في مارس من سنة ١٩٨٤، بدأ خورخي لويس بورخيس سلسلة حوارات على الراديو مع الشاعر والكاتب الأرجنتيني أوسڤالدو فيراري، والتي بدأ اهتمام قرّاء الأدب اللاتيني بها يظهر مؤخرًا. تجدون في المحادثة التالية المجموعة الثانية من هذه الحوارات، والتي سوف تصدر في كتاب كامل قريبًا.
أوسڤالدو فيراري: بورخيس، أحد مقالاتك يحمل عنوان “عن تقديس الكتب” يجعلني هذا العنوان أفكر في كتب وفي مؤلفين تذكرهم باستمرار.
خورخي لويس بورخيس: لا أتذكر أي شيء بهذا الخصوص… هل كنت أتحدث عن الكتب المقدسة؟ عن حقيقة أنه في كل بلد هنالك تفضيل ما لكتب معينة؟.
فيراري: لقد ذكرت السابق، نعم، ولكنك أيضًا أشرت إلى الأشخاص الذين ينتقدون الكتب لصالح اللغة الشفهية. على سبيل المثال، هنالك مقطع لأفلاطون يتحدث فيه عن القراءة المفرطة التي تؤدي إلى إهمال الذاكرة والاعتماد على الرموز.
بورخيس: أظن أن شوبنهاور قال: “أن تقرأ يعني أن تفكر بعقل شخص آخر.” هذه هي الفكرة ذاتها، صحيح؟ حسنًا لا، إنها ليست الفكرة ذاتها ولكنها عدائية تجاه الكتب. هل تحدثتُ عن هذا؟.
فيراري: لا.
بورخيس: ربما كنت أتحدث عن حقيقة أن كل بلد يختار، أو يفضل أن يقدّم بواسطة كتاب ما برغم أن هذا الكتاب لا يمثل بالعادة خصائص البلد ذاتها. على سبيل المثال، يعتبر البعض شكسبير ممثلًا للإنجليزية بالطبع، ولكننا لا نجد أي من الخصائص الإنجليزية التقليدية في شكسبير. يميل الإنجليز للتحفظ والتكتم، بينما يجري شكسبير كنهر عظيم، إنه يزخر بالمبالغة والمجاز، إنه المثال المعاكس تمامًا للرجل الإنجليزي. وفي مثال آخر نجد غوته، لدينا الألمان الذين يصلون بسرعة إلى التعصب، بينما نكتشف أن غوته على عكس هذا تمامًا، رجل متسامح، يحيي نابليون عندما يجتاح نابليون ألمانيا. غوته ليس رجلًا ألمانيًا تقليديًا. الآن يبدو هذا النمط واضحًا، أليس كذلك؟.
فيراري: خاصة في حالة الكلاسيكيات.
بورخيس: خاصة في حالة الكلاسيكيات، نعم. وبالنسبة لفرنسا، فإنها بلد تملك تراثًا أدبيًا ضخمًا لدرجة أنها لا تستطيع اختيار اسم واحد، ولكن إن ذهبنا مع فيكتور هيوغو، نجد أن هيوغو لا يشبه معظم الفرنسيين.
فيراري: في تلك المقالة أيضًا، أشرت إلى الكتاب الثامن من الأوديسة، حيث تسرد حديث الرب عندما أعطى المصائب وسوء الحظ للبشر، كي يجدوا شيئًا بإمكانهم أن يغنوا له.
بورخيس: نعم، هذا صحيح، كانت الفكرة أن يجد البشر لأجيال وأجيال سببًا مقنعًا للغناء.
فيراري: نعم.
بورخيس: حسنًا هذا سبب كافي لإثبات أن الأوديسة جاءت بعد الإلياذة، لأنه ليس بإمكان أحد تخيل انعكاس كهذا في الإلياذة.
فيراري: بالتأكيد، لأن هومر يعطي فكرة البدايات…
بورخيس: نعم، وكما قال روبن داريو: هومر الواثق كان يملك هومر آخر في داخله. لأن الأدب يفترض دائمًا مقدمة، أو تقليدًا. قد يقول أحدهم إن اللغة بحد ذاتها تقليد، كل لغة تقدم مدى من الاحتمالات والمستحيلات أيضًا، أو الصعوبات. لا أتذكر تلك المقالة، “تقديس الكتب”.
فيراري: إنها في محاكم تفتيش أخرى.
بورخيس: أنا متأكد من وجودها، لأنني لا أظن أنك قمت باختلاقها فقط لاختبار ذاكرتي.
فيراري: (يضحك) إنها موجودة، من كتابات سنة ١٩٥١.
بورخيس: آه جيد، حسنًا، في تلك الحالة لدي كل حق في نسيانها. سيكون أمرًا محزنًا تذكري لسنة ١٩٥١.
فيراري: ولكنك انتهيت عند تلك النقطة بواسطة ستيفان مالارميه.
بورخيس: آه نعم، أن كل الأشياء تؤدي إلى الكتب، صحيح؟.
فيراري: بالطبع.
بورخيس: نعم، لأنني آخذ تلك الأسطر من هومر وأقول إنها تؤدي المعنى ذاته. ولكن هومر مازال يفكر بالأغاني، بالشعر الذي يصعد في إلهام. وعلى العكس تمامًا، مالارميه كان يفكر حينها بكتاب، وبطريقة ما، في كتاب مقدس. الحقيقة أنهما الشيء ذاته، كل شيء يوجد لينتهي أخيرًا في كتاب، أو كل شيء يؤدي إلى كتاب.
فيراري: هذا يجعلنا نقول إن الأحداث دائمًا تنتهي بأن تصبح أدبًا. ولكن الكتاب الذي طالما نصحت بقراءته، حتى أولئك الذين لا يهتمون بالأدب، كان الإنجيل.
بورخيس: لأن الإنجيل عبارة عن مكتبة. الآن، كم هي غريبة تلك الفكرة عن العبرانيين عندما نسبوا سفر التكوين، ونشيد الأناشيد، وسفر أيوب، إلى كاتب واحد، هو الروح القدس. من الواضح أن هذه الكتب تعكس عقولًا مختلفة وعقودًا وأزمنة مختلفة، وتنتمي إلى فترات متنوعة للأفكار.
_______
*المصدر: مدونة “معطف فوق سرير العالم” للشاعر والمترجم محمد الضبع.