإنما نستخدمها في المحصلة كمثال غصباً عنا أو بمحض إرادتنا، حين يحلّ زمن تكوين أسرنا الصغرى.
منذ الصفحات الأولى لحكاية “قميص الزوج” التي تمنح هويتها للمجموعة نجيء الى هذا المناخ المُرتاب من العائلة بل ونصل إلى أكثر القصص إيغالا في هذا المنحى. ها هنا الجريمة حاضرة في المستهل كما في النهاية.
نقرأ “حين رَجِعَت من المقبرة، تولّت إيليزا ترتيب مقتنيات زوجها المتوفي. تصرّفت كما لو أنه سافر من دون الإبلاغ وكما لو أن الوقت لم يسعفه ليهتم بأغراضه الشخصية. توجّهت صوب غرفة النوم على نحو غير مبال ظاهريا، كما لو أنه كان لا يزال على قيد الحياة وكأنها لا تعرف أي شيء عن تفاصيل موته. تصرّفت تاليا كأنها جهلت ظروف قتله وكأنها لم تحتج لكي تتشارك مع أبنائها الشكوك التي حامت حول هوية المنفذ. إهتمت أكثر بالإدعاء أن الموضوع لم يعنها وأنها غير مضطرة لاتخاذ أي إجراء. والحال انها تصرّفت على هذا النحو من دون الإكتراث للخشية التي أصابت العائلة التي تناولت الطعام في هذه الإثناء خلال السهر على الميت، قبل أن يجري غلق التابوت. كانت إيليزا صاحبة اقتناعات راسخة، وإحداها أن الحياة لن تلبث أن تحمل الميت المُذنب الى المنزل، حيث سيسجّى على طاولة المطبخ ليواجه لعنته والإحتفال العائلي”.
تشكل التفاصيل عند بينيون القماشة التي تلوّن السرد، والحال أن الكاتبة لا تلبث أن تروح تصف إيليزا حين تدخل وفي أعقاب مراسم الدفن إلى غرفة نومها وحيدة ولأول مرة خلال الأعوام الثلاثين المنصرمة. تخلع السيدة ثيابها لتواجه مرآة تبيّن جسداً تسلّلت إليه الشيخوخة، ثم تخرج قميص النوم الذي ارتدته في ليلة زفافها وفاحت منه الآن رائحة النافتالين من جراء الإغلاق عليه في الجارور لأعوام عدة”.
تتقدّم مجموعة “قميص الزوج” الصادرة منقولة إلى القشتاليّة لدى دار “الفاغوارا” الإسبانية أخيرا كمديح للخيال والسرد وكموسوعة للمشاعر الإنسانية الموزّعة في تسع قصص تطلّ على الحب والكره وتمرّ بالشفقة والغيرة والرغبة والخشية والوحدة والإنتقام.
تكتب بينيون نيابة عن الإنسان عموما وعن مواطنيها البرازيليين خصوصا، تستأذنهم لكي تسرد “جمهورية الأحلام”، على ما عنونت أحد نصوصها، أحلام سطوة الطبقات القادرة من جهة وكوابيس المُعدمين من جهة ثانية.
—–
النهار