أنا ومعلمي لـ’أليف شفق’ السرد المعرفي وكتابة التاريخ




ممدوح فرّاج النابي

لا تقدّم أليف شفق أدبا مجانيّا كما فسّر البعض روايتها «قواعد العشق الأربعون»، وإنما تقدّم أدبا يحمل عصارة فكر وثقافة ورؤية مغايرة للوقائع، وهو ما توضّح بصورة جلية في هذا النص الجديد المعنون بالتركية «أنا ومعلمي» أو «الفتى المتيم والمعلّم» حسب ترجمة محمد درويش عن الإنكليزية.

سلاطين وبشر

في رواية «الفتى المتيّم والمعلّم» تنهج إليف شفق نفس الأسلوب الذي عرفت به، حيث تعود إلى التاريخ بمفهومه الواسع وليس المقتصر على الحوداث الكبرى فقط، وهنا تعود إلى العصر الذهبي للخلافة العثمانية، لتقدّم عبر شخصية المعماري سنان أو سنان باشا الذي كان حضوره قويا منذ منتصف القرن الخامس عشر إلى السادس عشر، بما أضفته أنامله على العمارة التركية من بصمات خلدت الاثنين: المعماري سنان والسلاطين العظام، لوحة فنيّة عن الحياة في هذه الحقبة التاريخيّة المهمة بكافة أحداثها، وصراعاتها الخارجيّة والداخليّة بين السّلاطين والأمراء، أو النساء والجواري، وأيضا تقدّم ملمحا مهمّا وعريضا عن الحياة الاجتماعيّة الموازية لحياة القصور، حيث المروّضون الذين يعيشون في حديقة القصر، وأيضا خارج القصر حيث حياة العامة، وما يعتريهم من فقر وفرح وابتهاج بانتصار السلطان في فتوحاته، وحزن وغمّ من الأمراض التي كانت تقصف أرواح ذويهم كما حدث زمن وباء الكوليرا الذي انتشر في البلاد.

الرّواية في بنيتها العميقة تتجاوز حكاية المعلّم سنان وتلاميذه الأربعة، التي انبنت الحكاية على أساسها، إلى حكاية تأسيس مدينة وكذلك التأريخ لسلطنة بعمارتها وممالكها، بكل ما تحمله كلمة مدينة من معاني الحداثة والكوسموبوليتية (مسلمون ومسيحيون ويهود، ويونان وأرمن وجورجيون، وعرب وأكراد ونساطرة وشراكسة وكازاخستانيون وتتار وألبان وبلغار ويونانيون وأنجاز وبوماك…)، والعلم والمعرفة، مثل إنشاء المرصد الفلكي، ووجود شخصية كالفلكي تقيّ الدين في حضرة السّلطنة، وأيضا ما تحويه كلمة سلطنة من قصور وجوار وقيان وخصي، وحروب وفتوحات ودسائس.

حكاية تدور في عهد سلاطين العصر الذهبي لآل عثمان، عصر سليمان وابنه سليم ثمّ حفيده مراد. لا تقدّم الروايات شخصيات السلاطين كشخصيات ورقية كما هي عند رولان بارث، وإنما هي شخصيات من لحم ودم تجمع بين الحب والكره والانتقام والمؤامرة، وما تقترفه من نزوات، وأيضا تجمع بين الشخصية الرسمية والهامشية التي أغفلتها المدونة التاريخيّة، مثل حكاية حادثة وفاة السلطان سليم مخمورا في الحمام، وهو الذي حكت عنه روايات أدخلته عالم التقوى والأولياء، كما تجرّدهم من أبهة السّلطان، وتستعيد وقائع إغواء الكرسي كما حدث في إعدام مراد لإخوته حتى يستقيم له الحكم، وأيضا ما فعله سليمان مع أبنائه، خاصة مصطفى شيخ زاده، وإعدام سليم الأول لشقيقه بايزيد في إيران، حتى يكون الوريث الوحيد للسلطة التي جاءته وقد تجاوز الأربعين. والابنة مهرماه في تآمرها مع الساحرة ضد أبيها، كنوع من استعادة الأب المفقود.

لا تسعى الكاتبة في استعادتها للتاريخ خاصّة القرن السادس عشر، أن تنتهج نهج الروايات التاريخية حيث التقيّد بالمادة التاريخية، أو حتى تستقرئ الحاضر عبر أحداث الماضي، وإنما تقدّم الماضي في صورته المتكاملة بكافة تناقضاته، وانتصاراته وإخفاقاته أيضا، وما بها من إنجازات جعلت من المدينة حاضرة تتباهى بها بين الأمم، وقبلة للفنانين والرّسامين والرّحالة لمشاهدة آثارها، فالقصور مصمّمة على أحدث الطرز المعماريّة والمساجد في غاية الإبداع والقباب في قمة الروعة والبهاء.

الفتى العاشق

تبدأ الرواية وتنتهي بجهان الفتى الهندي تلميذ المعلّم سنان إلى جوار ثلاثة من التلاميذ (نيقولا وداود ويوسف) وكان جهان فضوليّا كثير الأسئلة، كان يفكّر في أن يكتب على قبره «هنا يرقد إنسان طغى فضوله على طيبته، مروّض حيوانات وتلميذ معمار». فما بين عاشق لأستاذه سنان، ومتيم بابنة السلطان ميرماه (كما توهّم) انتهى به الحال إلى مهزوم في حبّه ومنكسر بفقد أستاذه وبخيانة صديقه، ومطارد بجرائم أوقعوه فيها كقتل الجارية. وعبر عين جهان قدّم لنا السارد الغائب خبايا ما يحدث داخل القصر، من جرائم، ومكائد ودسائس، واغتصاب، وقتل، وأيضا ما يدور في عوالم مهمشي القصر، من انتهاك للأعراض، وسرقة، وتلصص.

تأتي الرواية في ثلاثة أجزاء هي: المعلّم، والقبة، وما بعد المعلّم، الجزء الأخير يمثّل مفتاح الرواية بأكملها بعد تعقّد أحداثها، فجميع الخيوط المعقّدة التي كانت في الجزء الثاني، حيث الأحداث الدرامية التي حدثت للمعلّم أثناء قيامه بمشروعاته، وما صادفه من سوء حظّ كما حدث في بناء الجسر، أو ترميم أيا صوفيا، تتفكك عقدتها وخيوطها في الجزء الأخير.

ويتضح أن اليد العليا المسؤولة عنها هي أحد التلاميذ وبالأخصّ داود الذي لديه حقد خاص على السّلطان سليمان الذي قتل أفراد أسرته، وشرّدهم، بل إنّ شخصيات التلاميذ الأربعة تتفكك، ويصبح ما كان سرا ظاهرا للعيان، كشخصية يوسف الصّامت، الذي كانت خلفه حكاية ألزمته الصّمت، فهو في الأصل فتاة تخفّت في شخصية يوسف اسمها الحقيقي سانتشا هربت بعدما أجبرها والدها على الزواج من ابن عمها، إلى أن تقع في قبضة قناصة يبيعونها إلى أحد الفنانين، فتعاملها زوجاته معاملة قاسية فيضطر لإهدائها إلى صديقه الفنان سنان، الذي تعجب به وبرسوماته فتكون محظيته، وعند إصرارها على العمل معه لم يكن بديلا لها غير التخفي تحت الصمت والقفزات.

رغم أن القصة في مضمونها وأحداثها تأخذ منحى تأريخيّا بالتأريخ لعصر سنان الذي كان معماريّا وأبدع معالم كثيرة وصلت إلى أكثر من 360 عملا فنيّا، بالإضافة إلى الأحداث التاريخية والوقائع التي تزامنت مع الفترة التي ذكرتها الكاتبة، كفتوحات السلطان سليمان، ونفوذ الصدر الأعظم وبخاصة رستم باشا الذي زوجه السلطان من ابنته مهرماه، إلا أن كثيرا من الوقائع مرجعها الخيال، فالحكاية كما ذكرت الكاتبة في نهاية الكتاب هي التي دفعت الكاتبة إلى تأليفها عندما توقفت سيارة الأجرة التي تستقلها، ورأت طفلا غجريّا أمام المسجد.


تعتمد الرواية على راو غائب يسرد من موقع متميّز بالقرب من الشخصيات والأحداث، يفتح عدسته ويتجوّل بكلّ أريحية مكنتها له خصائص الضمير في كل مكان، وهو ما أعطى السّاردة القدرة على الوصف الذي شغل مساحة لا بأس بها داخل العمل، ما بين وصف لسرائر الشخصيات، أو الأماكن والمناظر، أو الوقوف على التصميمات الهندسية للمساجد، وهو ما قدّم سردا معرفيّا أعطى زخما للحكاية، بدقة المعلومات العلميّة وتنوّعها ما بين الفن والدين والأدب وأيضا الفلسفة.

الجزء الأخير وهو لا يتجاوز صفحات معدودات طغى ضمنها السّارد بضمير المتكلم الذي يعود إلى جهان، وقد تحدّث فيه عن النهاية بعد عودته إلى الهند، وعمله في قصر تاج محل، وتخليده لقصة حبه لمهرماه في صورة تخليد قصّة الشّاه لزوجته الرّاحلة. ولا تغفل الكاتبة عن تطعيم قصتها بطابع صوفي مميّز، من خلال قصة الشيخ المجنون الذي تمّ إعدامه لهرطقاته.
_______
*المصدر: العرب 

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *