*علياء الداية
( ثقافات )
نعلّب كل ما له علاقة بالذكرى، نؤطّر الماضي، مثل بقايا عطر في زجاجة منسية، أو لوحة مهملة في زاوية بيت عتيق، عود بخور لم يعد هناك من بقي حياً ليشعله، ومثل مذاق الطعام الذي كانت تطبخه الجدّة قبل عقود من السنوات. نحن نعلّب المستقبل أيضاً، في عباءة من الوهم أو صور سراب تأتي من عالم آخر.
العالم الآخر تسمية نطلقها أيضاً بمعنى العالم الجديد، أو الكوكب البعيد. وما يحصل عندنا هنا، هو أن إحدى الهيئات العلمية الكبرى تدير برنامجاً لمراسلة الكواكب، أو بالأحرى إرسال الناس إلى كوكب آخر بعيد جداً، إلى درجة أن كل من يذهب إليه لا يعود. لم يسبق أن عاد أحد المتطوعين الذين ذهبوا إلى هناك، حتى إننا لا نعرف اسم ذلك الكوكب. ولعلّ هذا هو السبب الذي يجعل قلة من الناس تتحمس للتطوع والرحيل.
ما زال الكثير من الناس على الرغم من كل شيء، يعتقدون بأن الأرض هي الكوكب الأمثل للعيش، فقط نظراً للمجهول الذي يكتنف باقي أنحاء الكون، ننظر إلى مكونات السماء بوصفها نوعاً من الزينة، أو الديكور الجميل كالنجوم والقمر والمذنبات في الليل، أو الغيوم والشمس في النهار. من البديع أن السماء يتبدل لونها بين الليل والنهار، وبين أوقات النهار المختلفة، وأحوال الطقس، فتارة تكون برتقالية عند الغروب، وشبه بيضاء في الفجر أو عند غياب الشمس في ضباب الربيع.
لم أكن أهتم ببرنامج الهيئة العلمية الفضائية الذي يُعنى بالسفر إلى الكوكب البعيد، حتى التحقت صديقتي به. فوجئت كما فوجئ غيري باختفائها وقد تركت لنا ولأهلها قصاصة ورقية تقول فيها إنها ملّت من كوكب الأرض وضاقت ذرعاً بكل شيء، إنها راحلة مع برنامج الهيئة العلمية. “راحلة مع برنامج الهيئة العلمية!” هل تدرين يا نورا ما معنى ذلك؟ لن نعرف عنك أي شيء، وقد تكون المغامرة رهاناً خاسراً. لن تعودي!
ألهذه الدرجة كوكبنا سيئ؟ ربما، ولكن ما مقدار البهجة الموجودة في مكان آخر، ربما تكمن البهجة في مجرد محاولة الخروج، ربما.
أسبوع من الدموع والحزن، وأسبوع من استيعاب الدهشة، وأسبوع آخر من الحيرة، ثم خطرت في بالي فكرة أثناء تصفح الإنترنت. تذكرتُ أن لدى نورا صفحة احتياطية في الفيسبوك، نعم، إنه الفيسبوك، سلنجأ إليه لحل المشكلات بشكل جديد. وكانت نورا قد أعطتني الرقم السري للدخول، من أجل استخدامه في حال توقفت صفحتها الأصلية. كان هذا قبل سنوات حين سافرتْ لبضعة أشهر واضطرتْ إلى الغياب عن المدينة. المهم في الموضوع هنا أن نورا في الكوكب الجديد لن تتمكن من فتح صفحتها في الفيسبوك، بل إنها فقدت علاقتها بكل ما يمت لكوكب الأرض بصلة. عملياً فإن صفحتها اختفت، ويبدو أن ذلك من ضمن استعدادات هيئة الفضاء قبيل تدريب الراغبين في السفر.
وماذا سأفعل بصفحتها الاحتياطية؟ كانت فكرة غريبة، ولكني استخدمت الرقم السري، ودخلت إلى الصفحة، يوماً فيوماً أخذت أضيف أصدقاءنا المشتركين إلى الصفحة، وسط دهشتهم وسعادتهم بوجود وسيلة تواصل مع “نورا”. ووجدت نفسي أضع عبارة أقول فيها ـ على لسان نورا بالطبع ـ : “لقد وصلت، أنا بخير، والمكان هنا رائع جداً!” مما أثار بهجة بعض الأصدقاء، وشكّ بعضهم الآخر. الجميع يطالبون بتفاصيل أكثر. انهالت الرسائل والتعليقات، ووجدت نفسي أمام حشود من طلبات الصداقة، كل يوم مئة شخص، والعدد يزداد ويتضاعف.
أحسست وكأنني ذهبت إلى ذلك العالم المتخيل، وأخذت أتصور شكل الحياة هناك، وأصفها في عبارات قليلة كل بضعة أيام: “فترة التدريب على ركوب المكوك الفضائي لم تستغرق أكثر من ثلاثة أيام”، “عددنا كان عشرة أشخاص”، “وصلنا بسرعة رهيبة، كم كانت الأرض تبدو جميلة من أعلى”، “الأشجار هنا مختلفة، ولكنها إما دائمة الخضرة، أو جرداء، ليس هناك حلّ وسط”، “هل تتخيلون يا أصدقائي أن الديناصورات تتجول هنا بين الأبنية؟ نعم، نحن نعيش في أبنية تشبه ما لديكم على الأرض، ولكنها سهلة النقل من مكان إلى آخر، كما أنها لا تتأثر بالزلازل، هناك براكين في أماكن محدودة، ونحن نقصدها للسياحة والترفيه، ذهبنا من أسبوع في نزهة إلى أحد البراكين، معايشته أكثر بهاء بكثير من مشاهدته على شاشات التلفزيون أو الحاسوب”، “كل ما يعيش هنا أليف، أغلب الحيوانات نباتية، وهي غير مؤذية، أما النباتات نفسها فكبيرة الحجم، تخيلوا أن نبتة الخس بحجم شجرة معمرة كالتي كانت في قرية جدي على كوكب الأرض…”. هنا أشعر أنني أبالغ قليلاً أو لنقل كثيراً في شطح الخيال، خسة بحجم شجرة!
على أية حال لقد أثارت هذه العبارات في البداية إعجاب الأصدقاء، ومتابعي الصفحة، وقد اضطررت إلى أن أحوّل الصفحة إلى صفحة عامة حين زاد عدد الأصدقاء على الخمسة آلاف، وصار عدد معجبي الصفحة حالياً عشرة آلاف. ولكن فيما بعد، كثرت التعليقات التي تنم على استهجان أو عدم تصديق: “أين الدليل على ما تقولين؟”، “نطالب بالصور حتى نصدق هذا الكلام”، “يبدو أنك يا نورا متخفّية في بلد آخر على كوكبنا الأرض، كل من سافروا مع الهيئة الفضائية اختفوا بلا شك”.
كانت عشرات الرسائل تصل يومياً إلى بريد الصفحة، اثنتان منها كانتا تحذّران من التلاعب بالحقائق، وأن من شأن الهيئة الفضائية وحدها أن تصرح بما يجري على الكوكب البعيد.
قررتُ إدراج بعض الصور لتبدو الصفحة أكثر واقعية، ولذلك كان لا بد من إطلاع اثنين من الأصدقاء على حقيقة الأمر، لم يستغربا كثيراً، بل إنهما أكّدا لي أن هذه أفضل خدمة نقدمها لنورا، وهي من دون شك موافقة على ذلك، ولو سألناها قبل رحيلها لسمحت لنا. كانا محترفين في التصوير وبرامجه، لذا لم نعان صعوبة تذكر في تصميم لقطات لبعض الأماكن لتبدو كبراكين، أو أبنية ضخمة مزودة بعجلات ولها غرفة على السطح لإدارة البناء وتحريكه وتوجيهه، صممنا أيضاً بعض الصور التي تظهر فيها ديناصورات وتماسيح أليفة، وشحذنا خيالنا لنتصور كيف تبدو السماء، وهل النهار أطول أم الليل.
كان تفاعل المتصفحين واسعاً جداً، ويطالبون بالمزيد دائماً، حتى إننا اضطررنا إلى الاستعانة بصديقين إضافيين متخصصين بتصميم مقاطع فيديو قصيرة عن الكوكب. نسيت أن أخبركم أننا أطلقنا عليه اسم “كوكب الغيمة الرمادية”، وقد لا تكون هناك حاجة لأن أخبركم بذلك إن كان أحدكم قد عايش فترة رواج الصفحة، وأنا حالياً لا أدري ماذا حلّ بالصفحة لسبب سأذكره لكم في نهاية القصة.
المهم في الأمر أن معجبي الصفحة قارب المئة ألف شخص، ولم تستطع أية صفحة مزورة أو شبيهة أن تنافس صفحة كوكب الغيمة الرمادية. كانت نورا غائبة حاضرة، تحكي تارة عن الأشجار ذات الأوراق المستوية، وتارة عن الأرانب الضخمة التي تهتزّ الأرض حين تقفز من مكان إلى آخر. وكما هو متوقع، كان المتصفحون يطالبون نورا بصور لها مع هذه الكائنات، وهذا ما لبيناه فوراً. بالطبع لقد اتهم بعضهم الصفحة قائلاً إن الصور نتيجة لاستخدام برنامج فوتوشوب، ولكن بعضهم كان راضياً عن أدائنا، وطلبت عدة جهات صحفية محلية وعالمية لقاءات مع نورا، ولكنها ـ لكنناـ كانت تعتذر عنها، ففي صفحتها تقول كل ما تريده ولا حاجة للمزيد.
لسبب ما، لم يَردنا المزيد من رسائل التحذير، باسم الهيئة الفضائية أو نيابة عنها، ولكن سرعان ما عرفت لماذا. اكتشفتُ أن ما كنا نفعله، كان دعاية لبرنامج الهيئة العلمي، صار العديد من الأشخاص يُقبلون على السفر، يختفون، ولا تظهر أية صفحات فيسبوك خاصة بهم، لا خس، لا نباتات عملاقة، لا أرانب، لا أبنية ذات عجلات. كان أصدقائي الأربعة منهمكين بالمزيد من الابتكارات يرفدون بها الصفحة، وبالمزيد من الخيال الواسع الذي يستعينون به في تقديم الردود والإيضاحات لمن يسأل نورا عما يحدث هناك في كوكب الغيمة الرمادية.
أما أنا، فوجدت نفسي أتساءل: أتراها نورا حقاً هناك؟ ماذا لو كان واقعها مطابقاً لما نصفه؟ وبين ما هو ممكن، وما هو معقول، وما هو واقع، كنت أودّع الأبنية الثابتة، والأعشاب اليابسة، والقمر، والغيوم البيضاء، وأنا أتوجه نحو هيئة الفضاء، لألتحق ببرنامجهم الذي يوصلني إلى حيث رحلت نورا.
__________
* نشرت القصة في مجلة “الأدب العلمي”، العدد 20 ، نيسان 2015 ـ تصدر عن جامعة دمشق، ص150ـ 153