*محمود شقير
خاص ( ثقافات )
الحلقة الأولى
1
نسيناها ولم نعد نتذكرها إلا قليلاً. لم أعد أذكر في أي يوم ماتت. نسيت اليوم، وما زلت أذكر الشهر والسنة.
ربما كان هذا النسيان مظهراً من مظاهر التقليل من شأن النساء في عائلتنا، مظهراً يبرز بين الحين والآخر، لديّ ولدى بقية أفراد العائلة (لدي! وأنا الذي انتميت إلى فكر يحض على المساواة بين المرأة والرجل)، رغم ادعائي أن أمينة هي أختي الغالية التي تأتي بعدي مباشرة في الترتيب التنازلي لأخواتي اللواتي ظلت أمي تنجبهن تباعاً، مسببة لأبي انزعاجاً، لأنه يريد أبناء ذكوراً. كنت حتى ذلك الحين، في السنوات القليلة التي سبقت النكبة الكبرى، طفله الوحيد بين عدد من البنات. قال لي أحد الأطفال بعد ولادة أختي الخامسة: أبوك سوف يجن حينما يعرف أن أمك ولدت بنتاً أخرى.
كان أبي يعمل في مكان بعيد. وحينما عاد إلى البيت بعد أسبوع، لم يُجن كما تنبأ ذلك الولد. اعتراه فتور وعدم ارتياح. هذا ما أوضحته لي جدتي مريم التي اعتدت النوم قريباً منها، بعد أن لفظتني أمي بعيداً، لكي تتفرغ لهذه الطفلة الوافدة.
أذكر أنها ماتت في الربيع. بعد ظهر أحد الأيام من أواخر شهر أيار العام 1966 . كنت أعمل مدرساً، وإلى جانب ذلك أكتب قصصاً قصيرة ومقالات، وأقيم في مدينة رام الله بعيداً من بيت العائلة. عاد بها أبي من مدينة الزرقاء وهي في حالة صحية سيئة. كانت صبية ممشوقة القوام، سمراء جميلة، تنطوي على خفر وحياء.
لم أتوقع أن ينتهي زواجها بهذا الاستعجال. ظهرت الخلافات بينها وبين زوجها منذ الأشهر الأولى للزواج. ذهبتُ مرة إلى مدينة الزرقاء لزيارتها وللاطمئنان عليها، غادرتُ المدرسة التي أعمل فيها بعد ظهر الخميس وذهبت إلى الزرقاء. ركبت سيارة أجرة أخذتني إلى عمان ومن ثم إلى الزرقاء. لم تكن الطريق إلى عمان تستغرق أكثر من ساعة، حيث لا مركز حدود ولا احتلال.
تكتظ أحياء الزرقاء بالبيوت البسيطة المتلاصقة، التي تسكنها عائلات الجنود وصغار الموظفين والتجار وأصحاب الحرف. سألت عن البيت مستعيناً بالعنوان الذي أحمله معي، وبعد بحث واستفسار اهتديت إليه. لم أجد زوج أختي هناك. كان جندياً في كتيبة للدبابات، وقد شاء سوء حظي يومها أن تعلن الكتيبة عن ليلة للمناورات والتدريب، فلم يعد إلى البيت تلك الليلة ولا في اليوم التالي. فرشت لي أختي فرشة على الأرض، خلعتُ نعلي وجلست. حاولت أختي أن تكتم أحزانها، وألا تخبرني شيئاً من معاناتها. خمنت أن ثمة منغصات تحدث لها. وأن صراعاً يومياً يدور بينها وبين أم زوجها التي تقيم معها في البيت.
قمت بتوجيه نصائح عامة وتمنيات، استمعت لها أختي وحماتها. الحماة أبدت تجاوباً ظاهرياً مع هذه النصائح، مؤكدة أن كل شيء في الأسرة على ما يرام. أثبتت الحقائق اللاحقة أن الأمور لم تكن على ما يرام. نمت تلك الليلة في بيت أختي. وفي الصباح التالي غادرت البيت وعدت إلى القدس، ولم أر أختي مرة أخرى إلا بعد ذلك بأشهر، وكان ذلك في بيتنا.
2
لو أنها لم تمت في سن مبكرة. لو أنها لم تؤخذ دون التشاور معها، إلى هذا الزواج. لو أنها كبرت وانتمت إلى الفكر الذي انتميت إليه. لو أنها مشت في مظاهرة. لو أنها حملت علماً وسارت بين الجموع. لو!
3
زرت الزرقاء بعد موتها مرات عديدة. والآن، فإن اثنتين من أخواتي تقيمان في الزرقاء، ولدى كل منهما بيت وزوج وأولاد. ولم نكن نتذكرها إلا قليلاً ونحن نجلس للسمر في أمسيات الصيف أو في ليالي الشتاء. مضت إلى مصيرها منذ سنوات. ومدينة الزرقاء تكبر وتتمدد، بعد النكسة التي دفعت إليها أعداداً متزايدة من الفلسطينيين، الذين نزحوا إليها وإلى غيرها من المدن الأردنية والعربية.
تقع المدينة على أطراف الصحراء، ولها طقس صحراوي حار صيفاً بارد في الشتاء. والأختان اللتان تقيمان هناك، تتذكران بين الحين والآخر أن أختاً لهما كانت هنا من قبل، والذكرى تمر على نحو عابر، والمدينة تستمر في التمدد نحو الهضاب الجرداء.
وهي لم ترسخ في ذاكرتي على نحو ملموس، رغم كثرة الليالي والأيام التي أمضيتها فيها، زائراً في بيوت الأختين وغيرهما من الأقارب الذين احتشدوا فيها لسبب أو لآخر. ظلت بالنسبة لي مدينة طرفية مشغولة بولادة أحياء جديدة مكتظة بجنود وعمال وحرفيين وتجار.
عمّان كانت هي الأرسخ في وعيي، لما لها من مكانة وتاريخ وحياة يومية متشعبة ونوافذ مفتوحة على الثقافة. ولا أدري إن كانت أختي أمينة زارت عمان خلال إقامتها مدة عام أو أقل قليلاً في الزرقاء. أظن أنها لم تزرها لأنها كانت زوجة جندي لا يجد الكثير من الوقت، كي يذهب مع زوجته إلى العاصمة، ولم تكن هي تفكر بالذهاب وحدها إليها، لما تتسم به حياة عائلتها من محافظة، شأنها في ذلك شأن العائلات التي تتشابه مع عائلتها، في المستوى وظروف المعيشة اليومية والتطلعات.
أمينة، كما أتوقع، لم تظفر ذات يوم بزيارة عمان.
4
لم يكن موتها هو فاتحة الموت الذي أعايشه في العائلة. قبلها ماتت أختي معزوزة. الطفلة قبل الأخيرة بين أخواتي الست. معزوزة لم تعش سوى عام واحد. لم أعد أذكر منها سوى رقدتها بجسد شاحب وعينين شاخصتين نحو سقف الغرفة، يزداد البياض فيهما، فأخاف من هذا المشهد. أبتعد. يزداد خوفي حينما أرى الرهبة تسربل أمي وجدتي وهما تبخران الطفلة لعلهما تنقذانها. لم يفكر أحد في الذهاب بها إلى طبيب. الطبيب في المدينة، والوصول إلى المدينة ليس سهلاً. البلاد تعيش وضعاً مضطرباً، والقلاقل تنتشر في كل مكان. البلاد على وشك أن تضيع، وأهلها على وشك أن يصبحوا مشردين. ونحن نعيش في بيت استأجرناه في القسم الشرقي من القرية، بعد أن هجرنا بيتنا القريب من خطر الهجمات الصهيونية التي اضطرتنا واحدة منها إلى مغادرة البيت.
ماتت معزوزة بعد يومين من المرض. قالت أمي إنها ماتت بسبب الحسد. حسدتها إحدى نساء الجيران، حينما جاءت إلينا ورأت البنت وأبدت إعجابها بها. أمي ما زالت مصرة حتى اليوم على أن لبعض النساء ولبعض الرجال، عيوناً حاسدة لا يمكن اتقاء شرها. حملها أبي، وركب حماره الأبيض واتجه بها إلى مقبرة القرية. ذهبت معه جدتي. ركضتُ خلفهما وذهبت إلى المقبرة لأشاهد جسد أختي الصغيرة وهو يختفي تحت التراب.
ماتت جدتي مريم بعد معزوزة بسنوات قليلة. مرضت ولم يأخذها أحد إلى طبيب. شهدتُ لحظاتها الأخيرة وهي على فراش الموت، شعرت بالأسى وأنا أرى الجدة التي لطالما احتضنتني وعطفت علي، تذوي أمام عيني. رأيت أمي تنقط الماء في فمها وتبكي إلى جوارها. بدا المشهد مؤلماً، وتمنيت لو أنني لم أجئ مع أمي إلى بيت جدتي. أمي حاولت منعي من ذلك، عاندتها، مشيت خلفها حتى وصلت إلى هنا. عاشت جدتي حياة شقية بعد أن لفظها جدي، أو ربما هي التي ابتعدت عنه بعد أن ظلمها كثيراً.
لي مع هذه الجدة ذكريات. كنت قريباً منها في سنوات الطفولة. اعتادت القدوم لزيارتنا بين الحين والآخر. تقيم معنا بعض الوقت ثم تغادرنا إلى مكان إقامتها في حي الصلعة، وهو أحد أحياء قريتنا التي تتناثر بيوتها على رؤوس الجبال وبين الوديان. كنت أنام بجوارها. تروي لي حكايات. تضحك بين حين وآخر بصوت يختزن ألماً وحزناً. لم تكن ضحكتها من النوع الذي ينم عن راحة بال. إنها ضحكة متقطعة لا تلبث أن تذوب. كانت تتبادل معي بعض أسرار العائلة، خصوصاً حينما يتعلق الأمر بحمل أمي. تتوقع أن ثمة بنتاً أخرى في بطنها. صدقت توقعات جدتي غير مرة، وبدا هذا الأمر محيراً لي آنذاك.
كانت تنطوي على خجل شديد، تبكي لأقل هفوة تُرتكب بحقها. وهي مسالمة. ولم يكن يزعجني سوى شخيرها حينما تتركني يقظاً ثم يأخذها النوم مني. أتقلب في الفراش إلى جوارها وقتاً ثم أنام.
على العكس منها، جدتي لأبي التي لم تربطني بها إلا صلة واهية. ماتت العام 1958 موتاً مفاجئاً. كانت تجلس مع النسوة في ساحة البيت. دخلت غرفتها التي تتقاسمها مع جدي، ولم تكن مريضة. جلست في فراشها وماتت. كانت نحيلة هادئة الطباع. وأنا لا أحمل منها سوى القليل من الذكريات. أذكر ضحكتها الرقيقة وتمنياتها لي بالسلامة، كلما قدمت لها أو لجدي خدمة صغيرة. كانت هي الأخرى امرأة مسالمة.
جدي لأبي مات بعد مرض استمر ثلاثة أيام. لم أحضر جنازته. كنت في دمشق، أقدم امتحانات السنة الجامعية الأولى. كان حاد الطباع في أول حياته، وانتهى شخصاً معتكفاً في غرفته مترفعاً عن متاع الدنيا. قيل الكثير عن قسوته على زوجتيه، وعن ظلمه لأخويه ولبعض أبناء العشيرة. ربما وقعت مبالغات حول ذلك، وربما كان بعض ما قيل صحيحاً. مات قبل أمينة بخمس سنوات.
وحينما ماتت أمينة حفرنا لها قبراً قريباً من قبره. أخي الأصغر ابن السنوات الأربع، يجلس إلى جواري تحت البناء الحجري للقبر. والأقارب يهيلون التراب على جثمان أختي. أسأله: هل تعرف من هي التي ماتت؟ يقول: إنها أمينة! وهو لا يعرف الحزن في عمره ذاك.
_________
*روائي وقاص فلسطيني.