باسم الأشياء-قصائد لصوفيا دي ميللو.




ترجمة: أماني لازار




صوفيا دي ميللو براينر أندرسون (6 نوفمبر 1919 بورتو، 2 يوليو 2004 لشبونة) كاتبة وشاعرة برتغالية كانت واحدة من أهم الشعراء البرتغاليين في القرن العشرين. كتب ريتشارد زينيث في مقدمة ترجمته لمجموعة مختارة من قصائدها صدرت عام 1997:


من اسمها يبدأ العالم الإغريقي وروحه: “صوفيا”. في الواقع تبدو حكمتها خاصية فطرية وهوية أكثر من كونها معرفة مكتسبة. حدس طبيعي بدلاً من مهارة تحليلية مصقولة. إذا كان اسمها مصادفة سعيدة فقد كان كذلك اكتشافها المبكر لهوميروس، الذي قارنت عالمه بمعرفتها المبكرة لشاطئ البرتغال: ” كانت أمي قارئة نهمة وكان لدينا الكثير من الكتب في البيت، وهكذا بدأت القراءة في عمر مبكر. كانت أمي تفضل الروايات الفرنسية لذا فقد كان اكتشافي لهوميروس محض مصادفة. وجدت في المكتبة ترجمة فرنسية للأوديسة وهي قصة يسهل فهمها على الطفل. قرأت الملحمة عندما كنت في عمر الثانية عشرة وكانت كشفاً. أتذكر -مع أني قرأتها شتاءً – كيف شعرت بأني في الصيف، الفصل الذي لم أحب شيئاً بقدر مما أحببته، وقد كنت لأمضي ثلاثة أشهر على الشاطئ في منزل يجاور المحيط. عشنا حياة بسيطة إلى حد ما في ذلك المنزل. كان المحيط أزرق عميقاً ويتلألأ متألقاً. كان هذا العالم هو السعادة عندي، ووجدت عالماً مشابهاً عند هوميروس، في الأوديسة أولاً ثم في الإلياذة.”

قدمت صوفيا دي ميلو براينر أندرسون -المولودة في بورتو عام 1919 -إلى لشبونة شابة للالتحاق بالجامعة. لم تنه دراستها لكنها بقيت في العاصمة وسرعان ما كانت جزءاً حيوياً من حياتها الأدبية. تميز ديوانها الشعري الأول المنشور عام 1944 سلفاً بأسلوبه الكلاسيكي ” النقي” موظفاً القليل من علامات الترقيم. أصبحت كتبها الناجحة رحيبة المواضيع وأغنى فكرياً، لكنها حافظت على الأسلوب النقي وكان أكثر بروزاً مع اختفاء علامات الترقيم كلياً. تعيد هذه الصياغة المركزة الجوهرية إلى الذاكرة ما يسمى بالأسلوب الواضح الذي يميز بعضاً من العمارة البرتغالية الوطنية، التي عزت صوفيا لها تأثيراً حاسماً على شعرها.” تراث البربر من المنازل الحجرية المبيَّضة، القصور والمباني الأكثر بساطة، الواجهات بآجرها الصقيل، تزخر بالانعكاسات كالمرايا، مفعمة بالتخيلات، تخيلاتنا المتفاعلة مع الآجر-أظن أن هذا كله يدخل في شعري.”

بما في نظمها الشعري من صفاء ونقاء بوفرة، كثيراً ما ننسى أن الغموض يتربص في أعمال صوفيا أيضاً -في زي مينوتور، إلسينور، الآلهات الانتقاميات، وسواها من شخصيات تاريخية. لكن “يتربص” ليست الكلمة الصائبة تماماً. تفضح قصائدها الشر رغبة في إدانته وطرده (تعرف صوفيا في البرتغال باسمها الأول فقط) تحدثت عن الألم والظلم ليس في كتاباتها وحسب لكن في حياتها الشخصية أيضاً، بانخراطها في القضايا الاجتماعية والسياسية. منتقدة شديدة لنظام سالازار واصلت التحدث صراحة بعد انقلاب عام 1974 وعينت في الحكومة التي شكلها الاشتراكيون عام 1975. بأية حال لم تكن سياسية محترفة أبداً وتخلت عن مهامها الرسمية بعد ما يزيد عن سنة بقليل.

نشرت صوفيا بالإضافة لثلاثة عشر عنوان شعري مجموعتين قصصيتين متقنتين، اعتبرت أحياناً مثل قصائد نثرية. وترجمت للعديد من الشعراء الفرنسيين وعدة مسرحيات لشكسبير والجزء الثاني من الكوميديا الإلهية لدانتي “المطهر”. تزعم أن ترجمة الشعر أسهل من ترجمة النثر بفضل إيقاعه. كما لو أن كل هذه النشاطات لم تكن كافية، أنجبت خمسة أطفال وأنشأتهم-وفي تعبير يرمز لمقاربتها الشمولية للحياة-نشرت ستة كتب ضمن أدب الأطفال. ابتكرت قصصاً عندما كانوا صغاراً لتشجعهم على تحوير وتوسعة الحكايات -التي كتبتها حينها ونشرتها-بأنفسهم. ولا تزال بعد عقود من بين أفضل كتب الأطفال مبيعاً في البرتغال.

قد يستغرب من يزور شقة صوفيا الواقعة قرب قلعة سانت جورج في لشبونة نقص الكتب. ربما يكون هناك غرفة في آخر الردهة تستعمل كمكتبة لكن ليس في غرفة الجلوس سوى مكتبة صغيرة بعض الشيء مختبئة في زاوية غير بارزة. الأعمال الفنية أكثر لفتاً للانتباه، رسومات للبرتغالي الحداثي المادا نيجريروس، نقوش ولوحات لفييرا دا سيلفا، وألواح من السيراميك للعديد من الفنانين بمن فيهم ابنها الأصغر إكزافييه. هناك منحوتة معاصرة أو اثنتين أيضاً وبعض القطع الأقدم من الخزف الهندو -برتغالي. يكشف الأثاث عن ذوق خاص دون مبالغة. فهو قوي، أنيق، بسيط-لاشيء مميز. لكن سرعان ما يدرك الزائر أن كل كرسي وطاولة، وكل عمل فني، صورة، نبتة وكل كتاب، يسكن هذه الشقة مثل كائن حي إلى حد بعيد. ففي كل شيء في العالم الذي هو وطنها-وشقتها دليل واحد وحسب-روح إلهية تستوجب رعايتها. تقول:” إن الشعر شيء حيوي لا ينضب. يبدأ مع علاقتنا بالأشياء إلى الحياة اليومية، علاقة أسطورية، من غير فكر أسطوري ليس بوسع الإنسان سكنى العالم.”

تقول صوفيا دي ميللو عن الشعر:

الشعر هو تفاهمي مع العالم، ألفتي مع الأشياء، مشاركتي بكل ما هو حقيقي، انشغالي بالأصوات والصور. لهذا لا تتحدث القصيدة عن حياة مثالية بل عن الحياة الكائنة: وجهة النافذة، أصداء الشوارع، المدن، الغرف، الظلال على طول جدار.

وهذه مجموعة من قصائدها مترجمة عن الإنجليزية:
1
في هيدرا، استحضار فرناندو بيسوا
عندما رسا القارب عند هيدرا ذات صباح حزيراني
(وعرفت بذلك من صوت الحبل الغارق)
غادرت الحجرة وانحنيت بشوق
على وجه الواقع-أكثر دقة وجدَّة مما قد يخطر في بال
في حضرة النقاء الشديد لذلك الصباح في المرفأ
في حضرة النقاء الشديد لذلك الصباح في مرفأ جزيرة يونانية
همست باسمك
اسمك الغامض
استحضرت ظلك الشفيف الجليل
يشبه الصواري النحيلة لمركب مبحر
وأيقنت بشدة أنك رأيت الصباح
لأن روحك كانت مرئية للغاية
مبهمة للغاية
متناغمة مع حجاب اسمك
أوديسيوس-شخصية
لأنك جلت في أرجاء نفسك كلها من جزيرة إلى جزيرة
من الشاطئ حيث نبتت نخلة تدعى ناوسيكا
إلى الصخور السوداء حيث تطلق السيرينيات العنان لأغنيتها الصاخبة
تُرى منازل هيدرا على المياه
ينبثق غيابك بجانبي فجأة على سطح السفينة
ويصحبني في الشوارع حيث لا أعرف أحداً
أتخيلك مسافراً على هذي السفينة
غافلاً عن ضجيج السائحين التافه
مدركاً فرح الدلافين الخفيف
وسط أزرق الأرخبيلات المنبسط
مستلقياً على مؤخرة السفينة تحت سرب النوارس
الرائع تنثر الشمس منه بتلات طائشة
في خرائب أفسوس، عند السبيل المنحدر نحو البحر
كان إلى اليسار بين الأعمدة الفخمة المحطمة
قال لي أنه عرف الآلهة جميعاً
وأنه جاب الأركان الأربعة
كان وجهه جميلاً ومرهقاً كوجه تمثال نهشه البحر
أوديسيوس
حتى لو تعدني بالخلود فلسوف أعود إلى الوطن
هناك حيث الأشياء التي زرعتها ورعيتها
هناك حيث الجدران التي طليتها باللون الأبيض
في صباح هيدرا صفاء ينتمي إليك
في أشياء هيدرا إيجاز بصري ينتمي إليك
في أشياء هيدرا النقاء الذي يتغلغل فيما يراه إله
-النقاء الذي ردته تحديقة الإله هدية متسرعة
في صباح هيدرا
عند مقهى الساحة المقابل لرصيف البحر رأيت المناضد
يُسرٌ شفيف وعارٍ
ذاك الذي ينتمي إليك
لابد أن مصيرك عبر بهذا المرفأ
حيث يغدو كل شيء مبهماً وحراً
حيث كل شيء إلهي يليق بالواقع
(هيدراـ حزيران عام1970)
2
البحر
I
من بين أركان العالم جمعاء
أكنُّ لذلك الشاطئ العاري والبهيج،
أقوى مشاعر الحب وأعمقها
حيث اتحدت بالبحر، الريح والقمر.
II
أشتمُّ رائحة الأرض الأشجار والرياح
تعبق في الربيع بشتى العطور
حسبي منها رغبةً ومسعى
ثورة الأمواج الضارية
تعلو نحو النجوم كصرخة نقية.
3
أشعر بالميت
أشعر بالميت في برد البنفسج
وبذلك الغموض العظيم في القمر
محكوم على الأرض أن تكون شبحاً،
هي التي تهز كل موت في سريرتها.
أعلم أني أغني على حافة الصمت،
أعلم أني أرقص في زمن العطالة،
وأمتلك زمن السلب.
أعلم بأني أمرُّ بالميت الأبكم
وأحمل في داخلي موتي.
لكني فقدت كينونتي في كينونات أخرى كثيرة،
فقدت حياتي عدة مرات،
قبلت أشباحي قبلاً جمة،
وفي كثير من المرات لم أعلم شيئاً عما أفعل،
سيكون الموت ببساطة مثل الخروج
من المنزل إلى الشارع.
4
سوف ننهض
سوف ننهض مجدداً تحت جدران كنوسوس
وفي دلفي مركز العالم
سننهض مجدداً في ضوء كريت القاسي
سوف ننهض حيث الكلمات
هي أسماء لأشياء
حيث الحدود صافية وتنبض بالحياة
هناك في ضوء كريت الحاد
سوف ننهض حيث الحجر النجوم والزمن
مملكة الإنسان
سوف ننهض لنرنو إلى الأرض مباشرة
في ضوء كريت النقي.
لأنه من الجيد لقلب الإنسان أن ينجلي
وللصليب أن يرفع بسواده المدلهم
في ضوء كريت الأبيض.
5
في الساعة المثلى
تكون الساعة المثلى عندما يرين الصمت
على همهماتنا البشرية المكتومة
ويتكلم أخيراً في داخلنا
صوت الأحلام المتثاقلة الوقور
تكون الساعة عندما الورود هي الورود
التي أزهرت في الحدائق الفارسية
آن رآها سعدي وحافظ وأحباها.
هي ساعة الأصوات الغامضة
اختارتها رغباتي واستحضرتها.
هي ساعة المحادثات الطويلة
الدائرة بين ورقة نبات وأختها.
هي الساعة عندما يكون الزمن ملغى
ولا أعرف حتى وجهي.
6
المربع الصغير
اتخذت حياتي شكل مربع صغير
ذلك الخريف عندما كان موتك مرتب بدقة شديدة
تعلقت بالمربع لأنك أحببت
إنسانية المتاجر الصغيرة في بساطتها وإثارتها للذكرى
حيث يطوي أصحاب المتاجر ويبسطون الشرائط والقماش
حاولت أن أكونك لأنك كنت على وشك الموت
ولم أتمكن طوال حياتي من امتلاكك
حاولت أن أبتسم كما ابتسمت أنت
لبائع الصحيفة لبائع التبغ
لبائعة البنفسج بتراء الساقين
طلبت إليها الصلاة من أجلك،
أشعلت شموعاً في مذابح جميع
الكنائس المنتصبة في زوايا تلك الساحة
بجهد فتحت عيني عندما رأيت وقرأت
نداء الخلود المنقوش على وجهك
استدعيت الشوارع الأماكن الناس
الذين كانوا شهوداً على وجهك
لعلهم ينادونك ويحلون
المنديل الذي كان ذلك الموت يلفه من حولك.
7
شاطئ
تنتحب أشجار الصنوبر مع هبوب الرياح
تدقّ الشمس الأرض ويحترق الحجر.
تتنزه آلهة البحر الوهمية عند حافة العالم
مكسوة بالملح تلتمع كالأسماك.
اندفعت فجأة طيور برية
تجاه الضوء نحو السماء مثل أحجار
تعلو وتهبط شاقولياً
يبتلع الفراغ أجسادها.
تقتحم الأمواج الضوء كأنها ترغب بتهشيمه
مزخرفة طُررها بالأعمدة.
وتوق غابر لتكون سارية
يتأرجح في أشجار الصنوبر.

8
في القصيدة
أن تستحضر صورة الجدار الرياح
الزهرة الكأس سنا الغابة
وعالم الماء البارد القاسي الطاهر
إلى عالم القصيدة القاسي النقي
أن تحفظ من الموت العفن والهلاك
لحظة الكشف والدهشة الراهنة
وتبقي في العالم الواقعي
الإيماءة الحقيقية ليد تمس الطاولة.
_______
*المصدر: مدونة “الأماني” للمترجمة أماني لازار.

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *