إعداد وتقديم: عبير زيتون
كان في إمكانك أن تعيش حياة أكاديمية شديدة اليسر، وأكثر راحة. أن تكتب أكثر وتعمل في الموسيقى وأشياء أخرى كثيرة، لكنك اخترت أن تخطو خارج غرفة الصف وقاعة المحاضرات… لمَ فعلت ذلك؟. إدوارد سعيد: لا أفكر في الأمر كثيراً إذا تابعت التفكير في مشكلة من ذلك النوع، فالأسوأ يكون قد حصل، أي جعلك عاجزاً عن العمل. أعتقد أن الأمر الأساسي هو أن تستمر في طريقك، وأن تتذكّر أن ما تفعله وتقوله مهمّ أكثر بكثير من مسألة أن تكون آمناً أم لا.
هذا هو الطريق الصعب الذي مهد له وسلكه البروفيسور والمفكر النهضوي الفلسطيني – الأميركي إدوارد سعيد (1935 -2003) وأراده لنفسه كمثقف نقدي متعدد الآفاق، انشقاقياً ومعارضاً ومناقضاً للسائد، مخاطراً بحياته وراحته ليرضي ضميره، رافضاً التقوقع في اختصاصه الأدبي الجامعي الضيق، رغم نجاحه، في الجمع بين الأكاديمي والمثقف.
شكل إدوارد سعيد الذي رحل في 25 أيلول 2003 عن 67 عاماً نتيجة إصابته بمرض عضال، نموذجاً مثالياً للمثقف النقدي الرسولي في دفاعه المستميت عن قضايا الرأي العام الكونية الكبرى، التي تناصر الحرية والعدالة والحق.
رثاه محمود درويش في قصيدة قال فيها:
على الريح يمشي. وفي الريح
يعرف من هو. لا سقف للريح
لا بيت للريح. والريح بوصلةٌ لشمال الغريب
أما مؤرخ الفلسفة السويدي فريديريك غرومر فيضع إدوارد سعيد ضمن الشخصيات العالمية العشرين التي تركت بصماتها على الفلسفة السياسية، وأسهمت في التأسيس لأشكال جديدة من المعرفة الثقافية والتاريخية والإعلامية الأكاديمية أيضاً. هذه الشذريات من مقتطفة من كتب: الاستشراق، خارج المكان، الثقافة والإمبريالية، صور المثقف أو تمثيلاته.
أنا فلسطيني، ولكني طردت منها منذ الطفولة، وأقمت في مصر دون أن أصبح مصرياً، وأنا عربي، ولكني لست مسلماً، وأنا مسيحي، ولكن بروتستانتي، واسمي الأول «إدوارد» رغم أن كنيتي «سعيد».
***
لحظة انكسار دفعتني إلى البحث عن بداية جديدة لكل شيء. حثّتني لأبحث عن لملمة الشذرات العربية لتاريخي ووصلها بالمستقبل. اكتشفت أنني قبل هزيمة 67 لم أختر شيئاً، وكان هذا (الطريق القاسي) كفيلاً بميلاد جديد لمشروع جديد بدت معه كل ما سبق من سنوات العمر كأنها مجرد محاولات للبحث… عن الذات وعن الطريق.
***
أعتقد أن ما يحركني أكثر من أي شيء هو الغضب من الظلم، وعدم التسامح إزاء القهر، وبعض الأفكار غير الأصيلة عن الحرية والمعرفة.
***
إحساسي بأني معلق بين ثقافات متعددة كان وما زال قوياً جداً. أستطيع القول إنه التيار الأقوى في حياتي، والحقيقة أنني دائماً داخل الأشياء وخارجها.
***
ليس هناك في تصوّري أفضل أو أعظم من محاولة جعل الحياة أفضل للآخرين ممن هم أقل حظاً أو ممن يتألمون أو يعانون.
***
إن ما أسعى إليه، هو وجوب بقاء المثقف أميناً لمعايير الحق الخاصة بالبؤس الإنساني والاضطهاد، رغم انتسابه الحزبي، وخلفيته القومية، وولاءاته الفطرية… (على المثقف) المجازفة في سبيل تجاوز اليقينيات السهلة التي توفرها خلفيتنا، ولغتنا، وقوميتنا، كما تعني البحث عن معيار واحد للسلوك البشري ومحاولة الحفاظ عليه.
***
كان مشروعي مع (الاستشراق) وصف نظام معين من الأفكار، لا إزاحة النظام وإحلال نظام جديد محله، بأي شكل، فقد حاولت أن أثير طقماً كاملاً من الأسئلة الوثيقة الصلة بمناقشة مشكلات التجربة الإنسانية.
***
إذا كنت عربياً أو فلسطينياً في هذا البلد (أميركا)، تشعر أنك على الجانب الخطأ.
***
لقد اعتمدت في نقدي (للاستشراق) على الطبيعة المغلوطة لكل التمثلات بسبب ارتباطها الوثيق بالدنيوية، أي بالسلطة والموقع والمصالح، وقد اقتضى ذلك أن أجاهر بأنّ كتابي لم يكن معدّاً للدفاع عن الشرق الحقيقي، بل إنّه لم يكن يطرح فكرة وجود شرق حقيقي أصلاً.
***
جزء من خطة الإمبرياليين، هو أن يملوا على الشعوب تاريخهم بعد أن يشوهوها، ويعيدوا ترتيب أحداث ماضيهم.. والأخطر من ذلك، هو أن ينموا فيهم الانهزامية.. ويحثوهم على التهرب من تراثهم… وبالتالي يتم إعادة كتابة التاريخ! ولكن بالشكل المفضل لهم.
***
ما لم نفحص الاستشراق باعتباره لوناً من ألوان الخطاب، فلن نتمكن مطلقاً من تفهم المبحث البالغ الانتظام الذي مكن الثقافة الأوروبية من تدبير أمور الشرق، بل وابتداعه في مجالات السياسة وعلم الاجتماع وفي المجالات العسكرية والأيديولوجية.
***
ليس الاستشراق خيالاً أوروبياً متوهماً عن الشرق فحسب، بل إنه كيان له وجوده النظري والعملي، وقد أنشأه من أنشأه واستثمرت فيه استثمارات مادية كبيرة على مر أجيال عديدة، وأدى استمرار الاستثمار إلى أن يصبح الاستشراق مذهباً معرفياً عن الشرق.
***
إذا كان جوهر الاستشراق هو التمييز المتأصل بين التفوق الغربي والدونية الشرقية، فلابد أن نستعد لملاحظة أن تطور الاستشراق ومراحله التاريخية اللاحقة عمقت ذلك التمييز وزادته صلابة.
***
كانت النظرة إلى الشرقيين التي تجمع بينهم وبين سائر الشعوب التي توصف إما بالتخلف أو بالانحطاط أو بعدم التحضر تقدم في إطار يجمع الحتمية البيولوجية والتوبيخ الأخلاقي السياسي معاً. وهكذا كانت الأذهان تربط ما بين الشرقي، وبين عناصر معينة في المجتمع الغربي (كالمنحرفين، والمجانين، والفقراء) باعتبار أنها تشترك في هوية أفضل ما توصف بأنها أجنبية أو غربية إلى حد جدير بالرثاء.
***
إحساس المستشرق بأنه يقف على حافة الأخدود الذي يفصل بين الشرق والغرب يجعله لا يقتصر على الحديث بلغة التعميمات الفضفاضة، بل إنه يحاول أيضاً تحويل كل جانب من جوانب الحياة الشرقية، أو الحياة الغربية إلى سمة مباشرة من سمات هذا النصف أو ذاك.
***
إنّ الهوية هي العملية التي تتسلط بها الثقافةُ الأقوى والمجتمعُ الأرقى بواسطة العنف على شعوب يتقرر أنّها شعوب دونية، بمقتضى عملية فرض الهوية تلك. إنّ الإمبريالية ما هي إلا عملية (تصدير للهويات).
***
في غمرة رغبتنا بإسماع صوتنا نميل غالباً إلى نسيان أن العالم مكان مكتظ، وأنه لو قيض لكل امرئ أن يلح على الصفاء الراديكالي، أو أولوية صوت المرء، فإن كل ما سنحصل عليه هو الجلبة الفظيعة للمشقة التي لا تنتهي، وللفوضى السياسية الدامية، والرعب الحقيقي الذي أخذنا نلمسه هنا وهناك في عودة انبثاق السياسة العنصرية في أوروبا، وتنافر النقاشات حول الانضباط السياسي وسياسة الهوية في الولايات المتحدة، وكذلك – لكي أتحدث عن الجزء الذي يخصني من العالم – انعدام التسامح والتعصب الديني والوعود الوهمية للاستبداد البسماركي.
***
أننا كمجتمع عربي – وأنا ربما منه – ما زلنا أسرى أنماط التفكير والصراع نفسها، لأننا ما زلنا لم نتمكن من أن نبتكر شيئاً جديداً يساعدنا في التحرر من الماضي المظلم.
***
يساورني الانطباع بأننا في العالم العربي نقوم بالنسخ المباشر. ما إن يقرأ الواحد كتاباً من تأليف فوكو أو غرامشي حتى يرغب في التحوّل إلى «غرامشوي» أو «فوكويّْ». لا توجد محاولة لتحويل تلك الأفكار إلى شيء ذي صلة بالعالم العربي. نحن ما نزال تحت تأثير الغرب، من موقع اعتبرته على الدوام دونيّاً وتَتَلمُذياً.
***
الهوية هي ما نفرضه على أنفسنا خلال حيواتنا بما نحن كائنات اجتماعية وتاريخية وسياسية بل وروحانية. إن منطق الثقافة ومنطق العائلات يضاعف من قوة الهوية… إن الهوية هي العملية التي بواسطتها تفرض الثقافةُ الأقوى، والمجتمع الأكثر تطوراً، نفسيهما بالعنف على الذين يجري استصدار الأمر باعتبارهم شعباً دونياً، وفق العملية الانتمائية ذاتها.
***
إننا نعاني كماً كبيراً جداً من التقوقع الدفاعي ومن إحساس مفرط بالاضطهاد والسخط وما إلى ذلك.. وهو ما يعود في جزء كبير منه إلى غياب الديموقراطية.. إن السبب فيه لا يعود فقط إلى الاستبداد ولا إلى مؤامرات الإمبريالية وهو لا يتعلق بوجود أنظمة الحكم الفاسدة ولا البوليس السري وحسب.. بل هو يعود في نهاية المطاف إلى افتقار مثقفينا إلى الإحساس بالمواطنة.
***
إن المثقف وُهب ملكة عقلية لتوضيح رسالة، أو وجهة نظر، أو موقف، أو فلسفة، أو رأي، أو تجسيد أي من هذه، لجمهور ما، وأيضاً نيابة عنه، ولا يمكن القيام به من دون شعور المرء (المثقف) بأنه إنسان، مهمته أن يطرح علناً للمناقشة أسئلة محرجة، ويكون شخصاً ليس من السهل على الحكومات أو الشركات استيعابه، وأن يكون مبرر وجوده تمثيل كل تلك الفئات من الناس والقضايا التي تُنسى وتُغفل قضاياها بشكل روتيني.
***
إحدى مهام المثقف هي بذل الجهد لتهشيم الآراء المقولبة والمقولات التصغيرية، التي تحدُّ كثيراً من الفكر الإنساني والاتصال الفكري.
***
إذا رغبت في دعم العدالة الإنسانية الأساسية، فعليك أن تدعمها للجميع، وليس فقط انتقائياً لمن تصّنفهم جماعتك أو حضارتك أو أمّتك… فالخطابة الحماسية عن أمجاد ثقافتنا «نحن» أو انتصارات تاريخنا «نحن» لا تستحقّ طاقة المثقف.
***
إن كفاح الفلسطينيين معجزة جماعية، حسب اعتقادي، إذ يتحمل شعب مثل هذه الوحشية المتواصلة من إسرائيل ومع ذلك لا يستسلم. لكن لماذا لا يمكن جعل دروس المقاومة الحية (في مواجهة المقاومة الانتحارية والعدمية) أكثر وضوحاً، وجعل الاقتداء بها ممكناً أكثر؟ هذه هي المشكلة الحقيقية.
***
لا نريد المعرفة كمنتج أو سلعة، ولا نريدها كعملية إصلاح تعني مكتبات أكبر أو عدداً أكبر من الحواسيب فقط. المعرفة التي نريد تختلف نوعياً وتقوم على الفهم عوضاً عن السلطة والتكرار غير الناقد أو الإنتاج الآلي.
***
عندما تكون الهوية السياسية عرضة للتهديد.. فإن الثقافة تمثل أداة للمقاومة في مواجهة محاولات الطمس والإزالة والإقصاء.. إن المقاومة شكل من أشكال الذاكرة في مقابل النسيان.. وعلى هذا تصبح الثقافة على قدر كبير من الأهمية.
_______
*الاتحاد الثقافي
_______
*الاتحاد الثقافي