لميعة عباس عمارة
هو أبو الطّيّب المتنّبي، ليس له ولد اسمه الطّيّب، ولده الوحيد اسمه مُحسَّد.
لن أُعيد عليكم متى وأين وُلد، وعلى من درس، واًين رحل، كل هذا تجدونه في الكتب المدرسية. اليوم سأتكلم عن الحـب عند المتنبي… هل أحب المتنبي الحب الذي نعرفه؟
لا شـك أنه أعجب بالجمـال، واستمـلح المليح، وجعل من الغــزل ووصف المرأة مقدمـات لقصـائده وأكثـرها في المـدح الذي هو الغرض الأسـاسي. فما قيمة هذه المقدمـات الغزلية، غير استـهواء السامع العربي الذي يعشـق الغـزل. هل أحب المتنبي؟ شـاعر لا يحـب ليس بشـاعر. إلا المتنبي، شاعر العرب الأكبـر، وشـاعري المفضـل، وإن اختـلـفـنا في الحـب، نحن أسرى العاطفة، وهو طليق مع العـقل. كلما قرأته وجدته جديداً، وأحببته، وأعجبت به أكثر، وتاكّدت أكثر من أنه لم يتنازل لضعف العاشقـين، بل صنع الغزل والتشبيب صناعة متقنة.
المتنبي لم يكن عابئاً بالنساء، فهو لا يحتال لإرضائهن بالأناقة والنظـافة والتعطر ومعسـول الكلام، فتلك عِدًة الغزِليين، والمتنبي ظلَّ جافيا خشن الهيئة، إلى تكبّر وغرور. لم يكن منادماً أو نديماً تلذ مجالسـتـه، لأنه يدرك بعقله عقم الحديث الشـفهي، يُستأنس به في المجالس، ثم يذهب جُفاء، وقد يسـتـفـيد من أفكاره المنافسـون. هو يركز على الشعر وحده، لأن الشعر هو المحفوظ الخالد بقوافيه وأوزانه، ولو استفاد من معاني شعره سواه إذن لزمته جناية الســرّاق كما يقول هو. عقل المتنبي عقل الكومبيوتر المبرمج على الكلام الموزون المقفى، يجهد أن يغذيه بالفكرة الغريبة، والمعنى البعيد. لم يكن المتنبي على علو قدره بالشعر، شخصية محبوبة، بل كثر أعداؤه، بالإضافة إلى حاسديه. لم يستدعه الخليفة للمثول بين يديه وإن ذاع صيته كشاعر كبير، ولا مَن هم حول الخليفة، فما زيّنوا للخليفة أن يستقدم المتنبي، يعترف بذلك المتنبي في ردّه على من لامه لأنه لا يمدح الخلفاء والملوك، ولأول مرة يُشرك المتنبي نفسه مع بقية الشعراء وهم كثيرون الذين يحاولون الوصول إلى الخليفة أو الملك، إذ يقول: وأوقفوا لردِّنا الحُجّابا.
وربما كان هذا لسبب آخر في الخليفة نفسه، فالخلفاء في زمن المتنبي وما بعده ضعفاء، محكومون بالنفوذ الفارسي، ليس لهم من الخلافة العباسية إلا الاسم، وللحاكم الأجنبي كل السلطة، هو يعـزل خليفة وينصب وريثاً عباسياً آخر، فالخليفة منشغل بنفسه عن مديحٍ يعلم أنه لا يزيده قوة، ولا يعيد للخلافة هيبتها الضائعة، وأكثر الأقاليم مستقلة عن بغداد أو شبه مستقلة، وحكـامها أشد رغبة بالمديح، لأن هذا قد يزيدهم أهمية لكي يتـوسعـوا ويكونوا أقوى، وأكثر هيبة، لذلك انفتحت للشعراء أبواب الأمراء والحكام وتنافـسوا على استرضائهم. وإذا ذكرنا سيف الدولة ذكرنا المتنبي فمن يكون سيف الدولة إن لم يخلده المتنبي؟ مقدمات قصائد المديح هي كل غزل المتنبي وعلاقته بالمرأة. ومن هذا الغزل ما هو مبالغات كاريكتيرية. فمن أمثلة مبالغاته الغزلية:
بجسميَ من برته، فلو أصارت
وشاحي ثقبَ لؤلؤةٍ لجالا
أي أفدي بجسمي ـ والناس تقول أفدي بنفسي وبروحي ـ الحبيبةَ التي جعلت هذا الجسم ضعيفاً هزيلأ لو دخل في ثقب لؤلؤة لكان الثقب أوسع منه فهو يجول في اللؤلؤة كما يجول الجسم في الرداء الواسع. ويقول في القصيدة نفسها:
ولولا أنني من غير نومٍ
لكنت أظنني منّي خيالا
أما أكثر أوصافه للمرأه فهي أوصاف سبق المتنبي إليها مثـل هذه التشبيهات المألوفة:
بدت قمراً ومالت خوطَ بانٍ
وفاحت عنبرأ ورنت غزالا
ومن صناعته غير الموفقة قوله:
إذا عذلوا فيها، أجَبت بأنّهُ
حُبَيِّبتي، قلبي، فؤادي، هوى جُملُ
ومن تعسفه في خلـق الصورة الغـزليـة بحيـث تجيء مشوهة من ناحيـه اللغة أو التركيب قوله في الغزل:
وجارت في الحكومة ثم أبدت
لنا من حسن قامتها اعتدالاً
وجارت أي ظلمت. استعمل الحكومة بدل الحكم، واعتدالاً بدل (عدلاً) وواضح إنه وضعهمـا بقصد المطابقـة بيـن المتضادين الظلم (جارت) والعدل و(ثم) ثقيلة هنا وأبطأت فكأن الأحداث قد حدثت بتسلسل زمني. ولو قال:
وجارت في حكومتها وأبدت
لنا من حسن قامتها اعتدالا
لاستغنينا عن هذه الـ(ثم) أو: وجارت في تحكّمها وأبدت
وفي رأيي أنه من حسن حظ الشاعرين أن يكونا في زمن واحد ليتنافسا في الجودة.
——–
القدس العربي