“أخو أخته”



غصون رحال*


خاص ( ثقافات )

طوفان من الصور لفتيات فلسطينيات يحملن أحجاراً ويقفن متحفِّزات على خطوط التماس مع جنود الاحتلال الإسرائيلي اجتاح شاشات التلفزيون ووسائل الإعلام في الأيام الماضية. تسونامي من اللقطات الذكية لفتيات مدجَّجات بالأحجار غزا صفحات البشر الذين يستلقون بكسل آلهة إغريقية على شبكات التواصل الاجتماعي. فتيات اختلفن في العمر، لون الوشاح، طريقة اللثام، شكل الحذاء، حجم اليد، زاوية التصويب، وأجمعن على حجر. 

حجر تتلقفة إحداهن لتزوِّد بها صاحبتها، تلقمه فم المقلاع، تشده بأقصى ما استطاع ذراعها من أنين وتطلقه باتجاه هدف اختارته بملء إرادتها، غير عابئة بما يدور في خلد جمهور المشاهدين المتهدِّلين على الأرائك بأمراضهم المزمنة، وهم يمارسون كبتهم الأزلي في تفحُّص فتحة قميصها، ضيق بنطلونها، لون عينيها، انحناءات قوامها، أو تعابير وجهها التي بدت في تلك اللحظة في شراسة ضبع على وشك الفتك بفريسته أكثر منها ملامح أنثوية وادعة. 

وليس هناك ما هو أطيب وألذُّ من تأمُّل صورة تلك الفتاة الملثَّمة بلونيِّ الكوفية الأبيض والأسود، وهي تحمل حجراً متأهباً للانطلاق بيد، وكمشة من الأحجار باليد الأخرى تمدُّها إلى شاب إلى جوارها، تحفِّزه على أخذ الحجارة من يدها غير عابئة بنقض وضوئه، تحرِّضه على التقدم والمشاركة، ليقطع لذة هذا التأمل تعليق سخيف من أحد المرتخين على أرائكهم يصفها بأنها “أخت رجال” عوضاً على أن يصفه بأنه “أخو أخته” مثلاً! 

فتيات هنَّ، لم يبلغن بعد سن الحكمة المنغمس حد المرض بثقافة العيب، ولا مستوى الرصانة المتأهب على الدوام لرفع وتيرة “قرن في بيوتكن” في غير أوانها أو مكانها. بطلات متنكرات بشتى الأزياء، منهن من ترتدي بنطلون الجينز، وأخرى بكعب لا ينقصه الطول، وثالثة تعلق حقيبتها الجلدية الفاخرة بالورب حول خصرها، إلى رابعة تربط رأسها بعصبة وتنطلق لاحقة بصفوف زميلاتها في الصفوف الأمامية لخطوط التماس مع وحوش المستوطنين.

مثل هذه النكهة الأنثوية أضافت إلى ساحة المقاومة بعداً إنسانياً لا يمكن تجاهله، وخاطبت العالم الغارق في سباته وجهله بمفردات وجدانية بسيطة وسهلة الفهم، إذ كيف يمكن لفتاة لم تبلغ السابعة عشرة من عمرها أن تُنعت بالإرهاب إن هي دافعت عن حرمة جسدها وغطاء رأسها في مواجهة جنود مكبلين بالسلاح وحالت بينهم وبين تحرشهم القذر؟ وهل يجوز أن توسم فتاة بوجه ملائكي وعينين زرقاوين حالمتين بالإرهاب إن هي ضاقت بحواجز الاحتلال وقمعه وشرِّه فملأت حضنها بقطع الحجارة وأمطرت بها جندياً يحول بينها وبين جامعتها؟ وهل يعقل أن تدان امرأة غارقة في السواد، تعضُّ على الجرح حزناً على استشهاد ولدها إن هي حطَّمت صخرة ضخمة ودججتها إلى أحجار صغيرة ترمي بها من يريد المسَّ بحياة من تبقى لها من صغار؟ 

ألن يبدو خطاب العدو باهتاً وماسخاً حين يعلم العالم أن من يشير إليهم نتنياهو بأصابع الإرهاب هنَّ هؤلاء الفتيات الرقيقات المزنَّرات… بحجر؟!

* روائية أردنية

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *