مرايا القدس في رواية ليلى الأطرش : ترانيم الغواية


عادل الأسطة*



    ذهبت في مقال الأسبوع الماضي «رواية القدس.. ترانيم الغواية لليلى الأطرش» إلى أن الفصل الأول من الرواية يبدو مدخلاً يسلمنا مفاتيح صورة القدس في الرواية، وأن ما أتى بعده من فصول إن هو إلا تنويع وتفصيل وإثراء له ولصورة القدس.
وفي الفصل الثاني والعشرين الذي عنوانه «من أوراق الخوري متري الحداد: الشهر الخامس من العام 1940» (ص205) ما يعزز تساؤلاتي: لماذا لم يكن دال القدس حاضراً في عنوان الرواية؟
الخوري متري الحداد الذي يكتب رسائل إلى ابنه رفيق من زوجته الأولى يفتتح هذه الورقة بالتالي:
«هل أكتب سيرتي؟ أم قصة مدينة؟ بتعدد أجناسها وتنوّع مللها؟ والصراع المعلن والمخفي بين طوائفها؟
تمتلك المدن إن عرفت مفاتيحها.. طرقها وناسها وما خفي من أسرارها.. المدن كالنساء.. تمنحك المرأة مكانة في قلبها لو فهمتها.. والبلدة القديمة وهبتني نفسها.. وإن إلى حين» (ص205).
وإذا كنت ذهبت إلى أن هناك تقاطعات بين راوية الرواية راوية بنت عيسى، وهي إحدى شخصياتها الأساسية، وبين ليلى الأطرش، فإنني، باطمئنان كبير، أقول إن ما ورد على لسان الخوري متري الحداد هو ما كان ورد على لسان ليلى الأطرش يوم عزمت على كتابة الرواية.
أتكتب سيرتها مع القدس أم تكتب قصة المدينة بتعدد أجناسها وتنوّع مللها والصراع المعلن والمخفي بين طوائفها، وما كان هو أن ليلى كتبت قصة المدينة بتعدد أجناسها وتنوّع مللها والصراع المعلن والمخفي بين طوائفها، وجعلت الخوري متري يحكي هذا ويكتبه في رسائل إلى ابنه رفيق.
وكانت ليلى نسيت أن الأب متري هو الذي يكتب، ففي إحدى أوراقه، وهي الورقة التي كتبها الخوري في 1931 (ص231) نسيت ليلى أنه كتبها في العام الوارد ذكره، وجعلته يتحدث عن الحرب العالمية الثانية التي بدأت في 1939 وانتهت في 1945، والسؤال الطريف هو: كيف كان الخوري كتب ورقته تلك في 1931 وأتى فيها على ما جرى في الحرب العالمية الثانية، وهو ما نقرؤه في (ص244).
«الأفكار العظيمة بذور تطرح سنابلها في أرض أعدت لزراعتها.. الفكرة العظيمة نجمة، شعاعها وحده قاصر عن إضاءة درب المسافر، لكنها تسطع نوراً وهّاجاً وسط مجرّة أو ثريّا.. والوعي بالقوميات في أقطار الخلافة، بل وفي دول تقدمت عليها، بدأ عشوائياً غامضاً، مثل فقاعات جريش يغلي في قِدر.. يرتفع ويهبط وينفجر، وكثيره يتكسّر ويختفي قبل أن يتماسك، لهذا تصارع العالم في حربين كونيتين ولم يكتمل النصف الأول من القرن العشرين… « وفي الصفحة نفسها تخلط الكاتبة، على لسان الخوري/ لسانها، بين الدولة العثمانية والتركية وكانت الأولى انتهت أصلاً».
حقاً إن ليلى كتبت أيضاً سيرة الخوري متري وترانيم غواياته، لكنها كتبت سيرة مدينة القدس أكثر، واتكأت في كتابتها على عشرة مراجع أنجزت أكثرها عن القدس، وقد أوردت ثبتا بها في نهاية الرواية (293/294) وهذه المراجع هي: القدس 1948 ـ الأحياء العربية ومصيرها/ الحياة الاجتماعية في القدس في القرن العشرين/ النخبة المقدسية ـ علماء المدينة وأعيانها/ مدينة القدس وجوارها/ عام الجراد ـ الحرب العظمى ومحو الماضي العثماني/ تاريخ كنيسة أورشليم الأرثوذكسية/ يوميات خليل السكاكيني/ القدس العثمانية في المذكرات الجوهرية/ موسوعة أعلام فلسطين.
ولنلاحظ أن أكثر هذه المراجع لم تخل من دال القدس، ما يجعلني أكرر السؤال الذي أثرته في المقالة الأولى: لمَ لمْ تجعل ليلى الأطرش لفظ القدس مكوّنا من مكوّنات العنوان؟
عدا المراجع المشار إليها سابقاً، فإن الكاتبة التي عاشت في بيت ساحور القريبة من القدس، كانت قبل 1967 تتردد عليها، ثم إنها زارتها مراراً في أثناء فترة أوسلو حتى كتابة الرواية، وهي بذلك تشبه بطلتها راوية، والبطلة التي دخلت بيوت المدينة القديمة خصتها بوصف بدا في الرواية واضحاً، وهذا ما لم نلحظه في رواية حسن حميد «مدينة الله» وفي رواية واسيني الأعرج «سوناتا لأشباح القدس»، بل وفي رواية علي بدر العراقي «مصابيح أورشليم» وما قرأناه عن القدس في رواية الأخير يخصّ القدس الغربية، وهي الأحياء التي ظهرت في روايات الكتّاب الإسرائيليين التي قرأها علي، رغم أنه اعتمد أيضاً على خرائط للمدينة. وحين تحدث الأديب الجزائري الطاهر وطار عن روايته «الزلزال» التي جرت أحداثها في قسنطينة قال إنه وصف المدينة من الخارج، لا من الداخل، وعلّل هذا بأنه لم يدخل بيوتها، وبالتالي لم يخبرها جيداً. فكيف بدت المدينة في الرواية؟
من المؤكد أن المرء لا يستطيع اختزال صورة القدس في الرواية التي بلغ عدد صفحاتها 293 صفحة في صفحة واحدة. إن هذا سيبدو تشويهاً حقاً للصورة، ومع ذلك لا بأس من المحاولة.
لإقناع القارئ بأن ما تكتبه الروائية عن القدس لا يتكئ على الكتب فقط تختار شخصية روائية عاشت زمن العثمانيين والانتداب وامتد بها العمر لتشهد الاحتلال الإسرائيلي، وتجعل هذه الشخصية شخصية مصابة بالزهايمر، وأحد أعراضه تذكر المصاب به السني الأولى والمبكرة من حياته وما شاهده فيها، وهكذا تقرأ عن القدس زمن العثمانيين والانتداب من خلال هذه الشخصية، شخصية ميلادة أبو نجمة التي يقع الخوري متري في غوايتها، فيتزوج منها، رغم أنه راهب في الكنيسة، وكان الخوري هذا كتب أوراقاً عديدة لابنه رفيق عبّر فيها عن تجاربه وحياته التي عاصرت الأتراك العثمانيين والانتداب البريطاني، وهكذا قدمت الرواية صورة للقدس في ذينك العهدين.
الساردة راوية بنت عيسى التي تزور القدس زمن الاحتلال، وكانت تعرفها قبل هزيمة 1967، ما إن تصل إلى مشارف المدينة حتى تلحظ تغيرات على طرق المدينة/ مدينة الله، فتصف أجواءها وأبوابها، وترى أن كل حجر في القدس يحكي قصة.
هكذا، ومن خلال ذاكرة ميلادة، نعرف عن القدس زمن العثمانيين والانتداب ونعرف عن التداوي بالأعشاب قديماً فيها، وبكاسات الهواء، وإذ تدخل راوية بيت ميلادة لتقيم عندها تقرأ وصفاً عن بيوت المدينة من الداخل، وعن التغيرات التي حدثت عليها، وهكذا تبرز للمدينة صورتان: الصورة الحالية والصورة التي كانت ـ أي الصورة في الذاكرة.
وهكذا أيضاً تعرف عن أحياء القدس الغربية: بداياتها وتطورها وما ألمّ بها في حرب 1948، بل وما ألمّ بسكانها العرب الذين غادروها.
تقصّ ميلادة عن ماضي المدينة وعن الجنكيات فيها، وتأتي على مجتمع المدينة، مجتمع القدس، مجتمع الغمز واللمز، وتقرأ صفحات عن هبّة القدس في 20 ق20، ويساعد ميلادة في تعريفنا لهذا المؤرخ الذي تصطحبه راوية التي تريد تصوير فيلم عن المدينة، وهكذا تحضر القدس من ذاكرة ميلادة وأوراق الخوري متري والمؤرخ وأخيراً من مشاهدات راوية في زيارتها.
القدس مدينة السماء (ص80) وهي أحياناً تشبه مدن الغربة (91، 92) وهي مدينة تتجدد (108) وهي مدينة قاسية (114، 115، 116) وهي مدينة ثقافية، ففيها كانت تعرض الأفلام التي تعرض في القاهرة (117) رغم أنها كانت ضد التمثيل (ص142)، وهي مدينة الاختلاف، فكل جهة تدعي أنها مدينتها (143)، وهي مدينة تخنق من يقطن فيها: مدينة خنقة وحشره (129)، وهي مدينة للسواح (142)، وهي مدينة بوجهين (157)، وللصوفية حضور فيها (162) وقبل أن تأتي إليها الكهرباء كانت مدينة أشباح تعشش في عقول أهلها حكايا وأساطير لا أساس لها في الواقع (176)، ورغم تعدد الأديان فيها فهي مدينة تعايش (178) والقدس مدينة بلا أسرار، لأنها مدينة صغيرة (197) فالناس تتسلّى بقصص بعضها، ورغم تدين أهلها إلاّ أنها مدينة تكثر فيها الخلافات لأسباب سياسية (199) و»مع أن دور العبادة فيها أكثر من بيوت الناس، لكنها قاسية على ناسها، وعائلاتها قاسية على بعضها» (201) وثمة حارات أكابر فيها وحارات نَوَر، لكنها القدس.. المتجددة أبداً نعمة ودهشة» (239). والسؤال هو: هل أبرز أي روائي، من قبل، هذه الصور للقدس؟ الأمر يحتاج إلى تدقيق!!

* الأيام

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *