** ماجد اليمن
( ثقافات )
عريض المنكبين شلَولخ , يلبس بزته السوداء وقميصه الأبيض بتأنٍ ,لا كرافات طويلة ولا ببيونة, رشّات من البارفان الباريسي الغالي , يحتار بدايةَ بمكان كرسي الإعدام , يعلق الحبل في منتصف الغرفة , ينزع (التريّة) المنسدلة من السقف ويضع المشنقة مكانها , غبّة واحدة من عرق الريّان تليها سيجارة حمرة طويلة ..وهل هناك أفخر من عرق الريّان و الحمرة الطويلة ؟ الحمرة المصدّرة طبعا” لا زبل المداجن الذي ندخنه .
للانتحار طرقٌ عدة , احتارَ صراحةً أيها يختار , الكهرباء .. السكين .. المشنقة .. رصاصة في الرأس ..أشياء أخرى .. لم وقع اختياره نهايةَ على الكرسي والمشنقة ؟ .. لماذا لم يكن شيئا” آخر؟ …
شعرٌ مُشبّك ولحية كثّة طويلة,ملابس رثة فضفاضة بألوانٍ مختلفة فاقعة , حياة بوهيمية تماما” , يكره الرتابة ويعاديها , عازف بيانو من رحم الشارع هو , ولأنه لا يملك ثمنا” لبيانو حقيقي اختار (الأورغ) عوضا” عنه , بالرغم من فرق الأصوات بينهما (أي بين البيانو والأورغ) إلا أنه لم يملك خيارا” أخر , ناهيك عن سهولة نقل الأخير مقارنة” بالبيانوعظيم الحجم جميل الصوت , البيانو البني الرائع الذي رأيناه في فيلم (بيانيست) لأدريان برودي عن اضطهاد اليهود في الحرب الهتلرية المجنونة .
يقطن حي المهاجرين ..طلعة شورى , اعتاد الوقوف في شوارع دمشق القريبة من ميكرو (مهاجرين_صناعة), الحلبوني .. البرامكة .. فكتوريا .. الحجاز .. يبتعد أحيانا” واصلا” شارع بغداد أو السبع بحرات , يقف عازفا” ألحانه مقابل القليل من الليرات , لم يجمع ثروة” من ذلك , قد يخرج بسندويشة فلافل وكازوزة أوغاريت برتقال آخر النهار فقط .
شارع الحمرة ممتلئٌ عن آخره , تروح الناس وتجيء كأمواجِ بحرٍ متلاطمة , غيومٌ رمادية تحجب الشمس نذيرُ مطرٍ قادم , تعب من الوقوف على قدميه , يفرد كرسيّه المطوي ويجلس , يتابع عزفه بحب , طفلان صغيران ,امرأة في الستين وبضع شبابٍ أخر يتابع عزفه , يمضي الوقت مسرعا” , يهطل الليل , هواءٌ بارد , قطراتٌ قليلة من المطر , تزيد فجأة وتقوى , مبللٌ هو ومنهك , يمشي باتجاه فندق الشام , يدخل إحدى الحارات والأورغ على ظهره , شعر بشيءٍ غريب , عينان تلاحقانه , خوفٌ وارتياب , ضيقٌ في النفس , سرعة في ضربات القلب , يلتفت خلفه , لكمة خاطفة على الوجه , يسقط أرضا” , يغيب عن الوعي , ساعتان كاملتان تحت المطر , يفتح عينيه , المٌ عام في الجسد , يتفقد محفظته ..لاشيء .. الأورغ أيضا” مختفي ..لم يبقَ له ما ينقذه .
في ذلك اليوم عاد مشيا” إلى المنزل , وصل غارقا” بالماء , جسده جامد ومضعضع , الكهرباء مقطوعة وماء الحمام بارد , يخلع ثيابه , ينظر لنفسه في المرآة , يحلق ذقنه بشفرة , شعره كذلك أيضا” ,حتى حاجباه كانا ثقيلين على وجهه, يتخذ قراره , لاشيء يرثى له, يشرب كوبه الأخير ويدخن سيجارته الأخيرة , حبلٌ ومسمارين , كرسيٌ مهتز , يرتب الغرفة بهدوء , المخدة في مكانها , أشرطة عبد الحليم كذلك , يلبس بذته المنمقة الوحيدة ,نقوشُ وردٍ بنفس اللون على القَبّة, يقف على الكرسي , الحبل عوضا” عن الكرافة, يأخذ نفسا” أخيرا” , يبتسم , يرمي نفسه وينتهي كل شيء .
_________
* سينيّه بالفرنسية تعني توقيع .. نادر .. الخ
** كاتب من سورية