اسكندر حبش
مشاهد كثيرة عادت إلى ذهني، لحظة قراءتي خبر إحراق مكتبة “السائح” في مدينة طرابلس العائدة للكاهن الأب ابراهيم سروج. مشاهد ترتبط حكماً بالكتاب، لأن الكتب هي التي صاغت حياتي بأكملها، لا أي فكرة أخرى تعود إلى “ما ورائية” ما. أقصد أني غالبا ما بنيت هذه الحياة انطلاقاً من الكتب التي قرأتها والتي صرفت حياة من أجلها، أي لم أضعها في تحديد جنس الملائكة.
لكن لعلّ ما قفز بداية، تلك المشاهد التي صوّرها تروفو في فيلمه “فهرنهايت 451” التي تتحدث عن سلطة لا تفعل شيئا إلا ملاحقة من يقرأون لكي تتلف كتبهم، ولكي تعتقلهم وتخفيهم. والدرجة 451 هي درجة الحرارة التي يبدأ معها الكتاب بالاشتعال. في فيلمه هذا، المأخوذ عن رواية للكاتب الأميركي راي برادبوري، نجد أن الحل الوحيد لإنقاذ الكتب، وبالتالي إنقاذ البشرية، يكمن في أن يبدأ الناس في حفظ هذه الكتب غيباً، كي تستمر الذاكرة من جيل إلى آخر.
“حلّ برادبوري – تروفو”، نجده بالتأكيد حاضراً في تاريخ البشرية، ومن أمثلته العديدة، ما تناقله الرواة العرب أن قسماً كبيراً من شعرنا العربي القديم تمّ حفظه، وبقي من جيل إلى جيل، قبل أن يدون في ما بعد، ليحفظ على مرّ التاريخ. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكن الاستمرار في هذا الحل، في الزمن الراهن؟ ربما نجد حلا آخر، أستعيره من الكاتبة والصحافية النرويجية آسني سييرستاد، في كتابها “بائع الكتب في كابول”، الذي تروي فيه حكاية سلطان خان، صاحب مكتبة، لم تنج من الحرق لا على يد الجيش السوفياتي، ولا يد المجاهدين الذين خربوها ونهبوها، ولا يد حركة طالبان التي أجهزت عليها كليا، في ما بعد.
حلّ الكاتبة النرويجية، جاء ببساطة، عبر تأليفها كتاب حفظ ذاكرة هذه المكتبة، أي أنها واجهت “القتل والحرق” بسلاح وحيد: الكتابة، (بمعنى آخر نشر كتاب). قد يكون السلاح الوحيد اليوم الذي يمكن، عبره، مجابهة هؤلاء (ولا أجد تسمية لهم) هو الاستمرار في الكتابة وفي نشر الكتب.
بالتأكيد، لا أرغب في إقامة مقارنة هنا بين كابول وطرابلس، إذ ثمة أمل بعد في أننا لن نعيش أي لحظة أفغانية ولن نتحول إلى “أرض جهاد طالبانية” كذلك لا أريد أن أستعيد مقولة التعايش بين الطوائف وما يتبعها، فالأحداث التي نشهدها، وكما أراها، هي لحظة سياسية بين مشروعين تقودنا إلى ما نخبره ونراه في كل ما يعصف بنا. ثمة فكرة وحيدة، أجدني منساقا إليها وأدافع عنها، هي فكرة الكتابة والكتب، بمعنى آخر هي لحظة ثقافية بامتياز.
لا يمكن مواجهة هذا التطرف إلا بلغتنا نحن، لا بلغتهم هم: لغة الكتب. لغة ثقافة حقيقية، بكل ما تحمل من فضاءات ومناخات متعددة، لا لحظة تخلف، ليس للدين أي علاقة به لا من قريب ولا من بعيد.
– السفير