*محمد وردي
تتنوع التجارب الروائية في السرديات الإماراتية الجديدة، بقدر ما تتفاوت الخبرات بصنعة الحكي أو حرفة البوح والفضفضة؛ لدرجة تصعب فيها المقارنة أو التمايز بين خصوصيات إبداعية بعينها فنية أم جمالية سواء على مستوى أساليب السرد وتكنيك الحكاية، أم على مستوى ما أسميه «التوليفة الروائية»، وفق المعايير الفنية في السرد الروائي أو القصصي، القائمة بالدرجة الأولى على لازمة الإمتاع والإقناع في لعبة التخييل أو الفانتازيا في الحكاية، التي تجعل المستحيلات محتملة الحدوث في الواقع.
هذا فضلاً عن البنية اللغوية، التي يفترض أن تكون حمالة لطبقات عدة من المعنى، من خلال توظيف اللفظة أو المقولة دلالياً؛ باعتبار أن كل مقولة معقولة، كما تقول العرب، أي موظفة دلالياً بإحكام في إحالاتها إلى علامات ثقافية راسخة بالمعنى ومتمايزة بذاتها عن الآخر في الوقت عينه، فتعتبر من ضمن مكونات هُوية النص؛ ليس على مستوى التجنيس الأدبي (رواية، قصة، شعر، مسرح)، وإنما على مستوى خصوصيته الثقافية بالمعنى الأنثروبولوجي الواسع، التي يُفترض أنها خصوصية تتمتع – بالضرورة الإبداعية – بغواية كاريزمية – إن صح التعبير – فتجعلها مرغوبة ومطلوبة في آن واحد؛ كونها تتفاعل بتناغم إيجابي مدهش مع الخصوصيات الثقافية الأخرى، فتغنيها وتغتني بها على كل المستويات الإنسانية، المعرفية أو القيمية، سواء منها العلمية والفلسفية والفنية والجمالية، أم الأخلاقية والدينية.
رواية «فيللا رقم 13» للكاتب محمد ناصر، الصادرة حديثاً عن دار «كُتَّاب» للنشر والتوزيع، هي من التجارب الروائية الجديدة في السرديات الإماراتية، ليس باعتبارها تجربة أولى للكاتب فقط، وإنما أيضاً لأن السمت الأدبي في النص يقوم على التوليفة البوليسية أو التحقيق الجنائي للكشف عن جرائم غامضة، يقتضي الكشف عنها بالضرورة الفنية في اللعبة الروائية تفكيك أسرار وأحاجٍ تنطوي على قدر عال من التشويق والإثارة والدهشة في لغة السرد.
ما يتطلب مهارات عالية في اللغة وخبرات متنوعة ومتمرسة في التوليفة الروائية والأسلوبية، وهذا ما يجعل رواية «فيللا رقم 13» مغامرة محسوبة لصالح الكاتب وضده في الوقت عينه؛ لأن هذا الجنس الروائي ليست له تقاليد راسخة أو عريقة سواء في السرد الإماراتي أو العربي عموماً، فالنجاح في تقديم رواية بوليسية بالإصدار الأول يُحسب للكاتب؛ باعتباره أحد الرواد المؤسسين لهذا الجنس الروائي، أمّا الإخفاق فربما يكون له وقع سيئ أو أثر سلبي يعرقل مسيرته الإبداعية، وقد يحول دون معاودته الكرة.
تحكي الرواية قصة المحقق فارس ومساعده حمد، حالما جرى تكليفهما بالتحقيق في مقتل السيد فاهم العالي، الشخصية المرموقة اجتماعياً ومالياً وسياسياً، الذي سبق وتعرض للتهديد بالاغتيال جراء مواقفه التلفزيونية المعادية للتنظيمات الإرهابية المتطرفة، فجرت تصفيته بطريقة مركبة، بدت في الخيوط الأولى وكأنها عملية اغتيال بطلقة قناص، انطلقت من مبنى تطل إحدى شققه على مكتب العالي الخاص بالطابق العلوي في مقر سكنه «فيللا رقم 13»، التي يعيش بها مع زوجته وشقيقها الذي تبناه العالي، وهو طفل صغير، إضافة إلى الخادمة والسائق.
ولدى معاينة الشقة المجاورة تبين للمحقق أنها خالية، وبعد استجواب البواب اتضح أن مستأجراً بملامح إفريقية عاين الشقة بنية استئجارها قبل نحو ساعة من الحادثة، ما ساعده على ضبط المجرم خلال وقت وجيز؛ عقب تعميم مواصفاته على منافذ الدولة البرية والبحرية والجوية، وعندما أحاطه المحقق بسلسلة من الاستنتاجات، التي مثلت أدلة قطعية على إدانته؛ اعترف بأنه ينتمي إلى شبكة إجرامية مأجورة تحترف تصفيات الشخصيات في مختلف بلدان العالم، وأنه لا يعرف أحداً من أعضاء الشبكة سوى تلقيه التعليمات والمواصفات والأموال بظروف بريدية، وأن الشبكة تعرف سكنه وزوجته وأولاده، وتعتمدهم كورقة ضغط للحؤول دون تلاعبه معهم.
ولكن حذاقة المحقق فارس جعلته يكتشف سريعاً أن الطلقة أصابت رأس الضحية بعد وفاته، وأن العالي مات مسموماً بالقهوة، وهكذا راحت الشبهات تتطاير حول الجميع، ما عدا شقيق الضحية سالم العالي الذي لا يشاركهم السكن في الفيللا، فضلاً عن الصورة التي بدا عليها، وكأن الذهول أكل وجهه والفجيعة قصمت ظهره، غير أن المحقق فارس بحنكته ودقة ملاحظته اكتشف أن السم دس بفنجان القهوة بعدما وضعته الزوجة على المكتب، حينما كان زوجها يستحم، وحصل ذلك من خلال أنبوب بلاستيكي دقيق جرى مدَّه من السقف عبر ثقب صغير، فحينذاك ارتدّت الشبهة على شقيق الزوجة والسائق وشقيق الضحية.
وبعد الضغط على السائق اعترف بأنه القاتل؛ لأن «فاهم العالي كافر ويعادي الإسلام ويدير نادياً للفسق والفجور ويتاجر بالمخدرات ويُسوِّق المحرمات بأصنافها» وهو مكلف بالنهي عن المنكر وفق الشريعة، إلّا أن المحقق كشف زيف اعترافه بعد أن طلب منه تمثيل الجريمة، حيث راحت الخيوط تتجمع باتجاه سالم العالي، الذي تبين لاحقاً أنه يترأس تنظيماً إرهابياً يتدثر بالدين، وأن النادي الذي أشار إليه السائق وتجارة الممنوعات وترويج المحرمات تعود ملكيتها وإدارتها له، وأن السائق هو عضو بالتنظيم ومكلف بالاعتراف على نفسه إذا حامت الشبهات حول سالم العالي.
ما دفع بصدور أوامر عليا تقضي باستبعاد المحقق فارس وتوقيفه عن العمل للتحقيق معه، باعتباره لا يقدر حالة القلق الاجتماعي الناجم عن مقتل شخصية معروفة بسبب التأخير في كشف الجاني، ويضيع الوقت لأغراض شخصية؛ لأن زوجته قتلت برصاصات كانت تستهدفه، بسبب دوره في كشف شبكات إرهابية عدة، وتبين لاحقاً أنها تعود للتنظيم المذكور، وأن أمر اغتياله أصدره سالم العالي بنفسه، إلّا أن زوجته مريم تلقت الرصاصات بصدرها بدلاً عنه، وهذا الأمر يؤرقه ويجعله مهجوساً بالثأر لها، كما نفذ التنظيم تصفية أحد زملائه الضباط الذين أسهموا معه بكشف جرائم التنظيم الإرهابية بذات الحرفية بالتخطيط والتنفيذ، وبالتالي اعتبرت القيادة أن المحقق فارس يتمنى أن تقوده خيوط الجريمة الحالية إلى قاتل زوجته، لذلك هو يماطل بإدانة السائق رغم اعترافه الصريح بتنفيذ الجريمة.
بدت لغة السرد بسيطة وسهلة المنال في دلالاتها أو إحالاتها بالمعنى والمبنى، إلّا أن أسلوب السرد الأفقي أو الخطي جعلها لا تخلو من الرتابة في بعض الفصول، بحيث بدت الحكاية أشبه بسرد السيرة الذاتية التي تعرض الشخصيات والأحداث بالتتالي، ما يجعل بريقها يخفت وتتراجع جاذبيتها رغم قوة الألغاز والأسرار التي تنام عليها، بعكس ما تقتضيه البنية الفنية في اللعبة الروائية البوليسية، التي يفترض أن تتلاعب بإسقاط الشخصيات المفاجئ على الأحداث، والانتقال بها من صيغة إلى أخرى، فتظهر بصورة المغفل البريء حيناً، وتارة الداهية الماكر، وأخرى الخبيث المدان، الذي يبرز بوحشيته كأقسى المجرمين العتاة، هذا فضلاً عن ضرورة كسر الأنساق الزمانية والمكانية بنسبة ولو ضئيلة، بحيث تمنح السرد الحيوية، التي تؤازر السلاسة والجزالة في تحفيز المتلقي على المتابعة خصوصاً عند الانتقال من فصل إلى آخر.
________
*المصدر: الخليج الثقافي