المتنبي والحب 2


لميعة عباس عمارة


وفي مطلع قصيدة المتنبي التي يعارض فيها نونية جرير المشهورة التي منها:
إنّ العيون التي في طرفها حَوَرّ قتلننا، ثم لم يُحييـــــن قتلانا
يا أمِّ عمرٍ جزاك اللهُ مغفــــــرةً رُدّي عليَّ فؤادي كالذي كانا

جرير الذي اشتهر بالهجاء، فاق المتنبي في صناعة الغزل هنا وقصيـدته من عيون الشعر العربي وهي أيضأ مقدمة لغرض آخر، يقول المتنبي في المعارضة:
قد علّمَ البينُ منًا البينَ أجفانا تدمى وألّفَ في ذا القلب أحزانا

وأبيـات المتنبي التي تلي هذا البيت لا تتحسن كثيراً عنه، والقصيـدتان تصلحان موضوعأ للمقارنة لمن شاء. وللتذكير إنّ جريراً هو سابق على المتنبي زمناً، فكان من الأجدر بالمتأخِّر وهو المتنبي أن يشحذ براعته ليتجاوز جريراً وهو يعارض قصيدة مشهورة من قصائده. ومثال آخر على تمحكه في صناعة الغزل بحيث يرتكب خطأ في المعنى بالإضافة إلى اللغة قوله:
قالت وقد رأت اصفراري: من به؟ وتنهدتْ، فأجبتُها: المتنهـّدُ

لا يَسأل أيُّ إنسان مهما كان جاهلاً باللغة:- من بك؟ بدلاً من: ما بك؟ (اشبيك؟) بالإضافة إلى أنّ سؤالا كهذا هو غير لائق.
كل هذا يتكلّفه المتنبي ليصل إلى الزبدة التي هي في الحقيقه زَبَد وليست زبدة: حينما تنهدت وهي تسأله من به، قال لها المتنهدة… أي أنت… يا لهذه الركاكة معنى وتركيبا إذا قيست بقول أبي فراس وهو مجايل المتنبي (أي من جيله) الذي يقول في رائيته التي هي نموذج للقصيدة العربية المتكاملة، يقول أبو فراس في المعنى ذاته:
وقالت لقد أزرى بك الدهر بعدنا فقلتُ معاذ الله بل أنت لا الدهر

والمقارنة بين مقدمة قصيدة المتنبي:
اليومَ عهدُكمُ فأين الموعدُ هيهات ليس ليوم عهدكم غدُ
وبين مقدمة قصيدة أبي فراس:
أراك عصيَّ الدمع شيمتك الصبرُ أما للهوى نهيٌ عليك ولا أمرُ

مقارنة تصلح بحثاً كاملاً… كلاهما تعمّد الغزل كمقدمة، ولأن أبا فراس إنسان مترف محب له خبرة صادقة وقدرة فائقة في الحب، جاءت قصيدته من ذاتها، أما المقدمة الغزليـة لقصيـدة المتنبي فكلها مفتعـل لا ينبض في بيت من أبياتها شعور حقيقي بالحب، إضافة إلى ركاكة الصنعة فيها، يقول المتنبي:
اليوم عهدُكم، فأين الموعدُ؟ هيهيات ليس ليوم عهدكم غدُ
الموت أقرب مخلباً من بينكم والعيش أبعد منكم، لا تبعدوا
إن التي سفكت دمي بجفونها لم تدر أنً دمي الذي تتقلدُ
أي هو (ذنبٌ برقبتها) وقد يكون عقدها أحمر اللون (يفترض أنها كانت تلبس عقداً أحمر)
قالت وقد رأت اصفراري: مَن به؟ وتنهدت فأجبتها: المتنهِّدُ 
فمضت وقد صبغ الحياءُ بياضَها لوني كما صبغ اللُّـجينَ العسجدُ

أي أن الحياء صبغ لونها الأبيض من لوني الأصفر كما يصبغ الذهبُ الفضةَ. وطبعاً كلنا نعرف أن لون الحياء هو الوردي المحمر لا الأصفر.
فرأيت قرن الشمس في قمر الدجى متأوّداً غصنٌ به يتأودُ
عدويةٌ بدويةٌ من دونها سلبُ النفوس ونارُ حرب توقد
وهواجلٌ، وصواهلٌ ، وذوابلٌ، وتوعدٌ، وتهدد
أبلت مودتنا الليالي عندها ومشى عليها الدهر وهو مقيّد
برّحتَ يا مرض الجفون بممرض مرض الطبيب له وعيد العوّدُ

ثم ينتقل فجأة إلى المدح. القصيدة من سيئ شعر المتنبي. فالمقارنة هنا بين قصيـدة هي أسوأ شعر المتنبي وقصيـدة أخرى هي أجمل شعر أبي فراس ليس عدلاً، قصيـدة أبي فراس لوحة ملونة من علم النفس، وتحليل لشخصية المرأة، وسلوك الفارس المهذب العارف كيف يعامل المرأة بفن يزيده شموخاً، واسمحوا لي أن أعيد هذه القصيدة على أسماعكم لا بصوت أم كلثوم لتطربوا بل ببيانها لتعجبوا: يبدأ أبو فراس بحوار مع نفسه…

أراك عصيَّ الدمعِ شيمتُك الصبرُ أما للهوى نهيٌ عليك ولا أمرُ؟
فيعترف لنفسه:
نعم (أو بلى) أنا مشتاقٌ وعندي لوعةٌ ولكنَّ مثلي لا يُذاعُ له سرُّ
أما متى يُذاع سرُّ هذا الضعف حتى البكاء؟
إذا الليلُ أضواني بسطتُ يدَ الهوى وأذللتُ دمعاً من خلائقه الكِبر
تكادُ تُضيءُ النارُ بين جوانحي إذا هي أذكتها الصبابة والفكر
وهذه أجمل تكاد، لا أقول بعد، بل مثل قول أبي صخر الهذلي:
تكاد يدي تندى إذا ما لمستها وينبت في أطرافها الورق النضر

هذا العشق الذي أذل الدموع المتكبرة من أجل امرأة لا وفاء لها، تَعِدُ وتؤجل كل مرة موعد اللقاء بلا انتهاء حتى اليأس:
معللتي بالوصل، والموت دونه إذا متُّ ظمآناً فلا نزل القطر
وحين يُحسب الوفاء ـ هذه الخصلة الحميدة ـ من الفضائل كقاعدة، إلا أن الوفاء لمن لا يستحق من الخطأ أن يحسب ضمن الفضائل.
وفيتُ، وفي بعض الوفاء مذلَّـةٌ لآنسةٍ في الحيِّ شيمتُها الغدرُ
هذه الآنسة التي ماعرفت الوفاء، ولكنها عرفت وتعرف أبا فراس الشاعر، الأمير، الجميل، الأنيق ، ابن عم سيف الدولة، لدلال في طبعها تتجاهله:
تسائلني: من أنتَ؟ وهي عليمةٌ وهل لفتىً مثلي على حاله نُكرُ؟!
وأبو فراس يدرك أعماق نفسية المرأة وغنجها وهي تموه وتتجاهل استفزازاً وتحدياً وإثارة، فيجيبها على قدر تمثيلها:
فقلت كما شاءت وشاء لها الهوى: قتيلك. قالت: أيهم؟ فهمو كثر 

هنا تثور كرامة الفارس، ويتصاعد الحوار حدة، فبعد أن قدم لها نفَسه ليرضي غرورها: أنا قتيلك، وظن أنها ستكتفي بهذا الجواب تمادت في تجاهلها وغرورها وسألت: من من قتلاي أنت، فهم كثيـرون؟ عند ذلك يلوح لها بالقوة والقسوة التي تستحقها:
فقلتُ لها: لو شئتِ لم تتعنَّتي ولم تسألي عني، وعندك بي خبر
هنا تتراجع الأنوثة من سطوة التعنت إلى الدلال المتخاذل الذي يتلمس عذراً لإرجاع المياه إلى نهر الحب.
فقالت: لقد أزرى بك الدهر بعدنا 

ادعت أن حوادث الزمان هي التي غيَّرته إلى الحد الذي لم تعرفه فيه. وحافظت على موقعها في كلمة (بعدنا)… بهذه الكلمة (بعدنا) اعترفت بعلاقتها السابقة به، وحصرت التغير في شكله لبعدها عنه، بقية من الغرور بعد في اعترافها المتذلل لمسه الشاعر وأحسه وأراد أن يؤكده لها بردِّه:
فقلت معاذ الله… بل أنتِ، (التي أزريتِ بنا) لا الدهر.

هكذا شدٌّ وإرخاء، شد الضعيف وإرخاء المقتدر، حوار إن لم يكن قد جرى حقيقة فهو أبلغ من الحقيقة، وإن كان كله صناعة فهي صناعة أثبت من الواقع، وأصدق من التجربة الفعلية، ثم هي لوحة خالدة من الأدب الرفيع. جَـلـَدْنا والله المتنبي، فكيـف أوفّق بين قولي هو شاعـري المفضل وبين هذه القسوة عليه؟ إلا بكوننا نقسو على من نحب أكثر، لأننا نحبهم أكثر.

المتنبي العربي هو شكسبير الإنكليز حتى لو قارنا شعره بشعراء آخرين، وفضلنا عليه في موضوع ما شاعراً… ولكنه بالجملة يبقى المتنبي الأوحد، وشكسبير الأوحد، وهذا ما يؤلم قوماً كالفرنسيين والروس والألمان، ففي أي من هذه الشعوب عباقرة في الأدب والشعر يعلون على شكسبير في أغراض كثيرة، ولكن أحداً منهم لم يكن شكسبيراً. فإذا قارنت المتنبي بجميل بثينة أو المجنون وكُثيّر عزّة في قصائد الغزل رجحت كفتهم على المتنبي، ولكنهم ليسوا المتنبي، ويبقى المتنبي واحداً بالنسبة للشعراء قبله والشعراء بعده، وقد أصاب من دون مبالغة حين قال: 
ما نال أهلُ الجاهليةِ كلُهم شعري، ولا سمعتْ بسحريَ بابلُ

فبمراجعة دواوين شعراء الجاهلية وقراءتها قراءة جديدة تعتمد على المراس والنضج والوعي، لم أجد في الدواوين مختـاراً غير القطع التي اختارها لنا أساتذة الأدب وواضعو المناهج الدراسية، لأنهم لم يكونوا أقل منا ذوقاً، ووعياً، ونضجاً، حين اختاروا تلك القصائد، ولم أجد في بقية الديوان ما يفوق أو يوازي هذه المختارات التي حفظناها في المدرسة. المتنبي تفوَّق بكثرة ما نختار منه، وقد يكون أحياناً ثانياً مقارنة مع الشعراء في معنى مشترك. حين نتصفح ديوان المتنبي من أوله إلى آخره نقرأ قبل كل قصيدة هذه العبـارة: وقال يمدح… تبدأ القصيدة على الأكثر بمقدمة غزلية يعتـرف المتنبي نفسه أنها مفروضة على الشعراء حين يقول:
إذا كان (مدحٌ) فالنسيبُ المقدمُ أكلُّ فصيحٍ قال شعراً متيَّمُ؟
لم يقل إذا كان (شعر) فالنسيب المقدم، وكأنه يعتبر كل الشعر هو المديح والمدح هو كل الشعر.
——-
القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *