عندما تصنع السينما التاريخ..


د. حسين محمود

من الصعب أن تدرس الأدب الإيطالي في فترة بين الحربين وبعد الحرب العالمية الثانية مباشرة دون أن تدلف من باب السينما، فالسينما الإيطالية كانت لها علاقة قوية بالتاريخ وبالحاضر، رغم أنها أغفلت المستقبل إلا قليلاً. 

من أهم الدروس التي قدَّمتها السينما الإيطالية في القرن العشرين وظيفتها المعرفية، وخاصة بالنسبة للأميين، وهي الوظيفة التي أحسنت السينما المصرية استغلالها في أفلام الستينيات، والتي من خلالها عرف الجمهور العربي الواسع، بمثقّفيه وأمّيّيه، أنواعاً راقية من الثقافة، لم يكن بمقدوره الإطلاع عليها من مصادرها المكتوبة. وينطبق هذا على الأعمال الأدبية الكبرى، للحكيم، وإدريس، ومحفوظ، وغيرهم، أو الموضوعات الكبرى التي أسهمت أفلام شاهين، وأبو سيف، وتوفيق صالح، وغيرهم في طرحها العام. 
والأنموذج الفريد للسينما الإيطالية «الاستهلاكية» كان يقدِّم وعياً شعبياً راقياً، ربما اعتمد على مدرسة شارلي شابلن «العالمية» والتي تتقاطع مع تراث الارتجال المسرحي الإيطالي، واستطاعت تقديم كوميديا راقية وقفت جنباً إلى جنب مع عمالقة السينما الإيطالية، وكلاهما يؤدّيان الوظيفة المعرفية للسينما، مع فارق أساسي يتعلق باللغة السينمائية: فهناك من السينمائيين، مثل فيديريكو فيلليني، ومايكل أنجلو أنتونيوني، كانوا يطمحون إلى تقديم «فن»، فيما كان هناك عشرات المخرجين الآخرين ظلوا متعلِّقين بإطار مخاطبة الجمهور؛ وهذا ليس معناه صناعة أفلام تهتمّ بذائقة الجمهور، وإنما بتثقيفه والوصول به إلى الحد الأدنى من المعرفة، الذي يأخذ بيده في طريق التنمية، حتى وصل الرواج الاقتصادي في إيطاليا ذروته، في الوقت نفسه الذي وصل فيه الرواج الفني / السينمائي إلى ذروته. فما الذي جعل السينما الإيطالية «الاستهلاكية» بعيدة عن الهبوط والإسفاف، على النحو الذي نراه في السينما العربية، في فتراتها الضحلة (الفترة الحالية مثلاً)؟ 
الإجابة نستطيع أن نتلمّسها في الحراك الثقافي والحراك الاجتماعي في إيطاليا بعد الحرب، فقد خرجت إيطاليا من دمار الحرب العالمية الثانية عطشى للرفاهية الاقتصادية، وفي الوقت نفسه وضعت نهاية الحرب، بالنسبة لها، نهاية للنظام الفاشي المتعسِّف: فكراً، وأدباً؛ ولذا خرجت إيطاليا من هذه الحرب عطشى للثقافة أيضاً، ومنها الثقافة السياسية؛ لذلك فإن قادة الفكر هم الذين قادوا الإصلاح السياسي، وكان جرامشي عنواناً لكفاءة الفكر بإيجاد الحلول الناجعة للأزمات الاجتماعية. السينمائيون «الحرفيون» الإيطاليون لم يكونوا بعيدين عن هذا الحراك، فبعضهم لم يكن بقامة فيلليني، ولكنهم كانوا مرتبطين، سياسياً، بقضايا مجتمعهم. والصورة الذهنية عن مخرج السينما الإيطالي خارج صفوف الأفذاذ، هو المخرج اليساري، أو المخرج الفوضوي، أو المخرج الليبرالي؛ بمعنى أنه كان يَنظر للمواطن بعين ملتزمة سياسياً، فيرى احتياجاته، ويحاول أن يحلّ مشاكله، ويرفعه إلى مستوى أعلى. وهكذا، ارتبطت السينما الإيطالية بالواقع ومن ثَمّ، بالتاريخ، الذي هو سجلّ الواقع، ثم بالتغيير الفوري أو المؤجَّل على الصعيد السياسي، أيضاً. 
على أن العصر الذهبي للسينما الإيطالية الذي ارتبط بالواقعية الجديدة، ارتبط- أيضاً- بالسينما الروائية، أي الأعمال السينمائية المنقولة عن أعمال أدبية، فهناك أفلام مثل «المسيح توقّف عند إيبولي» الذي يتحدث عن قرية لم تصلها أية جهود تنمية، وظلت خارج التاريخ، وهي رواية للكاتب الشهير كارلو ليفي، وفيلم «فونتمارا» للكاتب الشهير اينياتسيو سيلوني الذي يحكي عن القرية التي رفضت قمع السلطة الغاشمة (على النحو الذي رأيناه في فيلم «الأرض» للشرقاوي/شاهين)، وهي رواية نشرت في العصر الفاشي خارج إيطاليا، ولكنها استفادت من أجواء الحرّيّة بعد الحرب العالمية الثانية. 
على أن السينما الإيطالية لا يتمّ درسها، فقط، بالواقعية الجديدة، فهناك نصف قرن فعلت فيه السينما الإيطالية كل شيء: من العشرينيات وحتى السبعينيات من القرن العشرين. ولو أنه كانت هناك مقولة مشهورة للمخرج برناردو برتلوتشي هي: «السينما هي روسيلليني»، وروسيلليني هو الذي دشَّن السينما الواقعية الإيطالية بفيلمه الشهير «روما مدينة مفتوحة»، إلا أن حقيقة الأمر أن هذا لم يكن أول دخول لروسييلليني لعالم السينما، بل إن السينما «الجمالية» التي ذاعت في الفترة الفاشية، والسينما الضخمة، وسينما «التليفون الأبيض»، كلّها كانت سابقة على الواقعية الجديدة، وكلّها كان صناعها من نجوم السينما الذي أصبحوا رموز الواقعية بعد ذلك، يشهد على ذلك فيلم «الغرفة الجافة» لروسيلليني، والذي ليست له أية علاقة بخروج الكاميرا إلى الشارع، ولا بمعالجة الواقع والحياة السياسية، كما هو الحال في «روما مدينة مفتوحة».
والملمح الثاني في السينما الإيطالية والذي انتقل إلى سينما العالم كله، بسهولة، هو ما أستطيع أن أسمّيه «سينما الهزيمة»، وهي- بالقطع- سينما سياسية، ولكنها ليست سياسية فحسب، أو سياسية مباشرة.
إن الإبداع الذي قدمته السينما الإيطالية طيلة أعوام الأربعينيات (بعد عام 1943) والخمسينيات والستينيات، هي السينما التي نهضت في ظل الهزيمة في الحرب العالمية الثانية. سينما الهزيمة التي تَمّ تقديمها هي التي تبحث في أسباب الهزيمة، في أسباب الانحلال الاجتماعي، والسياسي، والفكري الذي يؤدّي إلى الهزيمة، هي سينما تشريحية بامتياز، ومن هنا تتطلّب عبقرية خاصّة في النظر والقدرة على رؤية التفاصيل الصغيرة، وعلى الرصد والمراقبة، وعلى التحليل والاستنباط. إن سينما بيير باولو بازوليني الحَيّة العنيفة الشاعرية توجز هذا الارتباط الساحر بين القصيدة والنوفيللا والصورة السينمائية الذي حقّقته كافة أجيال السينما الإيطالية، وهي تعبير متأنِّق ومتألِّق عن أزمة الإنسان المعاصر في أوروبا، وربّما في العالم أيضاً. وهذا هو ما رأيناه في السينما المصرية بعد النكسة، حيث ظهرت أفلام كانت، أحياناً، شديدة القسوة في تحليل الواقع المصري، وبعضها وَجَّهَ أصابع الاتّهام إلى قوى سياسية بعينها. فنرى أفلاماً مثل «الاختيار» (1970) و»العصفور» (1972) ليوسف شاهين، و«زائر الفجر» (1973) لممدوح شكري ومحمد حسونة، و«الكرنك» (1975) لعلي بدرخان، وغيرها. الحال نفسه تكرَّر في السينما الأميركية في السبعينيات، عندما كانت أميركا تعاني من «هزيمة» فيتنام القاسية، فظهر فيلم «العسكري الأزرق» (1970) بعد فيلم أنتونيوني «انفجار» بأربع سنوات، ثم ظهرت أفلام فرانسيس فورد كوبولا التي أبدعت في تصوير مشاهد الرعب والدم التي كانت أميركا سبباً فيها، وقُتِل بسببها الأبرياء، من أولادها وأولاد غيرها، بل راجت، كثيراً، في السينما العالمية موضة أفلام المؤامرات التي دشَّنتها السينما الإيطالية التي استغلَّت توجُّه بعض الأدباء، مثل مورافيا، وتابوكي، في تصوير الواقع على أنه نتاج مؤمرات كونية محبوكة، ساعدهم على ذلك ظهور فضائح في السياسة الدولية، كشفت عن حجم مهمّ من الفساد السياسي التآمري، سواء في الاغتيالات السياسية أو في التجسس، في عصر ظهور فضيحة مثل «ووتر جيت» التي عصفت بالحاضر والمستقبل السياسي للرئيس الأميركي نيكسون.
من الصعب أن تدرس الأدب الإيطالي في فترة بين الحربين وبعد الحرب العالمية الثانية، مباشرةً، دون أن تدلف من باب السينما، فالسينما الإيطالية كان لها علاقة قوية بالتاريخ وبالحاضر، رغم أنها أغفلت المستقبل إلا قليلاً. 
يكفي أن نعرف أن الواقعية الجديدة- بوصفها مذهباً أدبياً- ترسَّخت وتأكَّدت، فقط، عن طريق السينما الإيطالية، وأن الأسماء التي شاعت للمخرجين الإيطاليين في العالم، والتي بدأت بروبيرتو روسيلليني وانتهت بمارتن سكورسيزي، لم تكن مجرّد أسماء لمخرجين سينمائيين بارعين بقدر ما كانت عنواناً على مدرسة سينمائية من النواحي: الفكرية، والجمالية، والتقنية. 
وإلى جوار الفنّ السينمائي الإيطالي راجت مدرسة نقدية راقية، ربما وضعت أسساً للنقد الفني السينمائي، ليس له مثيل في العالم. وقد درستُ السينما الإيطالية في الثمانينيات من القرن الماضي على يد البروفيسور برونو دي ماركي، وكان أستاذاً للسينما في جامعة ساكرو كوروي في ميلانو، وعَقَد ورشتين للسينما دامت كل منها شهراً، وحضرتُ الورشتين اللتين شهدتا حضور أدباء إيطاليين كبار، ومخرجي سينما من كافة أنحاء العالم، وحاضَرَ لنا- مَرّة- المخرج الشهير أنتونيوني. 
وإذا كانت الفنون التشكيلية هي الفن الإيطالي الأرقى في عصر النهضة، مع رسّامين ونحّاتين مثل ميكيل أنجلو، ودافنشي، ورفائيل، وغيرهم، فإن السينما هي الفن الإيطالي الأرقى في القرن العشرين، وهي- أيضاً- الفن الوحيد الذي استطاع أن يرافق أحداث هذا القرن ويحكيها بأفضل طريقة، بل ويقود، في أحيان كثيرة، نضال الإيطاليين وتقدُّمهم.
——
الدوحة

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *