«الـ»حُبُّ هو (1-3)


*عبدالله حبيب



الجزء الأول:
(1)


أن لا تفهمك أبداً، ولا تفهمها على الإطلاق، ولا تأبه للأمر أبداً، تحديداً وبالضبط لأنكما تحبان بعضكما خارج التفكير والمنطق؛ فعبر التاريخ كله، ومنذ «جداول أرسطو» في العصر الفلسفي الإغريقي (وبالمناسبة فإن أسوأ درجتين حصلت عليهما أثناء دراستي لتخصص الفلسفة في مرحلة البكالوريوس كانتا في مساقي «المنطق الاستقرائي» و«المنطق الاستنتاجي» اللعينين، «B»)، لم ينجز -أي المنطق- أي مهمة سوى التخريب، والإطاحة، والهول، وسوء الفهم البغيض. «إنه المنطق الذي يُفْسِدُ كل شيء» كما يقول روبير بريسون. أما سيرغي بارادجانوف فيقول: «حين أتأكد من دقة كل شيء بعد قراءة السيناريو لعشرات المرات، فإننا حين نصل إلى موقع التصوير أشعر بشك كبير في المنطق، وأفعل أشياء مجنونة».
أن تترك المنطق وحيداً، ومهجوراً، وبائساً، وتعيساً حين تنخرط في الفعل الحُبِّي وتنسى كل ما عدا ذلك (وعلى ذكر بارادجانوف فهو حبٌّ أيضاً أن أذكر وأتذكر أنه قد بكى في لقطة إرشيفية موثَّقة وهو يتسلم «جائزة الإنجاز السينمائي الخاص» في مهرجان برلين السينمائي قائلاً أمام آلات التصوير من غصّة الدموع والشعور الحاد بالفقد والحزن العميقين على صديقه ورفيق عمره: «إنني أهدي هذه الجائزة إلى ذكرى أندريه تاركوفسكي». لقد كانت لحظة مؤثرة جداً، وها هي دموعك تسيل من جديد وأنت ترى تلك اللقطة حين أعدت مشاهدة الفيلم الوثائقي عن رحلة بارادجانوف الاستثنائية في السينما والحياة للمرة العشرين تقريباً قبل قليل.
لا يستطيع الحب أن يكون حبَّاً إلا إذا أفقدك القدرة على التركيز والتفكير السوي، وإلا فإنك ستكون شخصاً «طبيعياً» و«منطقياً» مثل كل الأشخاص الآخرين، وإن أنت أصبحت شخصاً «طبيعياً» و«منطقياً» مثل كل الأشخاص الآخرين فإن عليك أن تدرك انه بينك وبين الحب مسافة كأداء وطويلة. وإن كنت مصاباً بقدرة كبيرة على التركيز والمواظبة على «سلامة التفكير» من العشوائية الخلابة والفوضى الخلاقة فأنت لا تستطيع أن تحب، وعليك الاكتفاء بالذهاب إلى «الدوام» من السابعة والنصف صباحاً وحتى الثانية والنصف ظهراً، فهذا أقصى ما يمكن أن تقدمه للبشرية، وأن تنسى الأشياء التي توجد في عظامك. ولا يستطيع الحُبُّ أن يكون حُبَّاً ما لم يكن جملة استطرادية طويلة في الحياة والكتابة.
أن تكون هي، وتاركوفسكي، وبارادجانوف في حياتك دوماً.
(2)
أن تترك يديك للماء، وعظامك للعشب، وأمعاءك للجمر.
(3)
أن لا تقرأ كتاب «فن الحب» لإِرِك فروم، وأن تسخر من كل الذين يكتبون عن الحب بطريقة نظريَّة وليس شعريَّة (بمن فيهم أنت).
(4)
أن تكذب على نفسك، وعليها، بصدق شديد، بعد حدوث خلاف أو شجار حاد بينكما: «خلاص، بلاش حب، خلينا نكون صديقين بس» (إلخ من خرابيط لخابيط شخابيط ملاليط)!.
(5)
آه.
(6)
أن تدرك الخسارة، ولا تعترف بها.
(7)
أن تردد بكل صدق من كافة نياط فؤادك ومن كل شغاف قلبك مع الأغنية: «أحبك لو تكون حاضر/ أحبك لو تكون هاجر/ ومهما العمر يحرقني/ رَحْ أمشي معاك للآخر/ أحبك حب خلاني/ أبيع الدنيا من أجلك/ وبكرى لو تِعُدْ تاني/ أخلّي الغالي يرخص لك/ وأمشي معاك للآخر/ أحبك لو تحب غيري/ وتنساني وتبقى بعيد/ عشان قلبي بيتمنى/ يشوفك كل لحظة سعيد/ وأمشي معاك للآخر/ أحبك كلمة معناها/ حياتي وعمري في يدك/ تهون عليك تنساني/ وأنا صابر على غُلبك؟/ وأمشي معاك للآخر/ سنين وسنين وأنا صابر/ وراح أصبر كمان وكمان/ وبحر الشوق بيلعب بي/ الين أوصل لشط أمان/ وأمشي معاك للآخر».
وأن لا تثق، في الوقت نفسه، بكل ما يقوله طلال مداح!.
(8)
أن تستحضر دوماً ما قالته الزوجة للزوج في المشهد الأخير من فيلم جون هيوستن الوداعي «دَبْلَنِيُّون» (المأخوذ عن قصة قصيرة لجيمس جويس بنفس العنوان) عن عشيق الصبا الراحل الذي مات بالحُمَّى: «أظن انه مات لأجلي»، ثم يأتي الصقيع والثلج في بقية المشهد، وينتهي الفيلم، ولا ينتهي الحب.
(9)
أن تكون فأراً صغيراً فحسب، في بلاد تنعدم فيها الأجبان.
(10)
أن تعرف أن الحب قد فاتك، تحديداً وبالضبط لأنه لم يكن لديك أي خيار سوى أن تدرك ان القطار لا يتسع لحبك لها.
(11)
أن لا يستطيع أحد منعك من البكاء حين تتذكرها في حشد ينبغي أن تكون رابط الجأش فيه ولا تظهر فيه العواطف الشخصية التي تهاجمك على حين غرّة.
(12)
أن تشكر شكسبير لأنه تعذب كثيراً في كتابة «روميو وجولييت».
(13)
أن لا تكف عن معاشرة الأخطاء.
(14)
أن تعود إلى عنصرك الأول في كل مرة.
(15)
أن يُشَقِّقُك قميصك حين تبتعد عن الريح.
(16)
أن تتناول هاتفك النَّقَّال كي تهاتفها، ثم يسقط قلبك على أرضيّة الغرفة.
(17)
أن يأتيك «إيميل» مفاجئ منها يقول لك: «الله يخليك، إذا كان فستاني الأمريكي الريفي الأزرق بعده عندك، من فضلك طَرْشه [أرسله] مع […]. متوحمة، ألبسه كثيرا. لا أريد بقية الملابس. أرجو أن تتبرع بها أو تحرقها وتتخلص وتخلصني منها. لكن فقط أريد فستاني الأمريكي الريفي الأزرق […]. أنا المرأة الوحيدة غير الحامل في العالم التي تتوحم على فستان».
(18)
أن تسيل جدران معدتك بين أصابعك مثل جدران آخر غرفة نمتما فيها معاً.
(19)
أن تحاول النوم وهي معك على السرير، وأن تحاول النوم وهي غائبة عن العالم (معذرة، فقد قصدتُ: العالم غائب عنها).
(20)
أن تصر على احتساء أردأ أنواع مشروب الـ«رَومْ» في أفخر حانة في العالم.
(21)
أن تصلك رسالة اليكترونية منها بعد كل تلك السنين: «أفتقدك. أعجز عن النوم في السرير بدونك. أنام على حشوة ضيّقة على الأرضيّة. لكني لا أعتقد أني أحبك بعد».
(22)
أن لا يكون أي شيء منك لديك، ولا يكون عندك أي شيء منها.
(23)
أن تدّعي الصمم، وأن تتظاهر بالغباء في الفضيحة.
(24)
أن تدرك أن الحب ليس عصفوراً، وأن الأرض سماء.
(25)
أن تتخلى عن كل شيء، وأنت تريد كل شيء.
(26)
أن تسألك: «ماذا فعلت بعدي»؟.
(27)
أن تكون لوحدك من جديد.
(28)
أن تعيد تعريف الحب (بينك وبين نفسك فقط) بعد كل مرة، وأن تكتشف أن لا جدوى من ذلك.
(29)
أن تكون مهجوراً تماماُ، وتعرف أن هناك من يريدك.
(30)
أن لا تفكر أبداً في محاولة إكمال كتابة هذا النص.
_____
الجزء الثاني: 
(1)
أن تستحضر دوماً ما قاله جان كوكتو في حوار صحفي: «لا فائدة في الأدب. يجب الخروج من المزيد من الأدب»، مستبدلاً كلمة «الأدب» بكلمة «الحب». وأن تتذكر دائماً مقولة دوستويفسكي في «الإخوة كارامازوف»: «إن الجَمال مستحيل لأن الرب لم يمنحنا سوى الألغاز» مستبدلاً كلمة «الجَمال» بكلمة «الحب».
إن أنت تمكنتَ من هذين الاستحضارين وذينك الاستبدالين فاعلم انك في قلب الحب تماماً!.
(2)
أن تكون آسفاً على كل شيء، وغير نادم على أي شيء، وحزيناً بسبب كل شيء، وأن تستغفر دوماً كل شيء.
(3)
في بدئه، مع أول فاكهة استوائيّة يقدمها لك قاضماً أصابعك الجافّة، مع أول جرعة من ماء زمزم يُرَشِّفها من لعابه إلى دمك مباشرة، مع أول غيمة يبلّل بها زندك، ما لم تستقرئ نهايته منذ البداية، فإنه لا يمكنك الاستمرار فيه بكل تلك العذوبة، والوجد، والشجن.
(4)
أن يكون تلك العاطفة الكبير والعميقة المسرفة بطبيعتها، ولذلك فإنه ينفد بسرعة حتى ولو دام العمر كله.
(5)
أن لا تكون فيه بل أن تكون واقفاً على حافته العالية وأنت تشعر بالدوار وتعدد الرؤى المتداخلة في بعضها البعض كما في تقنية «التعريض الذاتي المتعدد» (subjective multiple exposure) السينمائية؛ فإن اختل توازنك وسقطت إلى الخلف فسيتحطم ظهرك. وإن زلَّت قدمك ووقعت إلى الأمام فستتهشم روحك.
وفي الحب ليس تفتت الظهر تذكرة عودة، وليست الضلوع المكسورة وسيلة جيدة لبلوغ حافة أخرى. في الحقيقة، ليس في الحب من حافة ثانية.
(6)
ليس الحب هو براءة الأطفال ولا ضحكات الحمامات، بل قلوب البلدوزرات وهي تنبض بالوجد أثناء تكسيرها الجبال.
(7)
الغَفْلة عن الحب.
(8)
اللاشيء حين يكون كل طين الخلق بين يديك.
(9)
مكالمة دوليَّة تأتيك فجأة بعد سنوات من الانقطاع الدائم (تستطيع أن تخمن فقط كيف توصلت إلى رقم هاتفك عوضاً عن مكاتبتك إلكترونياً فعنوانك لم يتغير منذ أن أنشأتَه). في تلك المكالمة تسألك عن كل شيء: عن القراءة والكتابة والأفلام، والصحة، وعمّا إذا كنت قد قلَّلت من التدخين والشراب، وعمّا إذا كنت تقيم وحدك (وهو سؤال لم يبدو بريئاً تماماً)، وهل تنظّف الشقة مرة واحدة شهرياً على الأقل، وعما إذا كنت قد حسَّنت من نظامك الغذائي وعدت لممارسة السباحة بصورة ولو شبه منتظمة، وعن المجون الدموي الشنيع الدائر هذه الأيام في الشرق الأوسط، إلخ. وأنت تجيب وتسألها نفس الأسئلة تقريباً.
الحب مكالمة تأتي على حين غرّة من آخر الأرض، وتسأل عن كل شيء، ولكنها لا تتطرق أبداً إلى الحب الذي كان.
(10)
نجمة صغيرة، وهذا يكفي السماء.
(11)
أن تكون الأرض في حالة مخاض دوماً.
(12)
أن يسقط القمر ويصبح سمكة في البحر.
(13)
مقصلة مثل الهواء.
(14)
أن لا تنسى كل من أحببت سابقاً، في الوقت الذي أنت مخلص فيه بالكامل لحبك الجديد باعتباره حباً أولاً، ووحيداً.
(15)
لا ينبغي اعتباره شيئا «مقدساً» بالطريقة التي تتحدث عنها أناجيل السماء عن الرب وأنبيائه ورسله، وأذابيح الشعراء، ولا أسماء كبيرة مثل بارِس وهيلين، وأرفيوس وإيورِديس، وشاه جهان وممتاز محل، وقيس وليلى، وكُثيِّر وعزّة، إلخ، بل أن يكون أيضاً شيئاً عنيفاً، ونادراً، ومكثَّفاً، واستثنائياً، وعابراً كما في التقاء عيني رجل بعيني امرأة بصورة عميقة جداً ومعبِّرَة جداً لمدة قصيرة عدة مرات بطريقة مركَّزة في حانة محطة قطارات، ثم يذهب كل منهما إلى مساره ومصيره بعد ذلك إذ تنطلق صافرة القطار قبل أربع وعشرين سنة، أي منذ يوم الأحد، 3 نوفمبر 1991 في سان دييجو/ كاليفورنيا، وحتى اليوم، الخميس، 10 سبتمبر 2015 في مسقط).
لكن بعد كل تلك السنين الطويلة، والبلادين المتباعدتين، تتذكر تلك النظرات فيحدث الحب: هكذا، ساحقاً جداً، وزائلاً جداً؛ إذ انك اذا لم تتمتع بقدر لا بأس به من الحماقة والسذاجة فأنت لا تستطيع الحب:
«الأحد، 3 نوفمبر 1991، سان دييجو/ كاليفورنيا:
رجُلٌ وامرأةٌ
اقتعدا زاويتين متقابلتين في حانة المحطَّة
خَلَعَ كل منهما معطفه المبلل بالانتظار
احتسيا قليلاً من المخاوف
وتلصصا منفردين على عري الوقت على الحائط
كذلك تبادلا ابتسامة المساء
ونظرات قصيرة أثناء قراءة صحيفة اليوم
*******
امرأة ورجل
كيف يتسع لهما الكلام
حين يُطلق القطار صيحته»؟ (من مجموعتي الشعريَّة «ليلميَّات»).
(16)
استيقاظ السراب.
(17)
أن تكون ثيابها لا تزال في خزانة ملابس غرفة نومك مثل أيقونات في موقد تدفئة. والباقي سيكون كله في لقائكما الأول.
(18)
قرية صغيرة بين منقاري عصفور جريح الجناحين.
(19)
أن لا تحاول لملمة شظاياك بعد كل حب، فالريح صخر ونار ورماد، ولا تستطيع أن تكون غير ذلك أبداً، وأنت لا قِبَلَ لك بغير ذلك على الإطلاق.
(20)
أن تتعرف إلى الفراشات حين تندلق من خاصرة محبوبتك فقط. أما بقية البساتين، والمزارع، والحدائق فهي، في الحقيقة، تقبع في مكان آخر غير الحب، وغير هذا الكوكب.
(21)
أن تضيّعك المياه، وتغرق نصف غرقة فقط.
(22)
أن تتشكل أعضاء الجسد في الفقد والحنين.
(23)
أن يتعرى الجسدان، وتذهب المرآة إلى الطيف.
(24)
كأس مكسورة تملؤها بالحنين والحنان من أحشائك ومن عينيك طوال عمرك، من أجل أن يكتسب أي يوم في حياتك أي معنى.
(25)
هو ناقص دوماً (وسيبقى كذلك)، لأن الحب هو مشروع الكمال (الذي لن يتحقق أبداً).
(26)
ما لا ينجلي بعد العاصفة.
(27)
رتق أضلع الحنان لصالح الحنين، والحب عاطفة لا تسعفك على التجبير.
(28)
سمكة ميتة منذ ألف سنة، وصيّاد متفائل في إبحاره الأخير.
(29)
ضحكة في رماد موقد.
(30)
أقسى من العزلة حين يريد، وأكثر حناناً من العزلة حين تريد.
(31)
خطيئة لا كفّارة منها سوى الحب.
(32)
أمامه أنت لستَ وحيداً فقط، بل عليك أن تساعد محبوبك على أن يكون وحيداً أكثر.
(33)
قدَّامه تتشكل الهيولى.
(34)
أن تسهو، ولا تنسى.
(35)
أن تتعثر في كل خطوة إليها، ولا تطلب النجدة منها.
(36)
الحب يُصْدِقكَ القول بمقدار ما تذهب وحيداً وتائهاً في الصحراء، فهناك وُلِدَ الحُب كما وُلِدَت النبوءة.
(37)
أن أفارقك وأنتِ شالٌ من الصوف على كتفي غيمة، مثل ابتسامة أخيرة، عند أسفل السُّلُّم، في حوالي الخامسة صباحاً، وأنت تبكين على الرغم من تضرعاتي.
(38)
أن يقفا وراء زجاج نافذة الغرفة في الدور الخامس أو السادس من الفندق، وأن تقف ملتصقة به في المنطقة الفاصلة بين «خلفه» و«إلى جانبه»، وتطوّق خصره بذراعيها، وذقنها مستريح على كتفه الأيسر. تمسك سبَّابته اليمنى بإبهاما وسبّابتها وتكتب بها اسمه بحروف غير مرئية إلا قليلاً عبر الندى الباهت المتكون بسبب الرطوبة والتكييف على زجاج النافذة. هو أيضاً يمسك سبَّابتها اليمنى بإبهامه وسبّابتها، ويفعل الشيء نفسه. تعود إلى تطويق خصره وهما ينظران إلى ضوء الأبديَّة وهو يشعُّ ويبرق خلف أنوار مسقط.
(39)
لن تعرف الحب إلا إذا لحظت بِدِقَّةٍ عفوية حركة الطبيعة في محبوبتك، في كل حركاتها وسكناتها: الريح، المطر، الحر، البرد، الشروق، تردد السُّحب، غياهب النجوم، موج البحر، ازدحام المواسم كلها في لحظة واحدة، وانتحاب صَدَفَتَين لا تزالا متصلتين ببعضهما البعض بهشاشة عند الغروب على شاطئ مهجور.
(40)
أن تكون سارقاً ومسروقاً في الآن عينه.
(41)
أن تتحول ضحكات الماضي إلى ناموس.
(42)
أن لا تحاول البدء في كتابة هذا النص.
__________

الجزء الثالث: 

(1)
أن لا تهتم بالنتائج، بل بالأسباب.
(2)
أن تكون السعادة مجرد صدفة طيبة فحسب، ولكن غير مُشْتَرَطَة من ناحية المبدأ.
(3)
أن تستعير من الفلسفة الألمانية مفهوم الـ “Gestalt” (تقريباً: تشكُّل نموذج من العناصر يكون متحداً باعتباره كلاً متكاملاً ولكن لا يمكن مع ذلك وصفه بأنه مجرد مجموع لأجزائه في طريقة رؤيتك للكون)، ولا تفعل ذلك إلا حين ترى حبيبتك فقط، لأن الكون ليس هناك إذا لم تكن حبيبتك معك، ولذلك فإنه لا يمكن النظر إليه بالـ “Gestalt”!.
(4)
أن تراها مترهلة ممتلئة باللحم، والشحم، وسط بكاء جوقة أطفالها في مناسبة اجتماعية، وأن تبتسما لبعضكما البعض بسرعة خجلى في استذكار خاطف لما كان يحدث في نهاية الطفولة الشقيَّة/ بداية الصبا النائي في عريش صيفي (وأنتما أصلاً كنتما أصغر من أن تعرفا كيف يمكن أن يُفعَل ذلك الشيء، بل كنتما تجربان فقط)، ومع ذلك فإن الحب (حتى بشكله البدائي ذاك) يبقى قطّاً غير قابل لنزع الأنياب حتى بعد مرور كل تلك العقود من الزمن، فينداح صوت الشباب الباكر المتعلق بحكاية أخرى أكثر نضجاً هذه المرة هكذا: «أسف والله تغيرنا/ ومر الوقت وبدَّلنا/ يا عرش القيظ ردّ القيظ/ ورحت أسأل منازلنا/ عِصَرْ قلبي وذكرني/ عريشٍ كان موعدنا» (من أغنية «عرش القيظ» لأحمد الجميري).
(5)
أن تكون متأهباً دوماً للفقد، مثل بدوي يغرز أوتاده إلى أعمق أعماق الرمل من أجل السكنى بطريقة لا يستطيعها «الوقوف على الأطلال» في الشعر الجاهلي، بينما راحلته واقفة قرب الخيمة وهي جاهزة للرحيل به من غير زوادة.
(6)
أن تعود لنفسك في نهاية المطاف، وحيداً، وخفَّاقاً، ومترنحاً، وحرّاً (حتى من نفسك، ومن الحب).
(7)
أن تتذكر دوماً على الطريقة التي تقول بها البطلة مغادرةً الكادر (والعالم كله، في الحقيقة) في نهاية فيلم «كاماسوترا: قصة حب» لميرا نير بعد مشاهدة إعدام حبيبها أمامها بأن جعلوا فيلاً يبرك فوقه حتى لفظ الأنفاس الأخيرة: «أحبه، وسوف يعلمني الحب أن أنسى».
وأن تدرك أن هذا لا يتناقض البتَّة مع حقيقة انك تغرق نفسك كل ليلة في برميل من الخمرة القوية لا لمحاولة النسيان (كما يفعل ويطمح الآخرون) بل بقصد أن تتذكر كل التفاصيل الصغيرة طوال كل تلك السنوات.
أن لا تسكن في الماضي، بل تدع الماضي يسكن فيك بكل أريحية من أجل أن تحاول القيام في الحد الأدنى بما يستطيع بقية البشر القيام به في الحدود القصوى في كل يوم؛ بمعنى أن لا تتفكر فيما تبقى لك بأنه «بقية عُمْر» بل «بقية أيام» في أحسن الأحوال، حيث تمضي يوماً فيوماً على حِدة، إذ أنك حين تذهب إلى السرير في آخر كل ليلة تتصور بأنك ستستيقظ غداً في القبر. بهذا يمنحنك الحب القدرة على المستقبل بطريقة تختلف عن تلك التي يتبرع بها للآخرين. إنها طريقة لا يُبَعِّضُ ويجزيء المستقبل بها نفسه كما في حالة الآخرين، بل أن يمنحك نفسه كاملا للمرة الأخيرة (مثل حبيبة كريمة تمنحك كل شيء في لقائكما الأول، ولا تهتم بالباقي من الدهر)، وفي اليوم الأخير في كل يوم، فأنت لديك المستقبل كله في يوم واحد، بينما الآخرون لديهم وقت أطول للضنى، والمساومة، والمضاربات المقرفة.
وأن تدرك أن الكتابة تجعل موضوع النسيان/ التذكر/ التفاصيل الصغيرة إشكاليَّاً ومعقَّداً أكثر مما نوى الحب وأراد بحسن نية بالغة. وأن لا تشتكي من هذا القَدَرْ.
(8)
أن لا تنتظر الحب حين يريد هو أن ينتظرك.
(9)
الصمت حين يكون الكلام مُحَبَّذَاً (صمتك أنت، وصمتها هي، في نفس الوقت).
(10)
أن يجلس طلال مداح («زرياب الشرق» كما لقبه محمد عبدالوهاب) والذي نعلم انه كان مرتلاً ممتازاً للقرآن الكريم في صباه وواحداً من أشد المعجبين ببيتهوفن في شبابه) على الكرسي فوق خشبة المسرح بقلب أضنته النساء (لكن امرأة واحدة فقط في كل مرة، وليس عدة نساء في الوقت نفسه على الطريقة «الزِّيريَّة» و«الدونجوانيَّة» المقيتة)، والخمر (ولا أدري، بالمناسبة، لماذا تعني هذه النقطة بالذات الإمبراطور محمد عبده أكثر مما ينبغي في تصريحاته شماتة، وحقداً، وغِيرة مهما حاول تغليفها بشكولاتة «جالاجكسي»)، والأغاني (حوالي ألف ومائتي أغنية)، ويؤدي وصلة/ صلاة عزفيَّة على العود لمدة خمس دقائق قبل البدء في غناء رائعته «الله يرد خطاك» التي ما كاد يبدأ في غنائها حتى خرَّ صاعداً إلى الأبدية.
أن ندفع صخرة عزرائيل بريشة عود طلال مداح ونغني ضد الموت ومع طلال مدَّاح والسرمديَّة: «الله يرد خطاك لدروب خلانك/ لعيون ما تنساك لو طال هجرانك/ دام الأمل موجود فالنفس خضَّاعه/ حق العيون السود السمع والطاعه/ الله يردك لي يا مطوّل غيابه/ يا معذبي هجري مَدْري وِش أسبابه/ دام الأمل موجود فالنفس خضَّاعه/ حق العيون السود السمع والطاعه/ كانك سمعت الناس صدقت بي عاذل/ عني اسأل الإحساس ان كنت بي جاهل/ دام الأمل موجود فالنفس خضَّاعه/ حق العيون السود السمع و الطاعه/ ياللي بعدك اليوم تبكي على باكر/ صبري عليك يدوم ما دمت أنا فاكر/ إن الأمل موجود والنفس خضَّاعه
حق العيون السود السمع والطاعه».
وعليك أن تدرك ان الموت يحمل دوماً في جيبه الاحتياطي راية بيضاء يرفعها حين يضطر.
(11)
هو أقل حناناً وتوقاً ممن يبحثون عنه.
(12)
أن لا تخشى أنها لن تكون موجودة في حياتك بعد وقت قصير حين كل شيء ينبىء بذلك، وإن تتحول في إثر رحيلها إلى رهبان في دِير مليء بالورود الجافة، وقناني النبيذ المعتَّق، والأوراق، والأحبار، مدركاً ان المرأة وحدها لديها القدرة على تحطيم جدران الأديرة.
(13)
مَجُوسِيٌّ يحاول التعرف على ديانتك.
(14)
أن تمحو ذاتك بكل القصد والإصرار، وأن لا تكون أبداً (مع محبوبتك خاصةً).
(15)
أن تستعطفها: أرجوك، لا تحبيني. أنا متمرِّس في الخوف، وعصيٌّ على العون.
(16)
أن لا تفهم كل تلك الغيرة المجنونة: أصبح لها رجلٌ غيرك، وعندك امرأة غيرها. لكن كلما أقلعت الطائرة في أسفارك اختفت السماء للمرة الأخيرة.
(17)
أن يعلمك انك جاهل بكل شيء، فانتبه يا من تحب: ليس من الضرورة أن تتعلم أي شيء.
(18)
أن تكون ملتزماً به (حتى ولو كان ذلك مستحيلاً).
(19)
أن تقود سيارتك ببطء، واتزان، وحذر بعد حدوث شجار حاد و«زعل» كبير بينكما يصيب كلاً منكما باتخاذ العزَّة بالإثم، وأن تنظر إلى يمينك ويسارك على أمل أن تراها وهي تقود سيارتها بالمصادفة بجانب سيارتك في نفس الشارع. ولن يكون هذا هو أول حادث سير في التاريخ.
(20)
أن تنفجر في وجهك بغيرة وغضب: «أنا أعرف أنك كنت تحبها كثيراً»!. فترد عليها: «أنا أعرف ذلك أيضاً»!.
(21)
أن تعتذر الشمس لستائر غرفة النوم، وأن يتناسى القمر واجب الاعتذار.
(20)
أن تحتضنك بقوة وتقول لك: «أنا أحبك لأنك انته حنون واجد مثل أمي الله يرحمها» (وبهذا تنتهي دفعة واحدة، ومرة واحدة، «عقدة إلكترا» من علم النفس، وبذلك يتوصل فرويد ويونغ إلى صلح واحد في الأقل في خلافاتهما المؤسفة)!.
(21)
أن لا تتمكن الشمس من الشروق قبل أن تستيقظ محبوبتك، بما في ذلك أيام عطلة نهاية الأسبوع والإجازات.
أن تكون جفون الشمس مربوطة بزنديْ محبوبتك.
(22)
أن لا تؤمن ولا تمارس في علاقتك بها ثنائيات خرقاء وغبيَّة من قبيل «القوة» و«الضعف». العكس تماماً هو الصحيح؛ فكلما كنت «ضعيفاً» معها (وليس أمامها)، وكلما كانت «ضعيفة» معك (وليس أمامك)، أصبح حبكما أكثر قوة.
(23)
أن تدرك أنه حتى المستقبل سيكون ماضياً في يوم ما (في تنويع على قاسم حدَّاد: «انتبهوا/ الماضي قادم»)!.
(24)
أن لا تخشى من التهشم الكامل فيه في عُمْرٍ لا يُعْتَبَرُ متأخراً كثيراً بعد، وأن لا تكف عن ممازحة أطبائك العضويين والنفسيين!.
وأن تفعل فيه ما كان آرثر رامبو يفعله في الحياة: «أن تزرع دمامل وبثور على وجهك، وتربيها».
______________

* الأجزاء (1-3) من النص.

** المصدر: جريدة عُمان. 

شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *