في ذكرى مولده .. إعادة اكتشاف جلال الدين الرومي


*إيهاب الملاح


«إذا أردت أن تنظر إلى مركز العالم.. فعليك أن تنظر إلى ذاتك» جلال الدين الرومي
يعد ميدان التصوف الإسلامي من أرحب الميادين التي تجلت فيها إسهامات الإيرانيين في أروع صورها، فقد ظل التأثير والتأثر بين الجانبين (التصوف الإسلامي العربي والتصوف الإسلامي الفارسي) سائدا طوال العصور في صورة تبادل مستمر. وقامت العوامل السياسية والثقافات المحلية بدورها في هذا التبادل.
وجلال الدين الرومي (الذي يحتفل مريدوه وأتباعه المنتشرون في أرجاء المعمورة ممن عرفوا بأتباع الطريقة المولوية بذكرى مولده هذه الأيام)، إحدى أهم وأكبر شخصيات التصوف الإسلامي على الإطلاق، وأعظم صوفية المشرق بلا منازع، وكذلك أهم من تحدثوا عن وحدة الوجود في جميع الأزمنة والعصور، بدأ فقيها جلس على بساط الفتوى في قونية إحدى مدن آسيا الصغرى، ولكن لقاءه مع شيخه شمس الدين التبريزي غيّر مجرى حياته (تتلمذ عليه ثلاث سنوات متتالية) وإلى الأبد.
كانت نقطة التحول الحاسمة في حياته تلك التي تجسدت في لقائه بذلك المتصوف الغامض الذي ظهر كالبرق الخاطف وومض برهة في حياة جلال الدين الرومي، ثم اختفى فجأة وبسرعة خاطفة أيضا، ولكن بعد أن ترك جلال الدين على حالٍ غير التي كان عليها وبعد أن فتح له الباب أمام عالم آخر من المعرفة والذوق وفجر فيه كل هذه الينابيع المتدفقة من المحبة الصادقة والحماسة الجارفة والشوق العارم والتحرق للقاء المحبوب ويعبر عن كل ذلك في إبداعات رائقة خالدة.
وإذا كان الأصل في الفن الإمتاع، فإنه إذا تجاوز الإمتاع إلى الإفادة والحض على النظر والبحث عن إجابات للأسئلة التي طرحها فإنه يكون قد علا إلى آفاق رائعة، وهذا ما تجسد كاملا غير منقوص في كل ما كتب جلال الدين الرومي ووصلنا من إبداعاته الرائعة، وباتت مختاراته وعباراته القصار وترجمات أبياته الغزلية من الرواج والانتشار على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بما يغري بدراسة مثيرة وشائقة عن العلاقة بين آليات التواصل والتقدم المذهل في تكنولوجيا الاتصالات وبين إعادة استدعاء التراث الأدبي وانتشاره بين قطاعات واسعة من الجمهور.
وعلى أي حال، بدا من الواضح أن تأثير شمس الدين في الرومي لم يكن «علميا» بقدر ما كان «روحيا»، وأن عبقرية جلال الدين لم تتحقق لأنه أتى بالجديد الذي لم يُطرق في ميدان التصوف، بل لأنه عبّر عن تجاربه ومواجده ومطارحاته بوجد رهيف وذوبان في العشق ولغة شعرية يندر مثيلها، ستتجسد جلية للعيان في عمليه الكبيرين «المثنوي» (صدرت ترجمته العربية التي قام بها المرحوم إبراهيم الدسوقي شتا في ستة مجلدات)، وديوان غزلياته الفذ الذي سماه باسم أستاذه «ديوان شمس الدين التبريزي»، وصدرت ترجمته العربية في مجلدين قيمين عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة بعنوان «مختارات من ديوان شمس الدين التبريزي لجلال الدين الرومي»، واضطلع بالترجمة أيضا المرحوم إبراهيم الدسوقي شتا، أحد رواد الدراسات الشرقية.
في الآونة الأخيرة، فرغت من قراءة الكتاب الممتع، الدسم، القيم «جلال الدين الرومي بين الصوفية وعلم الكلام» الذي صدرت منه طبعة جديدة رائعة بغلاف جميل عن الدار المصرية اللبنانية (صدرت الطبعة الأولى منه منتصف التسعينيات)، للباكستاني عناية الله إبلاغ الأفغاني، وهو واحد من الباحثين الأجلاء الذين تخرجوا في الأزهر الشريف، ثم التحق بعضوية هيئة التدريس بجامعة القاهرة، كلية الآداب قسم اللغات الشرقية (اللغة الفارسية وآدابها تحديدا)، في فترة من فترات الازدهار والترقي العلمي الحقيقية، فترة تخرج فيها أعلام كبار من دارسي اللغات والآداب الشرقية سواء من مصر أو خارجها مثل (خليل حلمي نامه، إبراهيم الدسوقي شتا، يحيى الخشاب، عبدالوهاب عزام، إبراهيم أمين الشواربي.. وآخرين).
قدّم للكتاب العلامة المرحوم يحيى الخشاب، الأستاذ الجليل في اللغة والآداب الفارسية (الذي ترجم رحلة ناصر خسرو علوي الشهيرة «سفر نامة».. وكان زوج الرائدة الأكاديمية سهير القلماوي)، يقول الخشاب في تقديمه للكتاب: «ويعد هذا السفر القيم عن جلال الدين الرومي كشفا للمحن الشديدة التي تعرض لها في سبيل نشر آرائه، وكسبا للتراث الأدبي الإسلامي، حيث استطاع هذا العالم الثبت والصادق أن يشق طريقا تصوفيا جاذبا لكل أتباعه ومريديه، فالقرن السابع الهجري والذي عاش فيه جلال الدين الرومي جدير بدراسة خاصة.. فهو عصر من عصور التحول في الشرق الإسلامي».
دراسة عناية الله إبلاغ تقوم في جوهرها على تتبع حياة جلال الدين الرومي بالتفصيل، وأولت الجانب التاريخي عناية خاصة، وقدم الكتاب درسا عمليا ممتازا في تطبيق منهجية البحث التاريخي، إذ قرر أن يدرس، بداية، السياق التاريخي والظرف الاجتماعي والثقافي الذي نشأ فيه جلال الدين الرومي، وتوقف كثيرا عند ظروف العصر الذي ولد ونشأ فيه، وحلل العوامل والظروف التي طبعت هذا العصر بطابعه القلق العنيف، واصلا بين سيرة الرومي ونشأته الخاصة وتقلبات العالم الإسلامي في ذلك القرن الصاخب، القرن السابع الهجري، الذي كان من عصور التحول الكبرى في الشرق الإسلامي، خاصة في فارس.
عن طبيعة هذا العصر وأهمية التعرض لدراسته تفصيلا، يقول الدكتور يحيى الخشاب في تقديمه الضافي للكتاب «الذي يستعرض تاريخ هذا القرن وخاصة في إيران، يجد أن ظروف التصوف كان طبيعيا في هذا الجو الذي لا أمان فيه لأحد، والذي كان الإسلام فيه في خطر، لولا مصر من ناحية وعلماء الفرس من ناحية أخرى، ففي هذا الجو عاش جلال الدين الرومي والذي كان مثله الأعلى الغزالي، حيث تفقه في علوم الدين ثم درس التصوف وراقه أن يكون من رجاله، وتحدث هنا نقطة التحول الكبرى في حياة جلال الدين الرومي حينما التقى بشمس تبريز، فقد ألهاه هذا الصوفي عن مسيرته كفقيه وجعل منه صوفيا غارقا في التصوف حتى أذنيه».
أما لماذا أولى المؤلف القرن السابع الهجري (وهو الذي شهد مولد وحياة جلال الرومي) عناية ملحوظة باعتباره «من عصور التحول الكبرى في المشرق الإسلامي وخصوصا في فارس»، فتأتي الإجابة تفصيلا من خلال رصده لجملة الحوادث الجسيمة التي شهدها هذا القرن، ففيه ظهر المغول واستطاع جنكيز خان أن يجتاح مملكة خوارزم شاه جلال الدين منكبرتي، واجتاح هولاكو الإمارات التابعة للخوارزمية، ثم اجتاح بغداد، وفي قسوة بالغة وببطش شديد قتل المستعصم آخر خلفاء بغداد العباسيين، ومن كان يعتبر آنذاك رمز الوحدة الإسلامية في ذلك الوقت، ثم قتل ما قتل وخرب وأحرق، ولولا «الطوسي» ومن معه لقضي على الإسلام في الشرق الإسلامي.
إذن لا يقف الكتاب عند حياة صاحب «المثنوي» فقط، كما أوضحنا، بل يتناول في بدايته تاريخ الصوفية وتطورها حتى عصر جلال الدين الرومي، ثم يتناول سيرة جلال الدين وحياته ونشأته، ثم مؤلفاته وآثاره، ثم يفرد فصلاً حول علاقته بالصوفية وآرائه في التصوف، كما خصص المؤلف آخر فصول الكتاب حول تأثر جلال الدين الرومي بعلم الكلام وأهم آرائه الفلسفية التي دعت البعض إلى تصنيفه ضمن علماء الكلام، وليس من علماء التصوف الإسلامي..
في رأيي أنه ما كان لهذا الكتاب أن يعاد طبعه ويزداد الطلب عليه (تكاد الطبعة الثالثة منه تنفد بعد أشهر قليلة من ظهورها) إلا بسبب الرواج الكبير الظاهر لرواية «قواعد العشق الأربعون» للتركية أليف شافاق. كان رواج الرواية سببا رئيسيا في أن يصبح جلال الدين الرومي من الأسماء التي حققت أرقاما خيالية في طلب البحث عنها على محرك البحث الشهير «جوجل»، راح الناس يسألون ويبحثون عن الرجل وعن منهجه في التصوف وأقواله ومراتب النظر وسلوك الطريق في تجربته، كتبه ومؤلفاته.. إلخ
وليس مصادفة، أن تكون كتب جلال الدين الرومي المترجمة إلى العربية من أكثر الكتب رواجا ومبيعا، وهو ما رصدته بنفسي خلال الأشهر الأخيرة، إذ يعيد المركز القومي للترجمة (بالقاهرة)، حاليا، طبع موسوعته الصوفية الكبرى «المثنوي»، كما أن المركز أيضا أصدر طبعة جديدة لديوانه «مختارات من ديوان شمس الدين تبريزي» بعد نفاد الطبعات السابقة..
_______
*المصدر: جريدة عُمان

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *