احتفاء سينمائي بحيوات ستيف جوبز.. النبيّ الإلكتروني


زياد الخزاعي


جُلّ حياة أيقونة حواسيب «أبل» وشارة «تفاحتها المقضومة» الشهيرة، الأميركي الحامل أصولاً سورية وألمانية ستيف جوبز، متوافرة بتفاصيل لا تضاهى في مؤلَّف يحمل اسمه لكاتبه والتر إيزاكسون، الذي نزل الى الأسواق في العام 2011، بعد 19 يوماً على رحيله عن 56 عاماً. استَلَب المرض الخبيث منها ومن نشاطه آخر ثماني سنوات. أشاد إيزاكسون نصّه على 40 مقابلة ومحادثة مطوّلة بينهما، بالإضافة إلى «مقابلات مماثلة مع 100 شخص من الأصدقاء والأقارب والمنافسين والخصوم والزملاء»، ليكون سفراً أساسياً عن حيوات صاخبة وشخصيّة قويّة لرجل أعمال مبدع، تسبّب شغفه بتحقيق الكمال وجرأته في إحداث ثورة في 6 صناعات، غيّرت وجه البشرية إلى الأبد، كما كتب إيزاكسون في مقدمة مَتْنه الثمين.
أفلام
أغوت سيرة جوبز الانقلابية السينما مرات عدّة، جاء بعضها لئيماً كالشريط التلفزيوني «قراصنة وادي السليكون» (1999) لمارتن بيرك، حول المنافسة بين جوبز وغريمه مبتكر برمجة «ويندوز» بيل غيتس، وآخر متساهل كالوثائقي «ستيف جوبز: هيبيّ المليار دولار» (2011) للورا كريغ غراي وتريستان كون، الساعي إلى فكّ لغز شخص بدأ مغامرته من مرأب سيارات وانتهى فاحش الثراء. فيما كانت الأفلمة الأقرب الى الجديّة، على الرغم مما أصابها من تنميط هوليوودي فجّ وأداء باهت لآشتون كوتشر، أنجزها الأميركي جوشوا مايكل ستيرن قبل عامين بعنوان «جوبز»، تعثّرت في اقتناص ابتكاريته وأمجاده، والعوالم التي حرّضته على ثورته التقنية العارمة. وهو ما فلح فيه أخيراً داني بويل بمساعدة اقتباس خلاّق للسيناريست الموهوب أرن سوركن (له «الشبكة الاجتماعية « لديفيد فينشر، عن مخترع الـ «فيسبوك» مارك زوكربيرغ، و «كرة المال» لبينت ميللر، وغيرهما).
هذه لعبة درامية خالصة وناجحة إلى حدّ بعيد. من ناحية، اختزلت قصص جوبز (مايكل فاسبندر) في 3 مفاصل درامية أساسية، حول أشخاص مهروا حياته وقادوا أقدارها: زوجته كاثرين، وابنته ليزا، ومديرة التسويق في امبراطوريته جوانا هوفمان (كيت وينسلت، بلكنة بولندية)، وشريكه في الاختراعات ستيفن وزنياك (الكوميدي ساث روغن)، تداخلت مع إعلاناته لـ 3 اختراعات حاسمة لأجهزة «ماك» (1984) و «نكست» (1988) و «أي ماك» (1998). نهض الشريط على أمانة سينمائية لعمر رجل فذّ ونقلاته الكبرى، مع فرادة تشكيلية وفيوض من ضياء وألوان صوّرها ألوين كوشلر بأسلوبية مرنة، استلهمت صنعته وأدواتها الإلكترونية وشاشاتها وإشعاعاتها وظلالها. بسبب عالم مغلق وجوانيّ لرجل لا يرى سوى انتصاره، جعل الثنائي بويل وسوركن من أماكن حبيسة صنواً لدواخل تقوده نحو شكوك سقيمة بالآخرين، وشقاق دائم معهم («أنا محاط بالأعداء»، يصرّح بلا تردد)، ومزاج ناريّ يقود من حوله إلى الغضب واليأس، وتخابث متأصل بين كلماته وسكناته، أمّن عبرها منتجه السايبري من سرقات وتلاعبات وتقليد، كما ولعه الأناني في مواجهة الآخرين وإهانتهم بمنزلاتهم وتعييرهم بمواقعهم التي حوّلته كلّها إلى كائن يسير على صراطٍ واهٍ بين الاحتيال والقداسة. كلّ تفصيلة لن تُضخَّم درامياً هنا، لأنها واقعة حياتية مستلّة من سيرة كائن لا يستحي من إنكار أبوّته لابنته، محافظاً بعناد على استقلاليته، وهو عنصر فاعل بَجَّله المخرج ألكس غيبني في الوثائقي الباهر «جوبز: رجل في آلة»، مرتّباً حكايته الطويلة (128 د.) على مسرد حواري استقصائيّ فريد لنظرات من جايله وقناعاتهم بـ «عبقريته» وتناقضاتها، مشيداً «برج بابل» من توصيفات لكلّ خطوة له (أشهرها تنافسه مع شركة «أي بي أم» العملاقة)، واختراع منه (استعراضاته المدهشة لـ «أي فون» و «أي باد» أمام جمهور حماسيّ ومغرم بطلّاته)، وعداوة عنده (تباغضه مع مدير شركة «أبل» جون سكالي)، ومكيدة خطط لها (استهتاره بحقوق عمّال مصانعه في الصين،) وغيرها. جوبز لدى غيبني نبيّ إلكتروني أميركي معولم، أنتجه عزم رأسمالي وتاريخي وربّاني، أراد من امتحان قدرة آلة صمّاء على جعل الناس مهووسين بها، عنواناً صلفاً لمقولته الشهيرة: «أريد أن أترك بصمتي في الكون».
المتميّز والمختلف
لا ريب في أن ستيف جوبز إنسان فريد. خلق آلات تفاعلية ذات إغواء وخفة لن تقارب شخصيته الاستحواذية والمحترزة من كلّ شيء. فيلم غيبي كما فيلم بويل «مسرحة سينمائية» لكون شاسع من معايير ذاتية، رسمها إنسان جهبذ مغرور ثوَّر أجهزة بدت كدمى ضوئية وسحرية، وكرّسها شعاراً لعالم تكنولوجي حداثيّ: «كن متميزاً، كن مختلفاً». حرص بويل على توليف مفتتح فيلمه بمقطع يعلن فيه كاتب الرواية المستقبلية «أوديسا الفضاء 2001» البريطاني أرثر سي كلارك قناعته في أن أجهزة الكمبيوتر «تثري مجتمعاتنا». وفي نهايته، نرى جوبز واقفاً على خشبة مسرح نحيلاً ومتواضعاً ومحاصراً بضياء سحري، شبيهاً بعمود الـ «مونوليث»، الذي ما إن مسّته أصابع قرود المخرج ستانلي كوبريك في أفلمته المجيدة لحكاية كلارك، حتى ارتقت نحو معرفية لا حدّ لها. بينما يختم ألكس غيبي شريطه بجوبز وهو يعظ مستمعيه بحكمة جبل صخري وطبقاته التي جعلت منه صلداً، إشارة الى ابتكاره هاتف الـ «أبل»، الذي اخترق السموات، ولن يقربه الموت أو يختفي، كونه بذرة تمدّننا الأزلي. ستيف جوبز «برومثيوس» ناهب الريادة وصانع «تسالي» التواصل الاجتماعي، التي مثلما قرّبتنا من بعضنا البعض أينما كنا، أغرقتنا بدورها في غربة إنسانية موحشة.
——-
السفير

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *