حوار مع الروائية توني موريسون (3)



*ترجمة وتقديم لطفية الدليمي




القسم الثالث

* ولمَ هذه الصرامة في تحجيم الاستعانة بشخوص من خارج فضاء خيالكِ الشخصيّ ؟

• في العمل الروائي أشعر بذاتي أكثر ذكاء وأكثر حرّية وأكثر اندهاشاً عندما أتعامل مع شخصيّات هي نتاج اختراع خيالي الشخصي بالكامل : فذلك جزء متمّم لحالة الدهشة المصاحبة لكتابة أيّ عمل روائي مؤثّر ، وأرى أنّ ملامح حياة أي شخص على الأرض هي بمثابة حقوق “ملكيّة فكرية” له ولا يعدّ سلوكاً أخلاقيّاً نبيلاً البتّة أن نخلع جوانب من حياة أي شخص على إحدى شخصيّاتنا الروائية .


* هل مررتِ يوماً ما بحالة شعرتِ فيها أنّ شخصياتكِ باتت غير مطواعة و تتحرّك بغير انضباط بعيداً عن قدرتكِ على التحكّم فيها ؟
• أتحكّم جيّداً على الدوام بشخصيّاتي الروائية لانّها في الأصل شخصيات متخيّلة بدقّة وإحكام صارمين وأشعر في كل الأوقات بأنني أعرف أدق تفاصيل حياة كل شخصيّة منها حتّى تلك التفاصيل التي لا اكتبها – مثل كيفية تصفيف شعرها – . الشخصيّات الروائية كائنات شبحيّة وليس من المعقول أن أترك أشباحاً لتملي عليّ كيف أمضي في كتابة روايتي . يحصل أحياناً أن أقرأ كتباً أدرك فيها أن ثمّة روائي قد انقاد تحت الطغيان الجارف لإحدى شخصيّات روايته وترك لها زمام الأمور لتفعل ما تشاء ، وأقول بهذا الشأن : لو إنّ إحدى الشخصيّات كانت قادرة أن تكتب كتاباً بذاتها لفعلت ولكنها غير قادرة بالطبع والكاتب وحده هو القادر على أداء هذه المهمّة ولذا عندما أجد إحدى هذه الشخصيّات قد طغت وتغوّلت و شغلتني عن التفكير الهادئ أقول لها عندئذ ببساطة : إخرسي ودعيني أكمل عملي لوحدي وبهدوء .

* وهل حدث مرّة أن طلبتِ لإحدى شخصيّاتكِ الروائية أن تخرس ؟
• نعم فعلت هذا في أحايين كثيرة ولا تعود بعدها تلك الشخصيّات تتحدّث بصوت عال يشوّش عليّ ومن الضروري دوماً فعل هذا حتّى لا تتغوّل تلك الشخصيّات وتتمدّد على حساب الشخصيّات الأخرى في العمل .

* تبدو شخصيّاتكِ الروائية النسائية اكثر جلداً وشجاعة من شخصياتكِ الرجالية كيف تعلّقين على هذه المسألة ؟
• هذا ليس صحيحاً وقد سمعته كثيراً وأظنّ أن الموضوع برمّته لا يعدو أن يكون انسياقاً على خطى خلفيّة توقّعاتنا الواطئة لسقف الأفعال التي نظنّ أنّ النساء قادرات على إنجازها ، بل قد ذهب بعضهم إلى حدّ وصف (سيث Sethe وهي الشخصية النسائية الرئيسية في رواية محبوبة ، المترجمة ) بأنّها امرأة استثنائية بكل المعايير ومضوا إلى حد خلع صفات غير بشرية عليها وفاتهم أنّ هذه المرأة ذاتها لم تعد تقوى على مجرّد التلفّت برأسها فضلاً عن إطعام نفسها في خاتمة الرواية ، فهل يعدّ مثال سيث هذا ملائماً لما يراه هؤلاء في المرأة شديدة المراس والشكيمة والتي أكتب عنها تحت جميع الظروف ؟!! . 

* ماذا عن الحبكة الروائية ؟ هل تعلمين دوماً إلى أيّ النهايات يقودكِ عملكِ الروائي ؟ هل تعلمين كيف ستنتهي رواياتكِ قبل بلوغ الخاتمة ؟
• عندما أعرف بالفعل ما الّذي ينبغي لروايتي قوله يكون بإمكاني حينها أن أكتب الخاتمة مبكّراً جداً : فقد كتبت خاتمة روايتي ( محبوبة ) بعد أن أتممت ربع العمل تقريباً كما كتبت خاتمة كلّ من روايتيّ ( جاز ) و ( أنشودة سليمان ) في وقت مبكّر جداً من كتابتهما ولا تهمّني في العادة فكرة الحبكة بقدر ما تهمّني كيفيّة حصولها .

* أذكر أنّكِ كشفتِ عن الحبكة في مرحلة مبكّرة للغاية في روايتك ( محبوبة ) ؟
• نعم فقد كان أمراً في غاية الأهمية لديّ أن أعلم القارئ بالفعل الوحشي لقتل البالغ على رغم أنّني أبقيت هذا الفعل مؤجّلاً وغير منظور وأردت أن أمرّر إلى القارئ كلّ التفاصيل والنتائج المترتّبة على هذا الفعل ولكن من غير أن أنغمس أنا – أو أن ينغمس القارئ – في تفاصيل الفعل العنيف .


* ما الذي أضافته الصور البصرية من تأثيرات في أعمالكِ الروائية ؟
• عانيت مرّة أثناء كتابة روايتي ( أنشودة سليمان ) من صعوبة بالغة في وصف مشهد ما لشخص يهيم على وجهه مطارداً من إلتزامات ما بذمّته وهارباً من ذاته أيضاً ، وقد وجدت في أحد تخطيطات ( إدوارد مونش Edvard Munch ) ما ساعدني حرفيّاً تقريباً في إنجاز مهمّتي في كتابة المشهد المطلوب : كان ثمة رجل يمشي في جانب من شارع لوحده وكان الاخرون جميعهم يمشون في الجانب الاخر من الشارع .

* يبدو كتابكِ ( أنشودة سليمان ) مزهوّاً بالألوان البرّاقة بالقياس إلى كتابك الاخر ( محبوبة ) الذي يطغى عليه اللون البني الداكن؟
• يعود جزء من هذه الحقيقة إلى معرفتي بتاثير الصور البصرية على الناس – وبخاصة النساء – ، ففي كل حقب التاريخ ينجذب السود إلى الألوان البرّاقة بينما يتجنّبها الاخرون .

* و لماذا هذا الانجذاب إلى الألوان البرّاقة من جانب السود في حين يتجنّبها الآخرون برأيك ؟
• هذا هو واقع الحال : ففي الثقافة السائدة اليوم تعدّ الألوان الهادئة مصاحبة ومتمّمة للأناقة والرفعة ولن ترى يوماً ما أناساً من ذوي الخلفية الثقافية الغربية السائدة يبتاعون غطاء أحمر لمائدة الطعام أو أواني حمراء بلون الدم . دعونا نتذكّر أنّ مجتمع الرق لم يكن متاحاً أمام أفراده اختيار لون ما يلبسون لأنّ الشائع أنّهم كانوا يلبسون ملابس العمل المصنوعة من الخيش الخشن الداكن اللون و كان اللباس الملوّن سيبدو لهم حتماً ترفاً وحلماً صعب المنال ويستوي في هذا اللباس الملوّن الرخيص مع الغالي الثمن ، وقد سلبت الألوان بقصدية واضحة من ثنايا روايتي ( محبوبة ) حيث تطغى الأجواء الداكنة فيها وليس ثمّة من إشارات تذكر إلى اللون إلّا في تلك اللحظات التي تندفع فيها سيث مسعورة لتبتاع شرائط ملوّنة و تلهو بها مثلما يفعل الأطفال الصغار تماماً !! . يقول ( Baby Suggs ) في احد المقاطع من روايتي ( محبوبة ) : ” أجلب لي قليلاً من اللافندر ” ومن هذا القول يدرك المرء كم كان اللافندر يمثّل ترفاً يرتقي لمستوى أن يحلم به الرقيق ولا ينالون شيئاً منه . إن السود لديهم حساسية مفرطة – وربما باثولوجية – تجاه الألوان والمؤثّرات البصرية بعامّة ويمكن تحسّس مدى توقهم إلى الألوان البرّاقة وشعورهم بالغبطة الطافحة متى ما تعاملوا مع هذه الألوان ، وهنا يكون جليّاً لماذا جعلت كتابي ( محبوبة ) مائلاً إلى العتمة : فهذا دليل الجوع المستديم إلى الألوان البرّاقة التي كانت تطوف برؤوس شخصيّات هذه الرواية.
______
*المصدر: المدى.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *