يوسف ضمرة
لا أستطيع الركون إلى توصيف «الرواية التاريخية»، لا هنا، ولا في أي رواية أخرى، حتى لو بدت الرواية إعادة بناء لماضٍ ما، سواء كان يخص جماعة أو مكاناً. ومع ذلك، لا بد من الاعتراف بالقيمة التاريخية لهذه الرواية، لا من حيث نقل أحداث الماضي ووقائعه، ولا من حيث تصويره بالأسود والأبيض، وإنما من حيث هو عالم شكل رحم الحكايات الموالية والمترابطة، وجمع في آن واحد عشرات الشخصيات الروائية، التي لا يعنينا هنا والآن، إن كانت حقيقية أم لا. ولنعترف أن السرد، أو الوقائع الممكنة، كما يسميه أومبيرتو إيكو، يمتلك مقدرة أكبر من التاريخ، على تحويل نفسه إلى واقعة حقيقية.
نحن هنا لا نعرف إن كان الخوري متري حداد شخصية حقيقية أم لا. لكنه أصبح شخصية حقيقية بمجرد كونه شخصية أساسية في رواية الكاتبة ليلى الاطرش «ترانيم الغواية». ولا يعود يعنينا إن كان من يروي بعض تفاصيل تاريخ القدس في أوراقه، قد كان موجوداً حقاً أم لم يكن. لكننا حين نتحدث عن الرواية، لن نجد أحداً يستبدل شخصية الخوري متري حداد، أي إن القدرة على تزوير الفن تصبح أكثر صعوبة من القدرة على تزوير التاريخ.
لقد بدأت بالتاريخ، لأن الرواية تغري كل من يقرأها بالحديث عن الرواية التاريخية. والحقيقة هي أن تاريخ القدس الذي يبدو حاضراً وحياً في هذه الرواية، ليس هو الجوهر الرئيس في هذه الرواية. فالتاريخ مدون ومروي ومحكي. ربما تختلف بعض التفاصيل بين مصدر وآخر، وهو ما لا تشذ عنه هذه الرواية نفسها، فيما لو اعتبرناها مصدراً تاريخياً.
اللافت هنا، هو أن الصراعين الرئيسين في القدس، في المرحلة التي تناولتها الرواية، غائبان تماماً، إلا من بعض السطور التي تكمل حكاية ما. الصراع بين العرب والمستعمر الإنكليزي من جهة، ثم الصراع الدامي بين العصابات الصهيونية والفلســطينيين من جهة أخرى. ولو كنا أمام رواية تاريخية بالمعنى المطلق، لما تم إغــفال هذين الصراعين. لكن الروائية «راوية» ـ الاسم ليس مصادفة بالطبع، وربما يؤكد ما نذهب إليه ـ كانت باحثة أنثروبولوجية أكثر منها باحثة في التاريخ، فيما لو خيرنا بين المهنتين أو الوظيفتين. لكن الأكثر دقة، هو أنها كانت روائية وأديبة فقط، على رغم اعتمادها على وثائق تاريخية تتعلق بتاريخ القدس.
رواية قرن
الرواية مشروع فيلم وثائقي ـ بالمناسبة نحن نقرأ الفيلم أو قل نشاهده في الرواية ـ، والفيلم الوثائقي عن مدينة مثل القدس، في مرحلة تمتد أكثر من قرن، يحتاج بالضرورة إلى مؤرخين. لكن الملاحظ في الرواية، هو أن الروائية تكتفي بإسباغ صفة «المؤرخ» على بعض الشخصيات أثناء التصوير، أو ربما تكون شخصية واحدة. والمؤرخ هو عالم بتاريخ المدينة، إلا أن الروائية لا تعيره اهتماماً على الإطلاق. لكنها في المقابل، تسهب في الحديث عن والد نجمة في التشيلي، وولديه إبراهيم وحبيب. تتحدث عن العلاقة بين العمة «ميلادة» العجوز الثمانينية، وبين الخوري متري حداد، أكثر بكثير مما تتحدث عن صراع دار الإفتاء مثلاً.
يمكن القول إن الروائية «راوية» ذهبت لتصور معالم القدس القديمة والحديثة، لكنها فوجئت بقصص وحكايات إنسانية، لها وقع أكثر تأثيراً من استقبال اللنبي أو بنت اليهودية، وما قد تحيل إليه من دلالات تربطها وشائج قوية بالناس وحياتهم في المدينة المقدسة.
لا يخامرني الشك في أن الروائية ليلى الأطرش، تمكنت من إنزال مدينة القدس بوهجها عبر التاريخ، من سماء بعيدة، ووضعتها أمامنا لتخبرنا أننا أمام مدينة إنسانية، كبقية المدن، حتى وإن صلب فيها المسيح، أو عرج منها النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى السماء السابعة.
فما يجري من حكايات تبدو صغيرة، تبدو مهمتها الأساسية خلع ثوب القداسة عن مدينة عانت الفقر والجوع والاضطرابات والأوبئة والصراعات والخوف، واختلطت فيها الطوائف والمذاهب والأديان والأعراق، كمدن أخرى. وليس غريباً أن تخبرنا الراوية «راوية» أن سنتياغو «عاصمة التشيلي» تغص بالأعراق التي تختار التقارب سكنياً، فتنبت أحياء صينية وأخرى عربية وهكذا. والقدس لا تشذ عن هذه الحال، حتى لو كانت فيها كنيسة القيامة، وقبة الصخرة.
ما أود قوله، هو أن هذه الرواية تتعرض لظلم من نوع ما، فيما لو حصرناها في البعد التاريخي أو القيمة التاريخية. فهي على مستوى التاريخ لا تقدم شيئاً جديداً على الإطلاق، لكنها تقدم لنا قدساً جديدة/ قديمة، بعلاقات أبنائها وتطور حياتهم وتأثرها بالمتغيرات الداخلية والخارجية. وليست قصة حب الخوري متري الحداد والعمة ميلادة، سوى دليل على أن الرواية لم تكن معنية إلى هذا الحد بتاريخ المدينة، وإن التزمت ببعض التواريخ والأمكنة في بعض الوقائع الكبرى، وهو ما لا تستطيع إلا الالتزام به. فلا نستطيع القول إن «إدغار الان بو» مدفون في 10 داوننغ ستريت مثلاً.
وبإيجاز، فإن بعض الوقائع الكبرى، والأسماء الكبرى في مدينة القدس، حافظت بالضرورة على ما هي عليه، فالحاج أمين الحسيني هو من تم اختياره مفتياً للقدس بعد وفاة أخيه، بغض الطرف عن التفاصيل التي قد تهم المؤرخين لا الناس العاديين أو قراء الروايات.
تتبنى الكاتبة ليلى الأطرش، تقنية الفيلم الوثائقي الذي ذهبت إلى القدس لتصويره. فهي تنتقل من مكان إلى آخر من دون مبرر، طالما كان المبرر الأساسي «تصوير فيلم عن المدينة» موجوداً وقائماً طوال الرواية. وهي تقوم بمونتاج في الرواية، لتخرج الرواية فيلمها الذي ذهبت لأجله. إنها تقص من هذه الحكاية، وتسهب في تلك. تقرأ علينا صفحات من أوراق الخوري متري الحداد لولده بإسهاب. تدخل إلى تفاصيل العلاقة بين الخوري وميلادة منذ النظرة الأولى. تتحدث عن هجرة سالم أبو نجمة ثم ولديه إبراهيم وحبيب. تخبرنا بقصة زواج حبيب وفشل زوجته في الإنجاب، الأمر الذي تصبح فيه الابنة اليهودية قصة منفردة، تبدأ مع طفولتها وتنتهي برحيلها الذي يشبه الموت. هذه التقنية ليست الوحيدة التي تهيمن على بنية الرواية. فهنالك تقنية تناسل القصص والحكايات، وخصوصاً في أوراق الخوري متري الحداد إلى ولده. فهو ينتقل من واقعة إلى أخرى، وأحياناً من دون ترتيب زمني مصمت.
عالمان
تتوزع الكاتبة ما بين رؤيتها لفيلم وثائقي، عليه أن يصور الأماكن العتيقة والمواقع المقدسة، وبين عالم آخر اكتشفته من خلال صلتها بالعمة «ميلادة» وما خبأته طوال حياتها من أسرار وحكايات عنها وعن آخرين، لكي تصبح القدس مكاناً إنسياً لا بقعة مقدسة كما هي الفكرة السائدة. لقد تمكنت ليلى الأطرش من انتزاع تلك القداسة التاريخية عن المدينة، عندما سردت قصص المحبين والعشاق والحب المحرم والتبعات ومآلات البشر العاديين، الفقراء والأغنياء. وتمكنت من الكشف عن مدينتين في مدينة تجللها القداسة، وعن صراع طبقي حاد نتلمسه كقراء، من حيث قرب العائلات الثرية من الحكام «الإنكليز والعثمانيين واليونانيين» ومكافأة هؤلاء بإرسال أبنائهم في بعثات خارجية للتعلم والعودة للحفاظ على الإرث الطبقي/ السلطوي.
أما الفقراء فهم من يساقون إلى حروب الأتراك أو الحروب ضدهم. وهم من يتعرضون إلى كل ما تتعرض له القدس من محن، سواء أكانت على شكل حروب أو كوارث طبيعية. فالذين يقضون في الزلزال الكبير هم الفقراء لأن بيوت الأغنياء راسخة مثل نفوذهم وسلطتهم.
أما ما جرى التركيز عليه منذ القدم حتى يومنا هذا، فهو إصرار الروائية على أن المسيحيين في القدس لا ذنب لهم في كل ما يقترفه الغرب المسيحي ضد القدس والعرب، بل هم عرب يدينون بالمسيحية، تماماً كالمسلمين الذين هم عرب يدينون بالإسلام. وقد تكررت مثل هذه التأكيدات، حتى بدت أحياناً كأنها تهمة وجب نفيها، وهو ما كان يمكن تجنبه أو التقليل منه، حتى لو كان تاريخياً كذلك. أي إن الوقائع التاريخية لا تشفع لزلة روائية، حتى لو كانت الوقائع صحيحة تماماً. فالصداقة بين ميلادة المسيحية وزهرة المسلمة، كان يمكنها أن تتحصل على حيز أكبر في ظني، يلغي أي حاجة لإثبات أو نفي في العلاقة بين العرب المسلمين والمسيحيين.
ومهما يكن من أمر، فإن هذه الرواية «ترانيم الغواية» تفكك العقد المقدسة لمدينة أصبحت صورة ورمزاً مطلقاً على مر الزمان، وتعيدها لتصبح مكاناً عادياً يعيش فيه الناس حكايات الحب والجوع والخوف والقلق والقوة والضعف. وتتعرض للتغيرات الصناعية والعلمية التي طرأت على البشرية في أماكن أخرى، على رغم حكايات المسيح وتلامذته، وعلى رغم القداديس والصلوات في الأقصى. فالجنود الإسرائيليون يجوبون الأزقة الفقيرة ليلاً ونهاراً، تماماً كما يتحسبون لصلاة الجمعة. أي إن المحتل والمستعمِر لا يفرق بين مكان مقدس وآخر غير مقدس في المدينة. ولا يفرق بين طائفة وأخرى، أو بين مذهب وآخر.
هل كان من الضروري أن يحتوي الفيلم على بعض الصدامات في القدس؟ ربما!
—-
الحياة