مجنون الكتب


*ستفانو بيني


هناك قصة قصيرة غاية في الجمال للكاتب الفرنسي تشارل نودييه، وهو كاتب غريب من القرن التاسع عشر. 
القصة بعنوان «مجنون المكتبات» وتحكي عن النهاية التراجيكوميدية لثيودور، الذي لم يكن في حياته سوى عشق واحد وحيد: الكتب، وخاصة القديمة. كان يبحث عنها ويعرفها واحداً واحداً، ويحفظ كلّ تفاصيلها عن ظهر قلب، حتى الأخطاء التي تحدث في توضيبها، والأخطاء المطبعية التي تتخلَّلها. 
كلّ ما حدث في التاريخ، وكلّ حرب وقعت، لم تكن تهمه في شيء، قدر ما تساهم فيه من رفعٍ في سعر الجلود الخاصة بالتجليد، أو مخافة تحطيم مكتبة ثمينة، عندئذ يصاب بحمى «تيفوئيد المكتبات»، وهو مرضٌ يحوّل المريض به إلى عبدٍ لما يحبّ. يميّز نودييه بين «محبّ الكتب»، وهو من يقدِّر قيمة ما تقوله هذه الكتب للعالم، و«مجنون المكتبات» وهو من يكدّس الكتب بشكلٍ هوسي، ويعاملها كأشياء مجرّدة من دون أن يدرك قيمتها الثقافية. 
كان ثيودور وسطاً بين الاثنين. فهو بعد أن قطع باريس كلّها، وهو يشير لصديقٍ له إلى مدى ضحالة الكتب الجديدة وفقدان الجودة في المكتبات ودور النشر (وهي شكوى كأنها كُتبت لتعبّر عن واقع الحال اليوم)، إذا به يكتشف كتاباً من عام 1676 لفيرجيل، له ميزة خاصة: كان أطول بثلث سطر من نسخةٍ كانت لديه. أصابه الاكتشاف بالاضطراب، الذي حوّله من عاشق للمكتبات إلى مجنون ببارانويا المكتبات، ومات وهو يهلوس لأنه لم يستطع أن يمتلك جميع الكتب الثمينة والفريدة التي كان يريد امتلاكها. ربما لأنه كان يفهم أن عشقه المؤلم قد تجاوز حلم الورق، بل تحوّل شيئاً فشيئاً إلى مشكلة لها طابع تجاري. 
عندما نقرأ المغامرة الغريبة لثيودور يخطر في بالنا أن «جنون المكتبات» لا يزال موجوداً، ولكن ربما انتقلت اللعنة إلى مكان آخر. ربما كان جامعو الكتب ومحبّو المكتبات أكثر جنوناً في عشقهم، لكنهم يحتفظون بحبّ صافٍ للأدب. ينتمون إلى شريحة من البشر بها مسّ من الجنون، ولكنها غير مؤذية، ومحبّة للمعرفة. 
أما «التيفوئيد» فقد انتقل الآن إلى شبكة الإنترنت. إذ أصبحت مكاناً للثقافة ونشر المعرفة، لكن أسوأ ما فيها هو الفخّ. الفخّ الذي يقع فيه «مجانين السايبر»، أمراض جنون الكومبيوتر، التي تصيب أولئك الأشخاص الذين يقضون ساعات وساعات على شبكات التواصل الاجتماعي، والمواقع العنيفة وغير القانونية، وهي أمراض جديدة وخدعٌ جديدة ونزعة استعراضية جديدة. عن طريق الويب يمكنك التشهير والاحتيال، وعرض الحياة الخاصّة على قارعة الطريق. في فضاء السايبر تحلّق الفيروسات وتتطاير الشتائم والسباب والأخبار الحقيقية والمعلومات المضلِّلة التي يتمّ بثّها في الوقت نفسه. عالمٌ أكثر خطورة وأكثر فصاماً من عالم مجانين المكتبات.
حبّك للكتب يمكن استهجانه وتجاهله، لكن لا أحد، وهو يدخل إلى مكتبة، يمكن أن يشعر بالخوف، بل يمكن على الغالب أن يحسّ بالضياع أو بالملل، ومعهما يحسّ أيضاً بالاحترام والرهبة. لكنه سوف يُصاب بالمرض إذا وجد نفسه في مواجهة آلاف المعلومات والإغراءات في موقع ويب، وقد يصل المرض إلى الجنون.
عالم الإنترنت فيه الكثير والكثير من الجديد ومن الفائدة، لكنه حتى الآن لم يستطع تكوين تاريخ أو شيفرة أخلاقية خاصة به. لا يزال يبحث عنها وربما يعثر عليها، تنمو المكتبة/السايبر يوماً بعد يوم، لكن- كما هو الحال في هواجس بورخيس- تمتلئ هذه المكتبة بالغرف المظلمة، وبالسلالم التي تنهار، وبالممرّات المعتمة، ولهذا يمكن أن تصبح سامّة ومهووسة وزائفة. وينبغي أن يجعلنا هذا نفكّر ونتأمّل، وأن يدفعنا إلى المحافظة على المكتبات الورقية القديمة، التي بدونها لم تكن شبكة الإنترنت قد رأت النور. 
ما يزال الكتاب، مع بعض الاستثناءات، مرضاً حميداً. تنمو المعرفة الكبرى في المكتبة/السايبر، وتتضاعف على نحو مفزع، لكننا لا بدّ أن نجتاز ممرّاتها بالانتباه والاحترام أنفسهما اللذين اجتزنا بهما قروناً عديدة مع الكتب.
_______
*الدوحة

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *