*أمجد ناصر
المصادفات هي التي ستصنع من المفكر الفلسطيني الأصل إدوارد سعيد أميركيا، وستجعل له مسارا مختلفا -على الأغلب- عما ترتب على تلك المصادفة. ليس هذا ضربا في الرمل ولكن الأمر يتعلق بالسياق الذي كانت تعيش فيه عائلة سعيد قبل أن تحدث تلك المصادفة، وقبل أن يولد “إدورد” ويحمل هذا الاسم الإنجليزي “الأخرق” الذي يتناقض، أتم التناقض، كما يقول هو مع كنيته العربية المرحة: سعيد!
فر والد الشاب المقدسي المدعو “وديع” -المتحدِّر من عائلة مسيحية بروتستانتية حولتها الحملات التبشيرية الغربية عن أرثودكسيتها القديمة- من مدينته القدس خوفا من قيام السلطنة العثمانية بتجنيده وإرساله إلى مواقعها العسكرية في بلغاريا، ليجد نفسه متطوعا في الجيش الأميركي في فترة الحرب العالمية الأولى.
وبدل أن يحارب العثمانيين -كما كان يحلم- عاد من الحرب إلى القدس حاملا الجنسية الأميركية بعدما غير اسمه العربي “وديع” إلى “وليم” كي يتماهى أكثر مع “هويته” الجديدة، وانضم إلى “عمل العائلة الصغير”.
يصف إدوارد والده بأنه رجل ذو طاقة هائلة تطبعه روح المغامرة، لذلك وسّع عمل العائلة ونقله إلى القاهرة. وبسبب تحسن أحواله المادية تزوج فتاة من الناصرة (التي ستصبح أم إدوارد) كانت قد تلقت تعليمها في مدارس وكليات الإرسالية الأميركية في بيروت.
كانت عائلة إدوارد سعيد تعيش -كما يصف بمقال له عن العاصمة المصرية في كتابه “تأملات حول المنفى”- في قاهرة داخل قاهرة داخل قاهرة. الأولى هي وسطه الاجتماعي والعائلي المنكفئ على نفسه، والثانية قاهرة الأثرياء والأقليات الأجنبية، والثالثة قاهرة المصريين، أو كما كان يصفهم الخطاب الغربي المتعالي: المحليين!
في القاهرة الأولى انضباط صارم -بل خانق- لمشيئة الأب الذي رغم انتمائه إلى وسط الأثرياء الأجانب إلا أنه كان يرفض اختلاط أفراد عائلته بهم سوى في أضيق الحدود، أما القاهرة الثانية فكان أناسها يترددون من حفلات الأوبرا، إلى حفلات الباليه، ومن عروض الكوميدي فرانسيه، إلى فرقتي برلين وفيينا السمفونيتين، ومن دورات التنس إلى ملاعب الغولف، ومن الأفلام البريطانية إلى الأفلام الأميركية.
يصف إدوارد سعيد تنوع الجاليات الأجنبية التي كانت تعرفها قاهرة تلك الأيام بأنه أشبه بمتاهة بشرية من كل نوع: إنجليز، أميركيون، إيطاليون، يونانيون، أرمن، يهود، شوام (من بلاد الشام).
إنه عالم “أقلوي” بامتياز. عالم يكاد يكون مغلقا على أناسه وشؤونه كأنه جزيرة منفصلة عن البلد العريق، مترامي الأطراف الذي كانت توجد فيه: مصر.
يتذكر إدوارد سعيد في مقالته الاستعادية لحياته القاهرية أيامه في كلية فيكتوريا في القاهرة، وهي التي كانت توصف بأنها “إيتون” المصرية (نسبة إلى المدرسة الإنجليزية الشهيرة المخصصة لأبناء النخبة البريطانية)، ويذكر من بين زملائه فيها نجم الكلية ميشيل شلهوب، الذي سيعرف لاحقا باسم عمر الشريف، وكذلك الشاب زيد الرفاعي ابن رئيس الوزراء الأردني سمير الرفاعي الذي سيصبح رئيس وزراء الأردن لاحقا أكثر من مرة، ولا يزال إلى اليوم على رأس مجلس الأعيان (اللوردات بطبعته الأردنية!)
أما في كلية فيكتوريا في الإسكندرية -وهي بحسب قول إدوارد سعيد أكثر لمعانا من فيكتوريا القاهرة- فكان أحد طلابها في تلك الفترة الأمير حسين بن طلال الذي سيصبح لاحقا الملك حسين، أكثر قادة المنطقة العربية تأثيرا في سياساتها.
ورغم أن والد إدوارد سعيد لا يكفّ عن تذكير ابنه بأنه “أميركي”، وبانتمائه إلى وسط اجتماعي معين، غير أن أكثر لحظات الفتى “إدوارد” حرية كانت تقع خارج قيد الأسرة والطبقة الاجتماعية وقاهرة الخواجات عموما.
كان أقرب إلى الطبيعي بالنسبة إليه أن “يحتك” بالمصريين، أولئك الذين تصفهم أدبيات الأقليات بـ”المحليين”. كأن في ذلك “الاحتكاك” علاقة بأصل الأشياء وطبيعتها التي انحرفت إلى نقيضها في الانتماء المصطنع للعائلة. فأي “أميركية” هذه التي يفرضها جواز سفر؟ وأي انتماء لتلك الأميركا البعيدة (التي لم يكن قد زارها بعد) يحرّم استخدام اللغة العربية في البيت الفلسطيني، وفي مدينة عربية عريقة كالقاهرة؟
لا يتوسع إدوارد سعيد بهذه النقطة في مقاله القاهري، ولكنه يدخل في تلافيف هذا الأسى الشخصي في سيرته الشهيرة “خارج المكان”، ويسدد لوالده -رغم حبه له- نقدا قاسيا حيال فلسطين والانتماء العربي، قلما نجده في كتابتنا العربية.
يصف إدوارد سعيد تلك اللحظات الاستثنائية (؟!) التي تضعه على تماسٍ بأبناء البلد الذي يعيش فيه بهذه الكلمات: “كل ما في عالمي المتميز، ذلك العالم الأقلوي الغريب والمفعم بالمفارقة، كان معدا ومعزولا ومقيدا، باستثناء ما يتعلق بالمصريين المحليين الذين أصادفهم في لحظات حرية عابرة في الشوارع، في العربات وصالات السينما والمظاهرات والمناسبات العامة”.
كان ذلك “اللقاء” بـ”المصريين المحليين” و”الاحتكاك” بهم يمثل -كما يقول- حياة شبه طبيعية في مقابل “الحياة المصطنعة” التي كان يحياها كـ”أقلوي” فيعمد إلى استخدام لغة لا يستخدمها -تقريبا- في أي مكان آخر: العربية، التي يقول إنه يحبها أكثر من أي لغة أخرى يعرفها (الإنجليزية، الفرنسية).
ولكن ليست أي عربية، بل العربية في لهجتها القاهرية التي يجزل لها مديحا لا يستطيع كبحه، فيصفها بأنها “تندفع بقوة داخل الوقار وخارجه، وخارج الضبط الكولونيالي والجمع بين مرجعيات دينية وسياسية متنوعة، محتفظة (هذه اللهجة القاهرية) بخفة دمها السريعة والبعيدة عن الوقار (أعتقد أنه يقصد الرصانة)، وباقتصادها الذي لا يضاهى، ونغماتها الحادة وايقاعاتها المفاجئة”.
عاد إدوارد سعيد إلى القاهرة بعد أكثر من خمسة عشر عاما على مغادرتها فلم يجد “قاهرته” التي فقدت -كما يقول- تفاعلها العجيب مع أوروبا. كانت هناك قاهرة أخرى أخذت تتكوَّن مذ أعلن عبد الناصر إجراءات التأميم ودخوله في صدامات متوالية مع الإمبرياليات الغربية وإسرائيل، واتجاهه نحو القومية العربية، ثم مع “تأمرك” السادات، وتسامح حسني مبارك مع “الأسلمة”.
لم يعد ذلك “التفاعل العجيب” قائما بين القاهرة (التي لا ينسى سعيد أن يذكر قراءه الغربيين بأن اسمها يعني الظافرة) وأوروبا. لقد تم القضاء تماما على ذلك التفاعل.
ومع أن إدوارد سعيد أصبح -بحسب قوله- “ناصريا ومعاديا عنيفا للامبريالية” إلا أنه ينعي ضياع القاهرة “الكوزموبوليتية، الحرة، المفعمة بضروب التميز والدهشة”! قد لا تكون هناك غرابة في ذلك. أقله على الصعيد الشخصي لسعيد، فقد مثلت تلك القاهرة “فردوسه” الطفولي الضائع.
فالأمر -بعيدا عما يمكن أن يستشفه المرء من “حنين” إلى زمن كولونيالي في كلام إدوارد سعيد السابق- يتعلق حسب ظني بالحنين الغامض غير المفسر، الذي ينتاب الناس إلى أزمنة طفولتهم وشبابهم، بصرف النظر عن نوعية الحياة التي عرفها هذان الطوران التأسيسيان في حياة البشر.
_______
* شاعر من الأردن يعيش في لندن
(الجزيرة)