الإبداع و”صُكُـوكُ” الرِّواية


*سعـيدة تاقي


خاص ( ثقافات )
الرواية تلك المتهمة بالغـواية و المـدانة بالحـظوة قبل الكـتـابـة و بـعدها، أثـنـاء القراءة و دونها.. في حضن الإبداع و قيد الخَلْق و داخل غُـرَف التمارين المُغْـلَــقة و مقاعد مُحتَرَفات الـكـتابـة أو خُلوات القراءة الفردية.. تقاوم ذنوب الانـفـتاح و التجريب و الإنـشـاء و الارتـحـال و الحـشـو و الترهُّـل.. و تـتـحـمَّل أوزار التحـامـل و التـطـاول و التـعـسف.. و تمضي بمميِّزاتها التجنيسية لتواصل درب الوجـود على قيد الحياة و الخلق و الإبداع..
لكن الرصيد لا يصفو، بل يخالط مُنْجَزَه “الأصيل” وافِـدٌ كثير لا يكيل للهوية الأجناسية المرتَسِمَة بوضوحٍ في المتعالي النَّصي الذي شيَّدَته الرواية و ما زالت تشيِّدُه و ستواصل تشييدَه غيرَ المزيد من الإضرار.. ففي لحظة “الحظوة” التي تُنـعَتُ (أو “تُرمى”/”تُـقذَفُ”) بها الـروايـة على مستوى الكتابة و النـشـر و الطـبـاعـة و التـوزيـع و التـرجمة و القـراءة و التداول و النقد و المواكبة، تنحسر معالم الإبداع الجيد و تتفشى ـ تحت الطلب ـ تمارين الكتابة التسريدية التي تُلْحَق عنوة بجنس الرواية.
من الحكاية إلى الرواية:
الرواية ليست مقابلاً للحكاية، حيث تتوالى الأحداث في مسار زمني أفقي يحترم خطية التعاقب، و يمضي بالمتلقي من متوالية أولى إلى ثانية فثالثة…، وصولا إلى الأخيرة. فتكون المتوالية الأخيرة إيذاناً بفك العقدة أو العقد التي ربطتها المتواليات السابقة، و تلميحا بالموقف الذي قد يكون مناسبا للاستخلاص من كل الأحداث المتتابعة، و الذي سيعلق بالتأكيـد بذهن المتـلقي و يشحذ طاقاته للتفكير في النهاية التي آلت إليها الحكاية. الرواية جنس إبداعي يتجاوز مستوى الحكاية البسيطة إلى تشييد حبكة إبداعية تُحْكِم نَسْجَ أسْداء الحكي بلُحمة السرد على قدر ما يحيِّنُه الخطاب التسريدي المُبدِع. لأجل ذلك فإن كتابة الرواية تتجاوز أمداء الاسترسال في سـرد الحـكاية و التـقاط تعاقـب الأحـداث و خلق التشـويق و استدعاء القارئ/المروي له إلى الانتباه و التيقظ، و تحفيزه إلى استخلاص الدروس و العبر.
الــرواية ليست مجـرد احـتـمال نصي للحـكاية، يعثر لها على استمرار حي يغمرها بأطاييب عوالِمه و أنساقه. و الرواية ليست مجـرد سَـرْدٍ يستوعب القـصة و يفرِّعُ الأحداث و يتلاعب بمصائر الشخصيات.. إنها إبداع فني ينهل من التجريب الأدبي و التسريد النصي و يقتات على روح الخَلْـق الفياض، و ينثر بين كل ذلك حياة الواقع و دفق الثقافة و تأمل الفلسفة و حكمة التاريخ.
من الرواية إلى الرواية:
لا يقدِّم فِعْلُ الكتابة و رسْمُ الحرف على مستوى التشييد السردي في الرواية مقابلاً موضوعيا لفعل الحكي الشفهي أو الإلقاء التشخيصي في الحكاية الشفهية .
و لئن كان التقابل العيني بين الراوي و المروي له الذي قامت عليه الثقافة العربية في كل أنساقها الموروثة، قد استبد فعلاً في لحظة الانتقال من الطور الشفهي المَروي إلى طور التدوين و الكتابة بكل المحافل و السجـلات المـكتـوبة، في كل أصناف المعـرفة و البـلاغـة و الـنـحـو و التفـسير و الرواية و الفـقـه و الكلام و التأريخ… و واصل ترسيخ بنياته ضمن السجل المكتوب باعتماد محاورة الكاتب للحاكِم “الآمر بالكتابة” أو باعتماد محاورة الكاتب للمخاطَب المفترَض أو العيني (عبد القاهر الجرجاني في “دلائل الإعجاز” مثلا)، بحيث ظلت بنية الرواية من راوٍ و مروي له مستضمَرة في جل الإنتاجات ضمن الطور المكتوب.
فإنه لا يصح بأي شكل من أشكال الاحـتـمال افتـراض تعـويض نسق التقابل بين الراوي و المروي له بقـناع الـسـارد أو تلك الشـخصـية الـورقـية التي تتحكم في كل البناء السردي و التشخيص الحكائي ضمن الحبكة الروائية. و لا يمكن لكتابة الرواية في “لحظة الحظوة” أن تعتقد أن اختلاق فعل الرواية (ثنائية الراوي و المروي له) عبر شخصية السارد النصي على مستوى السرد بإمكانه أن يستوعب الجنس الروائي إبداعياً، لأن هذا الأخير لا يرتوي بحضور السارد/الراوي أو بهيمنته أو باستبداده، بل إن للوصفة الروائية مقاديرَ أخرى تنزاح عن كلِّ ضبطٍ مروي أو تقـابُـل حكائي أو تحديد قبلي لنسق الإبداع.
من الرواية إلى الإبداع:
قد يكون التجريب حمَّال أوزار التطاول أو التحامل أو التعسُّف على الرواية، حتى في “لحظة الحظوة”، لكن الفعل الإبداعي بأصله الخلَّاق سيرورةُ تجريب لا تروي الظمأ للجديد المُبتَكر و المُدهِش. و الأدب في منشأ أجناسه و أنواعه و صيغه قائم على ما يتيحه التجريب من طاقة فعّالة تزوِّد الأدب بنسغ الحياة المتجدِّد في كل كتابة أو تحرير أدبين. بيد أن التوازن المفقود بين ما يعنيه التجريب للإبداع و الخَلْـق و الأدب في الأصل، و بين ما قد يتيحه من مساحات لعب أو تلاعب و إنتاج تحت الطلب في مُنتَهى درب التمرين، يقحمُ جنس الرواية في “طبخات” سردية عديدة، لا تحمل من خواص الجنس سوى التحديد القبلي الموضوع على غلاف العمل المنشور باسم “سلطة” الكتابة و رعاية سوق النشر.
لا شك في خاتمة المطاف أن كل تراكم يفيد قدرة المجال على الابتكار و التنويع، لأن التنوع و الاختلاف و التباين وضع طبيعي و سنة مطلوبة لتفعيل تمايز القوي عن الضعيف و الجيد عن الرديء و المبدِع عن غيره، مما يقتضي أن ما قد يتحقَّق من إنتاجات لابد أن يخضع للمتابعة و للفرز و للنقد دون مجاملة أو محاباة أو تسويق تجاري. لكن في عمق الكثرة هناك خسائرُ عديدة لا تعضِّد رصـيد الجـنـس الأدبـي، و لا تسجَّـل لصالـح تعـزيز قـنوات القـراءة، و لا تفـيد أصل الكتابة أو الإبداع أو الخَـلْـق أو الأدب.
إن الروايـة ليست متـناً يتـوِّج فـائـض القيـمة الإبـداعـية للـشعر أو للقـصة أو للمـسرح أو للتشكـيل أو للموسيقى أو للسينما، أو يتـوِّج مـقــامـات الظـفـر في الســياسة أو الـتاريخ أو الفـكـر أو الإعلام أو النقد… إن الكـتـابة في أي مجال أو ضمن أي نسق لا تستـقـيم ـ إبداعياً و فكرياً و وجودياً ـ دون الالتزام العفوي بمواثيق الكتابة في ذلك المجال أو ذلك النسق، و دون الالتزام بالحرص الصادق على إغـناء ذلك المجال/النسق و منجَزه الإنساني. لأجل ذلك فإن البحث عن صكوك الإبداع بين ثنايا كتابة “الرواية” لا يكشف سوأة الكتابة في لحظتها فحسب، بل إنه يعــرِّي قـيم الإبـداع و الخَلق و التفكير التي لم تكن مرتكِنة إلى أسس سليمة، حتى في لحظات كتابة سابقة في مُنجَز قبلي. 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *