*مهند النابلسي
خاص ( ثقافات )
استنساخ عصري أخاذ لنمط “هيتشكوك ” التشويقي “أضواء في الغسق” ثيمة “المتهم البريء” في الفيلم الفنلندي
أبدع المخرج الأمريكي الشهير ستيفن سوديربيرغ بإخراج تحفة سينمائية تستعيد مجد هيتشكوك السينمائي الكلاسيكي، هي فيلم “آثار جانبية” ولكن ضمن خصائص عصرية لافتة مثل صراعات شركات العقاقير والأدوية، وسطوة الإعلام العصري، الرغبة الجامحة بالثراء والاستمتاع بمباهج الحياة، العلاقات المثلية السافرة “العصرية” بين النساء، كما دهاليز وخفايا الطب النفسي.
ونكاد نعاين أسلوب هيتشكوك المتميز في معظم مفاصل الفيلم وبأسلوب الإخراج اللافت، ويمكن تأمل بصماته الصريحة متمثلة في لقطتين معبرتين: الأولى عندما طعنت إميلي زوجها بعدة طعنات عشوائية، فور قدومه من السفر واقترابه منها وهي تقطع الخضراوات بسكين مطبخ حادة بحجة أنها غير واعية وتسير أثناء النوم.
وجدت في اللقطة استنساخاً إبداعياً للقطة القتل أثناء استحمام البطلة في الفيلم الشهير “سايكو”، مع ملاحظة أننا نشهد هنا عملية قتل دموية سافرة بلا تمويه ومواربة، ولكنها مفاجئة تماماً وبلا تمهيد أو توقع.
أما اللقطة الثانية الذكية فتتمثل بلقاء الطبيب النفسي مع المعالجة النفسية السابقة لإميلي في الشارع وبلا حوار، حيث اللقطة تؤخذ بعيدة نسبياً من أعلى، فيما تسترق إميلي النظر إليهما من نافذة المصحة النفسية، متوقعة “مضمون كلامهما”.
أتوقف هنا أمام مضمون هذه اللقطة وأكاد أسقط شعور الفيلسوف الوجودي الفرنسي، ألبير كامو، عندما علق على شخص عصبي يتحدث صارخاً ومحركاً يديه عبر هاتف عمومي من وراء باب زجاجي مغلق، حيث استنتج أن البشر يفرزون “اللابشري”، فأصابه الاشمئزاز من جسمه وحركاته العصبية، وكاد يشعر أن جسده قد انفصل عنه.
الفيلم الممتع والبالغ التشويق، والمقدم بأسلوب بسيط (وكأنه يسرد حكاية) أقرب للنمط الوثائقي، يميل تدريجياً لتصعيد الأحداث بإيقاع لاهث مع موسيقى تصويرية معبرة ومدهشة أحياناً تكمل الحدث السينمائي، يقدم الصورة النمطية التقليدية لأبطال هيتشكوك “المساكين” الذين يتورطون بالصدفة مع شخصيات إجرامية وتلتصق بهم التهم وتدمر حياتهم العملية والشخصية.
أن تكون “خائفاً ومخيفاً” في نفس الوقت
يمكن بجدارة وصف هذا الفيلم بأنه “تشويق –حداثي –مركب”، فهو مثير ومتداخل ويتطرق بصراحة قاسية لصراعات شركات العقاقير الكبرى ودهاليز الصحة النفسية، ويمثل عملا نادرا للتناغم الإبداعي ما بين الإخراج والسيناريو المحكم لسكوت بيرنس. كما أنه يجمع ومضات إبداعية من بعض طروحات هيتشكوك الشيقة في أفلام الرجل الخاطئ والدوار ومارني.
أما الممثلة روني مارا فقد أبدعت تماماً في تقمص شخصية مزدوجة: المريضة النفسية ظاهرياً، والمجرمة الماكرة الذكية في حقيقة الأمر، حيث نرى ذلك جلياً بطريقة تخطيطها لقتل زوجها المسكين، ومن ثم ادعاء البراءة وعدم المسؤولية بحجة أنها تسير أثناء النوم ولا تعي ما تقوم به.
وقد رأينا ذلك بوضوح برصدها الدقيق (من خلال نافذة المطبخ) لقدوم زوجها ونزوله من السيارة متجهاً إلى المنزل، وكيف تتركه بمكر مرعب لكي يقترب منها متوددا، لتفاجئه بعدة طعنات قاتلة، ثم لكيفية تدربها مسبقا على الصراخ المقنع، ونرى زوجها المسكين ساقطاً على الأرض ملطخاً بدمائه، يهمس بيأس طالباً الاستغاثة، بينما تصرخ هي مستدعية الجيران بلا مبالاة.
كما أنها أدت دوراً مزدوجاً نادراً من حيث القدرة على أن تكون “خائفاً ومخيفاً” في نفس الوقت، ونجح المخرج بإدخال تأثيرات درامية تشويقية بطريقة خفية متصاعدة، كما لو أنه حقن المشاهد ببطء من خلال الوريد، فقدم عملاً حابساً للأنفاس ومليئاً بالقنابل الموقوتة، وبدا وكأنه خبير متخصص بالدواخل السيكولوجية لدوافع بطلاته، وجعلنا بلا قصد نتعاطف تماماً مع الزوج الضحية ومن ثم مع الطبيب النفسي، جود لو، كشخص بريء تم جره لكمين محكم خطط له من قبل روني مارا وصديقتها الطبيبة المثلية فيكتوريا.
وهنا نلحظ أن أكثر ما يميز هذا الفيلم عن طروحات هيتشكوك السينمائية هو إدانته السافرة “للبطلتين المجرمتين” دون تعاطف مقبول لدوافع القتل التي بدت واهية وغير مقنعة، كالإحباط والهجران الجنسي والرغبة بنمط باذخ من الحياة، فيما جعلنا نتعاطف تلقائياً مع الزوج الضحية المغدور والطبيب النفسي “المضحوك عليه”، مقابل كراهية مبررة لكلتا البطلتين “الشريرتين”.
وربما لن يعجب هذا الفيلم أنصار المرأة المتعصبين ويعتبرونه مبالغة سينمائية، ولكني وجدته منطقياً تماماً وخاصة بطريقة رسمه لتطور الأحداث ونمط الشخصيات، وقد نجح المخرج الاستثنائي سودربيرغ بوضعنا في جحيم سينمائي شيق، واستفحل بسرد سادي قاسٍ، كاشفاً خفايا المجتمع الطبي المعاصر وتأثيراته على الكائن البشري الفاقد للقيم الخلقية (ولعدم القدرة على السيطرة على الشر الكامن في النفوس إذا ما تضافر بحس المؤامرة).
هذا عمل تجريبي–ترفيهي ممتع للغاية، وقد جمع ما بين الرومانسية والجريمة المتقنة والطب النفسي والعلاقات المثلية الآثمة، وكانت التسمية موفقة تماماً، حتى أن تأثير “الأعراض الجانبية” قد تجاوز حدود العرض السينمائي وأصابنا نحن المشاهدين فأحدث لدينا حالة وجوماً وصدمة وعي ذكية، جعلتنا نفكر ملياً في أحداث الفيلم وربما أحداث الحياة ذاتها، كما أنه ذكرني بمقولة الناقد السينمائي الأمريكي الراحل، روجر أيبيرت: “الفيلم العظيم يجب أن يراه المشاهد كفيلم جديد في كل مرة يشاهده”.
ما أعجبني في هذا الشريط تطويره التدريجي للقصة من دراما تشويقية إلى حبكة بوليسية ذكية غير متوقعة وببرود سردي “هيتشكوكي الطابع”، تاركاً السيناريو والكاميرا والموسيقى التعبيرية الملائمة لكي تقود الأحداث، مع الحد الأدنى من الحوار.
لقد قدم سودربيرغ هنا في آخر أعماله اللافتة نمطاً “كهربائياً” جديداً، واختار أربعة أبطال بارعين في مقدمتهم الممثل البريطاني الشهير جودي لو (الذي قدم ربما واحداً من أفضل أعماله السينمائية)، والبارعة كاترين زيتا جونز، التي قدمت دور المعالجة النفسية المتآمرة. أما روني مارا فقد ذكرتنا حقاً باختيار هيتشكوك الموفق لبطلاته الشابات وأضافت للدور تقمصاً وبعداً إجرامياً غير مسبوق. ولن ننسى شاتنغ تانوم الذي أبدع بتقديم دور الزوج المسكين الضحية، الذي لم ينجح أبداً بإرضاء وتحقيق رغبات زوجته.
ثيمة “المتهم البريء” في الفيلم الفنلندي: “أضواء في الغسق”
في الفيلم الرائع “أجواء في الغسق” (الذي ترشح للسعفة الذهبية في مهرجان كان، عام 2006) للمخرج الفنلندي أكي كيروسماكي، يراهن رجل الأعمال الشرير على سذاجة وبراءة الحارس الليلي المسكين كويستينين، وانجذابه العاطفي لشقراء ماكرة لكي ينفذ جريمة سرقة كبيرة لمحل مجوهرات، فعندما تسأله الفتاة (المأجورة) فيما إذا كانت ستنجو من تهمة المشاركة بالسرقة، يجيبها بثقة لافتة: “تكمن عبقريتي بمعرفتي لشخصية الحارس المخلصة والرومانسية، لذا فهو لن يشي بك أبداً وسيتحمل كامل المسؤولية”.
وهذه النقطة تحديداً التي ترسم سيناريو الحبكة السينمائية، تغافل عنها معظم نقاد الفيلم، وهي باعتقادي النقطة المحورية في هذا الشريط السينمائي المميز، لأن مسار الأحداث كله كان سيأخذ منحى آخر لو قام الحارس الليلي بالوشاية وقول الحقيقة (كما يتوقع المشاهد)، حتى أنه لم يخبر الشرطة عندما شاهدها (من خلال المرآة) وهي تدس المفاتيح وعينة من المجوهرات تحت الوسادة في أريكة منزله، وذلك إمعاناً في توجيه تهمة السرقة له.
فالخلاصة، التركيز والإنصات يقوداننا هنا لاكتشاف ثيمة الفيلم الحقيقية، التي تركز على عنصري “الإخلاص وبراءة المتهم”، فأيلا البائعة المتجولة (التي تبيع النقانق المشوية وتعاني من الوحدة والتهميش أيضاً) مخلصة في حبها الأحادي لكويستينين، وهذا الأخير بدوره مخلص في حبه الأحادي أيضاً للماكرة الشقراء ميرجا (على الرغم من كشفه لها)، وهو كذلك والفتى الأفريقي البائس مخلصان في تعاطفهما مع الكلب المشرد (مغزى وجود الكلب كحيوان معروف بإخلاصه الشديد لصاحبه)، وقد لاقى كويستينين الضرب والسجن لسنتين إخلاصاً لحبه وسمو أخلاقه.
لقد برع بالحق كيروسماكي بكتابة وإخراج وتصوير هذا الشريط المميز، وكاد أن يتماهى مع عبقرية المخرج البريطاني الشهير الراحل ألفريد هيتشكوك، الذي برع بهذا النوع من السرد: عندما يدان البريء المخلص وينجو الفاعل، بل تجاوزه برسمه لأجواء الوحدة والعزلة والتهميش والإقصاء التي عانى منها الحارس الليلي، ومع ذلك فقد شدنا بالتصوير الأخاذ والموسيقى والأغاني الرومانسية الحزينة لكي ندخل في حياته ونتعاطف مع رغباته وكفاحه وحبه للحياة على الرغم من معاكسة القدر له وسوء طالعه.
* ناقد فني من الأردن