الكتابةُ وِلادة


*زاهي وهبي


ليست الكتابة أقل متعة من القراءة، ولعله من الصعب الفصل بينهما ورسم حدود واضحة لكل منهما. لا يمكن كاتباً إلا أن يكون قارئاً. بالقراءة وحدها يوسّع مداركه اللغوية ويثري قاموسه.

سرُّ الكتابة أنها فعلُ حياة، لا يكتبُ الكاتب لِيُقرأ، وإن كانت قراءته مبعثَ فرحٍ وغبطة. غاية الكتابة لا يمكن حصرها بالبحث عن قرّاء، ولو وضع الكاتب هذا الأمر نُصب عينه لفقد متعة الكتابة وحريتها. نعم حريتها، فالورقة البيضاء (أو الشاشة بلغة الكتابة الكمبيوترية) هي مساحة الحرية الأوسع، وهي الفضاء الذي لا يُحد. جلوسك إلى طاولة الكتابة وامتشاقك قلماً يُنبِتان لك جناحين وحراشف، يجعلانك قادراً على التحليق في الأعالي أو الغوص في الأعماق، تُلاعِبُ الزمان كيفما شئت، تذهب بعيداً نحو المستقبل حيث تغدو كل كلمة شرفة أو نافذة أو جسراً إلى عوالم من دهشات فاتنة أخّاذة، أو ترجع عميقاً إلى ماضي أزمنةٍ غابرة تنفضُ الغبار عن كتب تاريخ كتبها المنتصرون لتكتشف أو لتكتب تاريخاً جديداً للعشّاق والحالمين والمغلوبين والمطحونين بين حجري الرحى: التاريخ وحاضره!

التفكير بالقارئ لحظة الكتابة قاتلٌ للحظة ذاتها لأنه يفرّغها من معناها، ليس لأن القارئ أقل قدراً أو قيمة، على العكس تماماً القارئ إضافة للنص، كلُّ قراءة هي معنى جديد يُضاف إلى المعنى الذي قالت العرب إنه في قلب الشاعر. وبعض المعاني التي يمنحها القارئ للنص تفوق في عمقها وسحرها ما قصده الكاتب نفسه، لكن القارئ ليس واحداً، القارئ متعدد تعددَ البشر على وجه البسيطة، هذا التعدد يعني تلقائياً تنوّعَ أمزجةٍ وأهواء ومستويات فكرية وثقافية، ولو وقع الكاتب في فخ إرضاء الجميع لَخسر الجميع في الوقت عينه (يقول الفنان الشهير بيل كوسبي: لا أعرف طريقاً للنجاح، لكنني أعرف طريقاً أكيداً للفشل وهو محاولة إرضاء الجميع). تَحرُّرُ الكاتب من قارئه مسألة ضرورية وحيوية لكتابة نص حرّ يحمل بين سطوره بذور نموه واستمراره. أما بعد ولادة النص فتلك مسألة أخرى تماماً، متى صار الكتاب بين دفتيّ غلاف لِكاتِبه ما يشاء من وسائل الترويج وآلياته، نقول الترويج لا التسويق كي نرفع عن الكتاب شبهة أن يكون مجرد سلعة في سوق.
الكتابة لحظة جنينية بكل ما تعنيه الكلمة، يحمل الكاتب بأفكاره ورؤاه كما تحمل الأنثى بأجنتها، يعيش معها أوجاعاً وأحلاماً وتصورات تسبق مخاضاً عظيماً، لكن عِوَض أن تسيل منه الدماء يتدفق منه الحبر. والحبر متى كان صادقاً صار شبيه ماء الحياة، والكاتب الحقيقيّ يُصاب بنوع من الكآبة عقب انتهائه من كتابة نصه شبيه بلحظتها لدى الأم إثر انتهاء عملية الولادة، وبهذا المعنى لا يمكن لعملية الكتابة أن تكون مشاعاً وعلى الملأ، لا بالمعنى المادي للكلمة وإنما بالمعنى النفسي والروحي، حيث لا يستطيع الكاتب المحترف إشراك أحد معه في مراحل تكوّن النص تماماً كما لا تستطيع المرأة إشراك أحد في عملية تكوِّن الجنين، من هنا لا يستحضر الكاتب لحظةَ الكتابة أحداً سواه ما عدا شخصياته التي يخلقها من حبر قادر على النطق متى جاء النص في تمام الإبداع.
الكتابة فعل حياة، ما زلتُ أذكر كيف كنّا في بيروت زمنَ الحروب والتقاتل الأهلي نحمل قصائدنا إلى هذه الصحيفة أو تلك، ننتظر صبيحة اليوم التالي وكلنا فرح وحماسة أننا نقرأ أسماءنا في صفحة الثقافة لا في صفحة الوفيات. نكتبُ لِنتنفس، لِنحيا، لِنُحبّ، ولكلٍّ أن يختار ما تكون كلمته عليه، وردة أو سيفاً أو خنجراً. تبقى الكلمة القابلة للحياة تلك الطالعة من جوف تربة روحٍ خصبة نقية ثَلَّمتها التجاربُ والمِحن.
بالكتابة توَّلِد وتوُلَد.
________
*المصدر: الحياة

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *