*د.نوال السعداوي
كيف نتغلب على الأفكار القائمة على القتل أو العنف ضد الآخرين غير المؤمنين بأفكارنا؟ وماذا يعني الكلام عن التنوير العقلي وتطوير التعليم والثورة الفكرية إن لم نعترف بأن الجدل والنقاش واختلاف الرأي، هو وسيلة العقل الوحيدة لتجديد الفكر الديني أو المدني أو غيرهما؟.
مع ذلك يظل الكثيرون يوجهون تهمة إثارة الجدل لكل مفكر يختلف عنهم، وإذا كان المفكر امرأة، فويل لها من أحزاب اليمين واليسار والوسط، ومن التيارات الدينية والمدنية معا، يختلفون في كل شيء تقريبا، ولا يتفقون إلا في موقفهم من المرأة، التي تفكر بعقلها، وليس بعقولهم، أو القادرة على الإمساك بالقلم والكتابة مثلهم وأفضل منهم، هي تثير غيرتهم أو خوفهم التاريخي من حواء الآثمة التي سبقت زوجها إلى المعرفة، يزيد غضبهم إذا كانت هذه المرأة مرءوسة لأحدهم في عمل أو حزب، لكن الأخطر أن تكون زوجة لأحدهم، تصرفها الكتابة عن طبخ طعامه وغسل ملابسه وتنظيف بيته وإبعاد أطفاله عنه حين ينام، أو حين يريد الهدوء ليفكر ويكتب، أكبر الكتاب والمفكرين، في بلادنا والعالم، لا يطيقون الحياة مع زوجة تناقشهم، وترفض الطاعة العمياء، فما بال الرجال من الشعب، الذين يتزوجون من أجل الراحة والأكل والنوم وإشباع غريزة الجنس والإنجاب وغيرها من الحاجات البيولوجية.
زوجات أغلب الكتاب والمفكرين غائبات عن الحياة الفكرية والثقافية متفرغات لأعمال البيت والعيال، وكان توفيق الحكيم رغم تفوقه الإبداعي والفكري رائدا في السخرية من المرأة المفكرة ذات العقل والذكاء، التي تناقش وتجادل في الفلسفة أو السياسة، يصفها في كتاباته أنها قبيحة ترتدي نظارة، وبعد جدل طويل بلجنة القصة بالمجلس الأعلى للفنون والآداب، قال: المرأة الذكية القادرة على الجدل تحرك عقل الرجل ولا تحرك قلبه ، وسأل: يا ترى ماذا تفضل المرأة : تحريك عقل الرجل أم تحريك قلبه ؟ وسألته : ولماذا ينفصل عقل الرجل عن قلبه ؟ قال : قانون الطبيعة، قلت: ألا يتغير قانون الطبيعة مع الزمن؟ ومن هو الرجل الطبيعي أو المرأة الطبيعية ؟ لمعت عيناه ببريق طفولي مشاكس وقال: المرأة الطبيعية هي التي تطيعني.
كان ذلك في سبعينيات القرن الماضي، وكان توفيق الحكيم أقل عداء للمرأة الذكية المجادلة من أطباء النفس من أتباع فرويد، الذين اعتقدوا أن المرأة الطبيعية هي الخاضعة لأوامر الأب والرب والزوج ، وإن جادلت فهي مريضة نفسيا، وهكذا تم الحكم على النساء المفكرات المبدعات بالمرض النفسي ، مثل مي زيادة وفرجينيا وولف وغيرهما.
وهل كان لأي كاتب أو مبدع كبير، زوجة مفكرة مرموقة في أي مجال من المجالات الأدبية أو العلمية أو الفنية؟ ألم تكن سوزان زوجة طه حسين قارئة ومساعدة له؟ ألم تكن أنا جريجوريفنا زوجة دوستويفسكي سكرتيرة ومختزلة لأعماله ؟ ألم تشتهر مارلين مونرو زوجة آرثر ميللر بالإغراء الجسدي ثم انتحرت في ريعان شبابها؟.
ومن هن الزوجات اللائي امتلكن بسالة الفدائيين والفدائيات، وفرضن إبداعهن الفكري على العالم؟
شهدت في طفولتي الجدل بين أبي وأمي، لم أسمعه يرفع صوته، يواصل معها الحوار بهدوء، ويطلب منا نحن الأطفال أن نشارك بالرأي، ويضطر أحيانا لأخذ الأصوات، وإن جاءت الأغلبية مع أمي يرفع يديه مسلما برأيها، وقد تنهزم أمي حين نعطي أصواتنا لأبي، فتنتفخ أوداجه كالديك الرومي ونضحك.
ارتبط الجدل والنقاش في طفولتي بالحرية والسرور والاحترام والحب ولذة التفكير وتفنيد الآراء المختلفة، ولم يكن لقوة في العالم أن تفرض الطاعة على أمي دون أن يقتنع عقلها، أما أنا فقد عانيت الكثير في المدارس من عنف المدرسين الذين توقعوا مني الطاعة العمياء، وازدادت معاناتي كلما كبرت، وكان عقلي يكبر معي بالقراءة والبحث والسفر والعلم، وإن تفوقت على زوج أو زميل من زملائي الأطباء أو الأدباء يشعرون بالغضب مني، يكتمونه في أعماقهم ليتراكم حتى ينفجر، أو ينفسون عنه بتمجيد زميلاتي ذوات العيون الأنثوية الناعسة، أما هذه التي ترفع رأسها وتنظر في عيونهم مباشرة وتجادلهم فهي ليست طبيعية أو ليست امرأة.
وتلجأ التيارات الدينية السياسية الي تشويه أصحاب العقول المبدعة المستقلة ، الذين لا ينقلون أفكارهم من الكتب والنصوص الدينية أو العلمية أو الأدبية ، وتنال المرأة من التشويه أضعاف ما يناله الرجل ، فالرجل المفكر إن عارض ودخل السجن يصبح بطلا سياسيا تعجب به النساء ، أما المرأة المعارضة فهي فاقدة للأنوثة يكرهها الرجال (علنا أو سرا ) لكن المرأة الذكية تستغني بعقلها المبدع عن مباهج الدنيا والآخرة.
أذكر أن إحدى زميلاتنا في السجن جاءها المأمور ذات يوم بخطاب مسجل ، تصورت أن زوجها يطمئن عليها ويساندها في أزمتها ، فإذا بها ورقة الطلاق ، ومعها كلمة يقول فيها أكل الناس وجهي بسبب أفكارك الثورية أقمنا لها احتفالا كبيرا بالطلاق شاركت فيه جميع المسجونات من مختلف المهن والتهم والعقوبات ، عانقتها امرأة قتلت زوجها وهنأتها قائلة : تحررت يا ابنتي من قانون الاحتباس دون حاجة لجريمة القتل.
_____
*المصدر: الأهرام.