*زياد خداش
صباح الخير للكيبوتسي القديم عاموس، أما زلت نائماً؟ أم تراك تقرأ الآن في فراشك؟ هل تناولت فطورك؟ كيف هو الطقس الآن في عراد؟ قبل دقائق أنهيت قراءة كتابك الضخم بصفحاته السبعمائة والخمس والستين، «قصة عن الحب والظلام»، قرأته على مدار شهر أو أكثر قليلاً، تباطأت في قراءته عمداً لأتأمل ما فيه من صور وجماليات لغوية وأحداث وإحالات إلى التاريخ والفلسفة والسياسة، قبل أن أقرأ الحرف الأول في كتابك وضعت الكتاب في حجري ونظرت طويلاً إلى شجرة اللوز العارية «وتفعفلت» تحتها بهذه الأسئلة: هذه ليست سيرة توماس ما أو ماركيز أو سارتر أو ساراماغو أو فرجنييا وولف.. هذا أدب سيرة مختلف لروائي إسرائيلي تتناقض روايته التاريخية بشكل هستيري مع رواية شعبي، مقدسي النشأة، تربى في بيت صهيوني متطرف ومثقف «عم والده هو الدكتور يوسف كلاونز رئيس قسم الأدب العبري في الجامعة العبرية بالقدس»، موقفه متذبذب من قضية شعبي، فمرة هو مع قصف غزة (بشكل مركز ومحدود) ومرةً ضد الاحتلال، كيف سأقرأ ظلام عاموس وحبه إذاً؟ ما الذي سوف أجده هناك لأستمتع به؟ لماذا لا أقرؤه إذاً قراءةً معرفيةً تاريخيةً فضوليةً، لأطل على تاريخ القدس من منظار الآخر الذي يعيش أحلام تاريخ غريبة وهواجس أسطورية ودينية لا يمكن لها أن تتحقق إلا على أنقاض حرية وسيادة وتاريخ بلادي، هل بالإمكان الاستمتاع جمالياً وبنائياً بأدب يتضارب محتواه وعلاماته مع معايير العدالة والحرية الإنسانية؟ هل تلتقي العنصرية مع الفن؟ هل أقدر على قراءة حاييم بياليك قراءةً جماليةً فنيةً محايدةً نازعاً عنها الحمولات العنصرية؟ أبإمكان مستوطن إسرئيلي في أرض رام الله قراءة قصيدة (لاعب النرد) لمحمود درويش قراءةً شعريةً مستمتعاً بصورها وبنيانها ولغتها ومجازاتها بعيداً عن إشاراتها التاريخية وخلفياتها الوطنية الفلسطينية؟ الفنانون الإسرائيليون الذين يسكنون بيوت العرب المطرودين في قرية حوض الفلسطينية، هل هم فنانون حقاً؟ كيف يلتقي الفن مع السكن في بيوت طرد أصحابها منها عنوةً؟ هل نستطيع الاستمتاع بلوحاتهم؟ أسئلة كثيرة تحت شجرة اللوز العارية وفي حضني ظلامك وحبك يا عاموس. أحببت كتابك، لأنه أرهقني بالغضب، والمتعة، نعم المتعة، رغم كل الفظاعات التاريخية والمغالطات والأوهام المرعبة التي آمنت بها شخصياتك، أعرف أنك كنت ابن مناخك التربوي الصهيوني المتطرف، وأنك نقلت تماماً ما كنت شاهداً عليه كطفل وصبي، لكني أريدك أن تعرف أن ثمة بشراً آخرين كانوا يعيشون في القدس نفسها التي عشت فيها في تلك الفترة، يبدعون أدباً وفناً، ويعيشون حياتهم ويحلمون ويسكنون بيوتهم، وأن أحلام شخصياتهم الفظيعة التي كنت شاهداً عليها جردتهم من هذه البيوت وشردتهم في منافي الأرض، كان ثمة مبدع اسمه خليل السكاكيني، هل سمعت به يا عاموس؟ يعيش في القطمون في بيت جميل بناه مع العائلة بتؤدة الطير ولهفة رموش العينين وحب العاشق وشوق المنفي، سكن فيه 10 سنوات تقريباً مع زوجته أم سري وابنتيه دمية وهالة وابنه سري، قبل أن تجتاحه وتنهبه أساطير أولئك الذين صورتهم في كتابك كأنهم خلفاء الحقيقة والسلام والثقافة والحب على الأرض، أو كأنهم سكان الأرض الوحيدون، كنت أشعر بغضب وأنا أقرأ ما تسرده عن أخبار ومواقف أدباء وشعراء وأكاديميين مثقفين يهود يعيشون في القدس، أمثال: يوسف عجنون، وبتسالئل ايسيديك، وجرشون حورجين، ويوحنان طبرسكي، ويسرائيل زراحي، وحاييم تورن، وبنتسيون نتنياهو وآخرين، وأقول في نفسي هل هذه قدسنا التي تتحدث عنها؟ هل هي نفسها القدس التي عاش فيها: خليل السكاكيني، ونخلة زريق، وبندلي الجوزي، وعادل جبر، وإسحق موسى الحسيني، وإسعاف النشاشيبي، وعيسى العيسى، وخليل بيدس، وآخرون. عاموس، رغم كل شيء، استمتعت بلغتك العالية والشفافة وإشاراتك الفلسفية وشعريتك وعمق تحليلك وتصويرك لشخصية والدتك المنتحرة غنية الروح التي هزتني، وبأسلوبك البنائي السردي المتين والحلمي وبعثرتك الجمالية لزمن أحداث السيرة، تلك البعثرة التي تشبه الحياة تماماً، في تلقباتها واختلاطها وتداخلاتها بين الأحلام والوقائع، لكني مازلت غاضباً لأنك اختصرت الوجود العربي في القدس بجبنة لفتا اللذيذة ولأني لم أسمع خطوات خليل السكاكيني في أرض سيرتك.
_________
*كاتب من فلسطين(الإمارات اليوم)