“عن الأسلوب المتأخر”.. آخر كتب إدوارد سعيد


هيثم حسين


تساءل المفكر إدوارد سعيد في الكتاب الذي صدر بعد رحيله “عن الأسلوب المتأخر” إن كان المرء يزداد حكمة مع تقدمه في السن؟ وهل هناك مؤهلات فريدة في الرؤية والشكل يكتسبها الفنانون بسبب العمر في الفترة المتأخرة من سير حياتهم؟

وركز المفكر الفلسطيني الأميركي (1935 – 2003) في كتابه -الذي ترجمه فواز طرابلسي ونشرته دار الآداب في بيروت (2015)- على الفترة الأخيرة أو المتأخرة من حياة الأدباء والفنانين الذين يتحدث عنهم وعن أعمالهم، تلك الفترة التي يسميها بفترة تحلل الجسد واعتلال الصحة، أو حلول عوامل أخرى تحمل إمكانية النهاية قبل الأوان حتى لمن لم يتقادم به العمر.

كما تناول سعيد بالدراسة كبار الفنانين وكيف اكتسى كلامهم وفكرهم في نهاية حياتهم لغة جديدة يسميها “الأسلوب المتأخر”.

منفى اختياري

يحمل الكتاب عنوانا فرعيا “موسيقى وأدب عكس التيار” ويحتوي سبعة فصول، هي: “اللازمني والمتأخر”، “عودة إلى القرن الثامن عشر”، “مدرسة العشاق، عند الحدود”، “عن جان جينيه”، “نظام قديم يتباطأ”، “العازف المُعجز مثقفا” و”لمحات من الأسلوب المتأخر”.

وألحقت بالنص مقدمة المترجم، ومقدمة بعنوان “الموسيقى هي منفى اللغة لمايكل بي ستاينبرغ، ومقدمة عن الأسلوب المتأخر لمايكل وود الذي يسرد حكاية جمع المحاضرات في كتاب، وبعدها مقدمة لمريم سعيد -زوجة الراحل- تدور في الفلك نفسه. 
يتناول سعيد عبر مقارباته في الأدب والفكر تجارب تيودور آدورنو وجان جينيه وكافافي ولامبيدوزا وتوماس مان.
وفي التأليف الموسيقي باخ وموزارت وبيتهوفن وشتراوس وغلين غولد، بالإضافة إلى الأوبرا والمسرح الإغريقي. 
ويعتقد صاحب سيرة “خارج المكان” أن كل امرئ يستطيع تقديم أدلة جاهزة للكيفية التي تتوج بها الأعمال المتأخرة سيرة حياة من السعي الجمالي. كما يتناول بالبحث التأخر الفني، ليس بما هو تناغم وانفراج، وإنما بما هو عناد وعسر وتناقض بلا حل، ثم يسأل: ماذا لو أن التقدم في السن وسوء الصحة لا ينتجان سوى هناءة القبول بأن “النضج هو كل شيء”؟
ويناقش صاحب “الثقافة والإمبريالية” ظاهرة الأسلوب المتأخر الذي أعطاه آدورنو معنى كثيفا وعميقا في نص هام له عن الفترة الأخيرة من فن بيتهوفن. ويعود إلى فكرة التأخر بأكثر من معنى.
ويلفت إلى أن التأخر عند آدورنو هو فكرة البقاء على قيد الحياة فيما يتعدى المقبول والطبيعي، وكيف أن التأخر يتضمن فكرة مفادها أنه ما من أحد يستطيع أن يتعدى التأخر أبدا، ولا يستطيع التعالي عليه أو تجاوزه أو الإفلات منه، وأن كل ما يستطيع المرء هو أن يعمّق التأخر.
يعتقد صاحب “الاستشراق” أن الأسلوب المتأخر أسلوب دارج، والغريب أنه منفصل عن الحاضر، ويقول إن قلة من الفنانين والمفكرين فقط يأبهون بما فيه الكفاية بمهنتهم للاعتقاد بأن المهنة تشيخ هي أيضا وعليها أن تواجه الموت بأحاسيس وذاكرة فاشلتين.
ويحتل شتراوس موقعا مركزيا حاسما في تحريات سعيد عن الأسلوب المتأخر، فهو يصف أعمال شتراوس الأخيرة بأنها “متحدية”، ويعتقد أن التحدي هو التعبير الدقيق عنها. ويجد أنه عندما يغمر المرء شعور بالتأخر والإبهام لن تكثر عنده الخيارات، وموسيقى شتراوس في مرحلته المتأخرة هي التي تفرض عليه الخيار الوحيد المناسب له.


قضايا عربية
يستذكر سعيد المرة الأولى التي شاهد فيها جان جينيه عام 1970، وكان ذلك أثناء إلقائه كلمة في جامعة كولومبيا احتجاجا على الغزو الأميركي لـكمبوديا، وتضامنا مع السود في أميركا، وما صاحب الكلمة تلك من سوء ترجمة وتحوير.
ثم يتذكر لقاءه الثاني بجينيه في بيروت، ومساندته للقضايا العربية كالثورة الجزائرية والقضية الفلسطينية، ويسرد بعض الأحداث الهامة التي تزامنت في تلك الفترة وتبعتها، وكيف تبلورت الأمور وتشكلت الأحداث بعد ذلك.
يؤكد سعيد أن جينيه هو المسافر عبر الهويات، السائح الهادف إلى الاقتران بقضية أجنبية ما دامت تلك القضية ثورية وفي حالة هياج دائمة.

ويتساءل إن كان في الأمر استشراق معكوس أو متفجر؟ ويجد أنه دخل المدى العربي وعاش فيه، كامرئ يملك العرب عنده راهنية وحاضرا منحه المتعة والراحة مع أنه مختلف عنهم.

ويلفت سعيد إلى أن القرن العشرين المتأخر لم يعرف كاتبا آخر تعايشت عنده أخطار الكوارث الكبرى مع الرقة الغنائية في رد فعله العاطفي عليها، بمثل هذا الكبر وتلك البسالة، كما لدى جينيه.

كما يشير سعيد إلى صدمته من موقف سارتر، وتذكره لما قاله جينيه له عن أن موقف سارتر المتصلب في تأييد إسرائيل ينطوي على شيء من الجُبن، وأنه يخاف أن يتهمه أصدقاؤه في باريسبالعداء لليهود إن قال أي شيء في تأييد الحقوق الفلسطينية.
ويرى سعيد أن الأسلوب المتأخر يمتاز بأن له القوة على التعبير عن الخيبة واللذة دون أن يحول بينهما، فما يجمعهما في التوتر هو ذاتية الفنان الناضجة والمجردة من العجرفة والتفخيم، والتي لا تخجل من كونها معرضة للخطأ ولا من الطمأنينة المتواضعة التي اكتسبتها نتيجة العمر والمنفى.

لا يخفى تداخل الذاتي بالموضوعي بالبحثي في بعض الفصول لدى سعيد في عمله، إذ يصوغ أفكاره ويرتبها بما يخدم موضوعه وقضيته، ومن هنا فكتابه يعكس أسلوبه المتأخر -أو الأخير- في الكتابة والفكر والموسيقى والأدب والفلسفة والحياة.

ويعتبر إدوارد سعيد أن أي أسلوب فني يتضمن بداية علاقة الفنان بزمانه أو بالحقبة التاريخية والمجتمع والأسلاف، موضحا أن النتاج الجمالي -رغم فرديته غير القابلة للنقض- يبقى جزءا من العصر الذي أنتجه وصدر فيه.

——-
الجزيرة نت

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *