انتحار المثقفين العرب/ الجزء الثاني




أروى المهنا


خاص ( ثقافات )

مر وقت ليس بطويل منذ أن قمت بكتابة الجزء الأول من هذا الكتاب “انتحار المثقفين العرب” هذا الكتاب الذي لم أخرج من دوامته بعد، ولن على ما يبدو، اقتُبس على غلاف الكتاب لرجاء النقَّاش (من أعمق وأجمل الكتب التي صدرت حديثاً لواحد من أكبر المفكِّرين العرب المعاصرين)، ومن منا كقراء وكتَّاب نحمل على عاتقنا ما نحمله لا يعرف من هو رجاء النقاش الناقد والكاتب المصري صاحب مقالات “هل تنتحر اللغة العربية!”، والتي جمعتها زوجته عند وفاته في كتاب واحد ليقرأها العالم أجمع بشكل أوسع مما هو عليه. لي أن أضم صوتي الخجول لصوت رجاء لأُسقط ما أسقطه على انتحار المثقفين العرب بأعمق وأجمل الكتب التي صدرت حديثاً بل وأكثر. كُنت قد توقفت في الجزء الأول، والذي نشرته في موقع ثقافات عند عدَّة نقاط جديرة بأن ألقي الضوء عليها أيضاً لتشاركني أيها القارئ متعتها الخاصة جداً.

في صفحة 151 يأخذنا الكاتب بجناحين لا مثيل لهما، جناحين للعمل الفني العظيم لا يحلق دونهما (في غياب الأعمال الأدبية والفنية العظيمة عن مسرح الثقافة العربية هذه الأيام، نشعر بشوق كبير إلى الحديث عنها، إن لم يكن عن أعمال منجزة ملموسة فعن بعض الشروط الجوهرية التي لا بد أن تتوفر في أي عمل أدبي أو فني ليكون أدباً وفناً عظيماً)، نعم ولي أيضاً أن أشعر بالشوق الكبير للحديث عن إنجاز أدبي ضخم يكون بمثابة مفارقة كبيرة في هذا الوقت المُعاصر بالذات حيث إن الحركة الشعرية مرنة أكثر من ذي قبل، ويقع على القصة القصيرة والرواية ما يقع على الشِّعر أيضاً، ولم أنسَ بالطبع المسرح وكل حرية النص التي يمكن أن يلعب بها المخرج حينها، البناء المادي هو الجناح الأول لعمل فني عظيم (يشترط سلامة البناء المادي الحسي للعمل أو صورته الحسية التي تتراءى لكل الأنظار، والتي يستطيع أن يبصرها ويفهمها ويتذوقها الناس العاديون على اختلاف مستوياتهم والتي لا يختلف في النظر إليها في حدودها الحسية هذه الإنسان العادي والناقد المتذوق والفيلسوف المحلل، فهي أمامهم سواء من حيث هي مادة وصور وشخوص وأحداث وألوان وأضواء وأصوات وصيرورة متجسدة في الواقع المحسوس) ومن تراثنا القديم يقدِّم لنا الأنصاري ظاهرة انتحارية لأديب انتحر أديباً بإحراق كتبه وأنقذه التصوف من الانتحار الشخصي، انتحر أبو حيان فكرياً ومعنوياً عندما أحرق كتبه وهو الأديب والمفكر الذي ليس له من تراث في هذه الحياة غير تلك الكتب.

أبو حيان التوحيدي من كبار مثقفي القرن الرابع الهجري يضعه النقاد من حيث التفوق والإبداع الأدبي بعد الجاحظ مباشرة في تاريخ النثر العربي. كاتب خصيب الأسلوب متوقد الفكر عاش معظم حياته فقيراً مهملاً، وانتهى متصوفاً يائساً من أشهر كتبه الإمتاع والمؤانسة، الصداقة والصديق. عنون الأنصاري ما عاشه التوحيدي بصراع الأضداد، صراعه أولاً مع الفقر المدقع الذي لم يجد التوحيدي أي مبرر فلسفي أو ديني أن يقنعه بعدالته ووجاهته، أما الصراع الثاني الذي عاشه التوحيدي (كان أبو حيان يتمتع بعدد من المواهب والكفاءات: كان منشئاً بارعاً ومثقفاً واسع الاطلاع، ومفكراً له وزنه، وكان يريد دون شك احتلال اجتماعي يتناسب مع مواهبه ويرفعه على الأقل إلى منزلة ابن العميد والصاحب بن عياد أو ما يقرب من ذلك تحقيقاً لذاته من ناحية وتخلصاً من حالته المزرية من ناحية أخرى)، هكذا ذهب التوحيدي لفكرة الانتحار، في كتابه الهوامل (يثير مسألة الانتحار ويستعرض أحوال بعض أهل العلم الذين لجؤوا إلى الانتحار تخلصاً من البؤس الشديد، وهو وإن كان “يهجن” التخلص من الحياة فإنه مع ذلك كان يجد صورة نفسه في أولئك المنتحرين، فكل واحد منهم أبو حيان في بؤسه وسوء حاله وضيق رزقه ونفور الناس عنه)، ولقد تجسدت صورة الانتحار في حياته بشكل درامي عندما حوَّل صداها من نفسه إلى كتبه فأعدمها انسياقاً وراء شعور داخلي فيه أن أبا حيان المفكر والأديب لا يمكنه أن يعيش في ذلك الإطار الحياتي والاجتماعي الذي يسوده اختلال المقاييس من كل جانب. في الجانب الآخر كما في حالة يافيم لاديجنكسي وظاهرة انتحار الفنان اليهودي الذي وصل إلى إسرائيل ضمن هجرة اليهود الروس إلى “أرض الميعاد” بعد أربع سنوات من وصوله ذهب ذات صباح إلى الاستديو الفني الخاص به كعادته كل يوم ليزاول نشاطه الفني، وبدلاً من أن يرسم شنق نفسه ووضع حداً لحياته وهو في السبعين من العمر بعد أن قام برسم لوحتين كانتا بمثابة رسالة انتحار فماذا قال في رسالته؟ أراد “بافيم لاديجنسكي” أن يقول إنه لم يستطع أن يتعايش لا مع النظام السوفييتي ولا مع المجتمع الصهيوني في إسرائيل، وأنه ظل مصلوباً على خشبتي أو على نجمتي النظام (أن يتضايق فنان يهودي مشبع بالروح الدينية من النظام السوفييتي في روسيا هذا مفهوم يمكن تفسيره وتبريره، ولكن أن يرفض فنان يهودي أصرَّ على الهجرة إلى إسرائيل بعد أن قارب السبعين أن يرفض الحياة في الأرض الموعودة ويقرر الانتحار ويضع نجمة داود رمزه الديني الصهيوني العميق على مستوى النجمة الحمراء الشيوعية من حيث كونهما تعبيراً عن القمع والعداء لروح الإنسان والفن، فهذه فضيحة شديدة الإحراج بالنسبة لصميم الفكرة الصهيونية والمجتمع الإسرائيلي).

إلى دعاة الحوار الحضاري مع إسرائيل من بعض كبار الأدباء الناطقين بالعربية اقرأوا قصة هذا الفنان اليهودي الذي لم يستطع حتى الحوار المعيشي مع إسرائيل ألا تقول لكم قصته أنكم صرتم حواريين مع اليهود أكثر من اليهود أنفسهم”. ينتقل الأنصاري لغراهام في (إنِّي أتهم) وهو العنوان الشهير الذي اختاره الأديب الفرنسي إميل زولا في القرن التاسع عشر لإثارة القضايا الشهيرة في عهده وكان غرين يقول للفرنسيين لن تعودوا أوفياء لتقاليدكم، وها نحن نيابة نحملها عنكم “إني أتهم قصة علاقة مراوغة بين أديب إنجليزي ومدينة فرنسية (يبدو أن الريفييرا الفرنسية تعطي الحرية للكشف عن أجسامهم في شواطئها تحت شمس النهار، بينما هي تخفي أشياء وأشياء تحت جنح الظلام في عالمها السفلي المرعب). 

هذا ما حاول أن يقوله بكلمات أخرى الروائي الإنجليزي المعروف غراهام غرين البالغ من العمر السابعة والسبعين وأحد المعجبين بأجواء “شاطئ اللازورد”، حيث يقضي الآن سنوات تقاعده بهدوء في قرية إنتيب الساحلية التي لا تبعد عن “نيس” عاصمة الشاطئ سوى عشرة أميال وليس له من سلوى غير الكتابة والشراب “لكن سرعان ما خرج غراهام من هذا الهدوء ليخوض معركة شخصية ضد سلطات نيس ضد ما أسماه بعصابات العالم السفلي التي تتحكم كما يقول بأقدار الناس، استيقظ أدباء فرنسا وسياسيوها على صرخة روائي إنجليزي عجوز وهو يدق جرس الإنذار ضد فساد خطير يتهدد مصير أجمل مدنهم ويحمل عالياً راية الإصلاح لحماية المواطن الفرنسي والزائر الأجنبي القادم إلى فرنسا.

مدينة فرنسية لا يصلح أمورها غير أديب إنجليزي؟ يا لثارات واتروا! يا لثارات نابليون! بعد المعركة المسترة الطويلة التي كتب عنها الأنصاري بأكثر من 4 صفحات بين الرجل الإنجليزي والمدينة التي يعشق كان من المهم أن يخرج لنا غراهام غرين بأثر أدبي ناجح في النهاية.. وهذا ما يشك فيه الفرنسيون! في صفحة 127 عنون الكاتب (تجنباً لانتحار الإنسان الحديث العودة إلى رومانسية القلب الواعية) وسأختتم المقال بإيجاز على لسان الأنصاري (بعد أن أخرُج من زحمة المدارس الأدبية من كلاسيكية ورومانسية وواقعية وسريالية، وهي مدارس اتجاهات أدبية يعيشها المرء لحكم الحرفة الأكاديمية والهواية النقدية بعد أن أخرج من زحمة هذه المدارس وفلسفتها وعلومها الكلامية وحروبها النقدية يخالجني شوق من أجل استعادة صفاء النفس إلى ترديد أبيات بسيطة وساذجة جداً في عرف المدارس الوقورة المذكورة أعلاه مثل قول الشاعر أبو القاسم الشابي): 

اهدئي يا جراح واهدئي يا شجون
راح عهد النواح وزمان الجنون
وأطل الصباح من وراء القرون 

مثل هذه الأبيات وما ينحو منحاها في البساطة والحديث المباشر إلى القلب الإنساني والشعور الإنساني الطفل هي التي تستطيع أن تبقى على الزمن، وأن تخرج منتصرة بعد سيادة مدرسة أدبية وأخرى أو بعد انحسار جميع المذاهب الأدبية لتقول للمتأدبين المتحذلقين:

فقل لمن يدَّعي في العلم معرفة 
عرفت شيئاً.. وغابت عنك أشياء!

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *