*د. سهام العبودي
خاص ( ثقافات )
قراءة في ( كتاب الشاي ) لـ أوكاكورا كاكوزو (1 – 2)
حين انتقلنا من حيِّنا الشعبي إلى أوَّل فيلا أسكنها في حياتي لم ترتح أمِّي – رحمها الله – إلى مسألة تتعلَّق بتفصيل صغير في تنظيم الأثاث، تفصيل لم يكن ليلفتني، أو يثير تنبُّهي في حداثة سنـِّي وأنا المأخوذة – آنذاك – بالسكن الجديد، والغرف المتعدِّدة، والساحات الواسعة، لم تطمئن أمـِّي إلى اتجاه سرر النوم في الغرف؛ كان لديها هذا التصوُّر: أنَّ من تصرَّف في توزيعها يجهل – حتمًا – أنَّ جانبًا روحيًّا يجب أن يتدخـَّل في التنظيم بحيث يجعل رؤوسها متجهة إلى القبلة. إنَّ البيوت يجب أن تبنى على معرفة بالروح، وإنَّ المادة في أقصى درجات صلابتها يجب أن تكون مرقــَّقة باستفاضة المعنى فيها: يجب أن يشكِّلها، ويمنحها اتجاهها، ولونها، وطريقة استعمالها، هذه هي الدرجة من نضج الروح الذي أكاد أن أصل إليه بعد كلِّ هذه المسافة من تلك الحادثة.
إنَّ اشتغالات الروح ينبغي لها أن تمحض نفسها الوجود خارج الروح، ولذلك نحن نمنح ما نؤمن به، ما يطرأ على بالنا، ما يبهجنا، ما يقلقنا، أو يوجعنا – نمنح هذا كلَّه – وجودًا آخر: نحبُّ أنَّ نمثـِّله على نحوٍ ما: فنتصرَّف، أو نصدر إشارات، أو نكتب، أو ننحت، أو نرتـِّب، ووفق هذا يحدث المسار: أن يعود الممثـِّل لهذه الاشتغالات الروحيَّة كي يكون هو الدالَّ عليها بعد أن كانت هي موجدته، وهكذا تتشكَّل الهويَّة الخاصَّة بنا، وهكذا تبدو هويَّات الآخرين بالنسبة إلينا.
إنَّ المنطقة المظلمة في مسار حصول الأشياء هو غياب علَّة حدوثها، إنَّ ما هو واضح وجليٌّ بالنسبة إلينا ليس على هذا النحو بالنسبة إلى من تفوته هذه العلَّة؛ فكيف يفهم الآخر حركة أو إيماء، أو سلوكًا نقوم به إن لم تتدخـَّل اللغة الشارحة كي تضيء هذه المنطقة المظلمة؟
نحن إذن أمام هذا المثلث: هناك المعنى أو الفكرة، وتمثــُّلهما في الماديِّ، ثم اللغة التي تستلُّ المعنى من هذا الماديِّ مرَّة أخرى.
ما الذي يجعلنا ننشغل بمسألة اتجاه السرر في بيوتنا سوى هذه النفحة الإيمانية التي تجعلنا نقلق من فكرة أن نموت في نومنا ونحن غير متجهين إلى القبلة؟ من فكرة مضمرة في الوعي لكنـَّها تحدث في التفصيل الماديِّ، وتشكِّله وتعطيه صورته، لكنَّ هذه الصورة ستظلُّ غير مفهومة ما لم يجر تفسيرها: لن يفهم الآخر هذا السلوك دون أن تشرحه اللغة.
يمكن لهذه المقدِّمة أن تجيب عن سؤال: لماذا (كتاب الشاي)؟
على المسار الشخصي فإنَّ الكتاب هو أحد الكتب (المفاجآت) بالنسبة إليَّ، تلك الكتب التي يكون مضمونها مختلفـًا عمَّا نتوقَّعه من الكتاب حين لفتنا الاسم أوَّل وهلة، أنا أحبُّ الشاي وتلك نقطة انطلاق تدفعني إلى قراءة كلِّ ما أجد في طريقي عنه، ومن تلك النقطة أخذني الكتاب في طريقٍ آخر.
إنَّ أعظم الكتب قيمة هي تلك التي تمنح الأسئلة أكثر ممَّا تمنح الإجابات، تلك التي تعيد اقتراح وسائل أنجع لفهم الحياة، وكتاب الشاي يمنح هذا النوع من الأسئلة؛ فمن خلال تفاصيل صغيرة في التشكُّل المادي لحجرة الشاي اليابانيَّة يمكن أن نعرف كثيرًا من القيم، والعقائد، والأفكار عن الكون والحياة لدى شعوب الشرق الأقصى، سنجد في الكتاب أفكارًا منغمسة في أدقِّ التفاصيل، وبصرف النظر عن ماهيَّة هذه القيم، وصلاحيَّة هذه العقائد فإنَّ ما يهمُّنا منها هو أنـَّها غدت ممثــَّلة على نحوٍ دقيق، وصارت جزءًا من تفاصيل الحياة اليوميَّة لمعتنقيها.
إنـَّنا حين نقول: (قيمًا وأفكارًا) فإنـَّنا نتصوَّر أنَّ حضورها سيكون فقط في الأشياء الضخمة، والعملاقة، لكنَّ نموذجًا من التعريف بالهوية مثل (كتاب الشاي) يخبرنا أنَّ ذلك ليس أمرًا ضروريًّا؛ يمكننا أن نبين في الشيء الصغير على نحو أكثر ممَّا نبين عليه في شيء كبير، ولذا فإنَّ أوكاكورا كاكوزو مؤلِّف الكتاب يسخر من أولئك الذين لم يفهموا تمثــُّل القيم في التفاصيل الصغيرة، فرأوا أن اليابانيين يثيرون “عاصفة في كوب من الشاي”(1)، بينما يبدو الشاي – بالنسبة إليه – أكثر التصاقًا بقيم شعوب الشرق، وأكثر تمثيلاً لها منذ ارتفع من كونه عشبة طبيَّة إلى “مملكة الشعر”(2)، (الشاي) هذا العادي الذي يمرُّ عفوًا فوق طاولات إفطارنا اليومي، وفي ساعات المساء، و في لحظات التقائنا يحمله الكاتب إلينا عبر فسحة تأمليَّة، ومن خلال لغة شعريَّة متأنقة تحوِّله من مادة لها ثقلها التجاري، وهويِّتها الشيئيَّة المصنـَّفة في قوائم علماء الطبيعة، ومختبرات العناصر الحيوية إلى مادة حاوية للمعنى، إلى هويَّة، ووجود لا يقف عند حدود المتعة الحسيَّة لمشروب شعبي ورائج، بل يصل إلى حدِّ أن يفرج عن كلِّ المعنى الذي تختزله تفاصيل (لحظة الشاي) في الثقافة اليابانية.
إنَّ الاحتفال بالتفاصيل الصغيرة في الحياة هو فنُّ إعادة اكتشاف الحياة، يشبه الأمر في هذا الجانب تحوُّل القصيدة العربيَّة في مرحلة من تاريخها إلى تفاصيل الحياة اليوميَّة؛ حيث يعلِّل فخري صالح قوة تأثير الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس في قصيدة السبعينيَّات العربيَّة، ويعيده إلى إرهاق القصيدة بالموضوعات الكبرى وإهمالها لتفاصيل الحياة اليوميَّة: هذه الأخيرة التي تبدو أكثر مساسًا بالإنسان، وأكثر تمثيلاً لمشاعره؛ فهي الانعكاس الصادق للقيم الكبرى.(3)
الشاي (كوب الإنسانية):
لا يتعلَّق الأمر بالشاي المشروب الذي دخل إلى عالم الشعر، بل بكلِّ ما يحيط بلحظة الشاي: تفكيك العملية العادية من أجل الوصول إلى عمقها المعنوي.
ويسعنا حينئذٍ أن نرى: كيف أسبغت الثقافة اليابانيَّة على الشاي كلَّ هذا المعنى، وصار يؤشِّر هو: الأوراق المجفـَّفة الهشَّة إلى مفاهيم عميقة في عقائد شعوب الشرق: التاويَّة، ومذهب الزن، وكيف تحوَّل هو ذاته إلى مذهب (الشايية)، أو علم جمال الشاي: الذي يحتفي بالجمال، والنقاء، والصفاء، والتناغم، والانسجام، والتقشُّف، والبساطة، وتقبُّل الحياة كما هي، وعلى نحوٍ يبدو غريبًا فإنه يمجِّد فكرة النقصان، وكما يرى المؤلِّف فإنَّ علم جمال الشاي “هو الشكل المقنـَّع للتاويَّة”(4).
إنَّ سرَّ العناية بالسلوك، والتفاصيل التي تحيط بـ(لحظة الشاي) يرجع – بحسب الكاتب – إلى “أنَّ الحياة هي تعبير. وأفعالنا غير الواعية ما هي إلاَّ فضح مستمرٌّ عن أعمق أفكارنا”(5)، نحن واضحون أكثر حين لا نتعمَّد، حين نفعل الشيء بحكم العادة دون تصنـُّع أو ادِّعاء، وكثير من عاداتنا، وتفاصيل حياتنا التي تبدو عفويَّة، وبسيطة هي في الحقيقة ما نحن عليه، علينا أن نعيد مراقبتها كي نستلَّ منها هويتنا، ففي الحركات، والإيماءات يكمن المعنى، وأستعير هنا عبارة المؤلِّف لأقول إنـَّها الشكل المقنـَّع لأفكارنا!.
حجرة الشاي:
يبدو غريبًا أن تسمَّى حجرة الشاي اليابانيَّة: (سوكية – Sukiya) أي (مسكن الوهم)(6)!
إنَّ الماديَّ قابل للزوال، والجسد مؤكَّد الفناء، ألا يجب أن يكون الحاوي لهذا الفاني فانيًّا هو أيضًا؟
إنَّ “البيت مجرَّد ملاذٍ مؤقت للجسد”(7): تغذِّي هذه الفكرة الجانب الهندسي في بناء حجرة الشاي، فتبنى على احتمال الزوال، لا ترسِّخ قواعدها، ولا يُتكلَّف في تثبيت الجدران فيها، على المكان أن يذكِّر دائمًا بحالة الفناء، والوجود المؤقــَّت؛ ففي نهاية الأمر يجب أن تتفوَّق الروح على المادة!
ومع بساطة عناصر التشييد وقابليتها للزوال فإنَّ الحجرة ذاتها تبدو خالية من عناصر الزينة، لا بدَّ من إحداث قدر مناسب من الفراغ يسمح للمخيلة بالعمل، يحمل الكاتب على الثقافة الغربيَّة المزدحمة، تلك التي تغصُّ الغرف فيها بالتزيين، ومظاهر البهرجة كما لو كان الأمر “عرضًا مبتذلاً للثروة”(8)، هذا الازدحام يكاد يفقد المخيلة وعيها! إنَّ الفراغ في المكان – على هذا النحو – زهدٌ ماديٌّ إلاَّ أنــَّه ينطوي على كثير من السرف في المعنى، إنَّ الاحتمالات الممكنة، والنقص الذي يلحُّ على العقل من أجل استكماله هما حرَّاثتا الخيال كي ينبت صوره الخاصَّة، ويسرح في المساحات الفارغة، وما هو برسم التعبئة، والامتلاء.
علينا أن نتذكَّر أنَّ التخمة كانت دومًا عدوًّا للتفكير تمامًا كما أنَّ الامتلاء في المكان قيدٌ لجموح الخيال فيه، كانت العرب تقول: “إنَّ البـِطْنة تُذهب الفِطنة”، وفي الحديث الشريف: “ما ملأ آدميٌّ وعاء شرًّا من بطن. حسب الآدمي لقيمات يقمن صُلبه. فإن غلبت الآدميَّ نفسه فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس”(9) على الجسد أن يحتفظ بقدرٍ من توازن العناصر كي يحافظ على انسجامه، وأيُّ انسجام يمكن أن يحقـِّقه الإنسان أكثر من التفكير، هذا الذي لا يحدث مع الامتلاء والتخمة؟.
وهكذا فإنَّ العناصر الماديَّة محدودة جدًّا في حجرة الشاي اليابانيَّة، إنـَّها تقتصر ما يمكن استعماله، وما يمكن جلبه من عناصر الطبيعة كي يتحقَّق الانسجام المطلوب، لا يقوم الأمر على تكديس العناصر بل على جلب القدر المناسب منها، القدر الذي يأخذ موضعه المريح في الفراغ: دون ازدحام يصنع التشتــُّت، أو يحول دون القدرة على التأمُّل، وجموح الخيال.
تبدو فكرة (النقصان) فكرة غير مقبولة، لكنَّ فلسفة حجرة الشاي اليابانيَّة تقوم على رفض أشكال الاكتمال: التناظر، والتساوي، إذ تبدو هذه الأشكال مغلقة، بينما تلحُّ مبادئ الزنِّ التي تنحدر منها فلسفة الشاي الجماليَّة على أنَّ “قوَّة الحياة والفنِّ تكمن في احتمالات النموِّ”(10)، والأشياء الناقصة، وغير المكتملة هي التي تفسح المكان لوقوع هذه الاحتمالات، ولذا يجري توزيع عناصر الحجرة بشكلٍ لا يسمح بوجود تساوٍ، أو تناظر تتحقـَّق به فكرة الاكتمال.
إنَّ حجرة الشاي أنشئت في الأصل كي تكون “ملاذًا من سموم العالم الخارجي”(11)، فكانت البساطة التي قامت عليها هي الضمان في أن يقوم هذا الملاذ بدوره على الوجه الأكمل.
__________
الهوامش:
(1) كتاب الشاي، أوكاكورا كاكوزو، تقديم وترجمة: سامر أبو هواش، مشروع كلمة للترجمة – هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، ط1، 1430هـ–2009م. ص11.
(2) نفسه ص10.
(3) شعريَّة التفاصيل: أثر ريتسوس في الشعر العربي المعاصر – دراسة ومختارات، فخري صالح. الدار العربية للعلوم،ط1، 1430هـ-2009م. ص15.
(4) كتاب الشاي ص35.
(5) نفسه ص24-25.
(6) نفسه ص52.
(7) نفسه ص60.
(8) نفسه ص61.
(9) رواه ابن ماجة.
(10) كتاب الشاي ص62.
(11) نفسه ص64.