نجوم الغانم
“خراف” هو الفيلم الطويل الثاني للكاتب والمخرج الآيسلندي غريمر هاكونارسون الذي عرض في قسم آن سيرتين ريغارد بمهرجان كان السينمائي الدولي هذا العام وفاز بأعلى جائزة فيه، وقد تم عرضه مؤخراً خارج المسابقة الرسمية في مهرجان كارلوڤي ڤاري بجمهورية التشيك، ومع ذلك فقد كان الإقبال عليه كبيرا الأمر الذي جعله في مصاف الأفلام الأكثر شعبية في المهرجان.
جاء إعجاب الناس به بسبب روح الكوميديا التي سادت أجواءه الباردة حيث الثلج يشكل الرداء الأشمل لمعظم اللقطات الخارجية وأيضاً مصدر جمالها الباهر إضافة إلى قصته الإنسانية غير العادية.
منذ البداية يمكن تصوّر المهمة الشاقة التي يتصدى لها كاتب السيناريو والذي يلعب دور المخرج أيضاً في جعل المُشاهد يتقبل الإيقاع المتأني لحياة رجلين فوق الستين من عمرهما، غير متزوجين، ويعيشان حياة منفردة ووحيدة. أما حياتهما فهي تتمحور حول قطعان الخراف التي ورثوها عن أجدادهما والتي تحولت إلى أغلى ما يملكان في الحياة ومصدر سعادتهما وفخرهما على السواء.
مع ذلك فإن هذا الفيلم الذي يخلو من المقومات السائدة والمضمونة للنجاح التجاري كالإثارة والجنس أو العنف، يتسلل تدريجياً إلى النفس وبشكل مؤثر تاركاً في الوجدان مساحة تتسع لآهة طويلة تأتي قسرياً خاصة بعد مشاهدة آخر لقطة منه.
أما منظر الثلج فيه فهو بالإضافة إلى أنه يعكس البيئة الطبيعية الآيسلندية إلا أنه أيضا يعتبر الخلفية المحايدة للقطات التي تقتسم الفضاءات والحالات النفسية وردود الأفعال مثل الغضب والصرخات والصمت، إنه فيلم ساخر ولكن بطريقة أفلام الكوميديا السوداء التي تستفز الضحك الممتزج بالمرارة وربما العكس.
خصومة شقيقين
تدور القصة حول الشقيقين جَمي وكيدي للذين يتجاوز خصامهما الأربعين عاماً رغم أنهما يعيشان في بيتين تفصلهما مسافة أمتار قليلة عن بعضهما. وهما يمضيان السنة برمتها في رعاية الخراف وإطعامها والاهتمام بمضاعفة عددها وإنتاج الأجمل منها للمشاركة في المسابقة السنوية لأفضل الأكباش وعادة ما تكون الجوائز الأولى من نصيب أحدهما.
وفي آخر مسابقة يشتركان فيها يفوز خروف كيدي مما يثير شكوك جَمي الذي يتسلل بعد التتويج لفحص الخروف للتأكد من أمر ما. حين يخبر السلطات بمخاوفه من أن الخروف الفائز قد يكون مصاباً بأحد الأمراض المعدية لا يخطر بباله العواقب التي ستؤدي إليها شكواه.
وبعد قيام اللجنة المكلفة بالفحص يُكتشف إصابة الخروف بالسكرابي وهو أحد الأمراض المعدية والفتاكة التي تصيب الجهاز العصبي للحيوانات وتجعلهم يفقدون توازنهم.
وهكذا يتقرر إبادة جميع خرفان المنطقة منعاً لانتقال الوباء إذ من الممكن أن يقضي على ثروة حيوانية كاملة إذا لم تتم السيطرة عليه.
يؤدي ذلك إلى حنق كيدي الذي يعرف أن أخاه هو من وشى عليه ونتيجة تعلقه بخرافه يُصاب بحالة هستيرية وكآبة تتفاقم إلى درجة اعتدائه على بيت شقيقه وتكسير زجاج إحدى نوافذه انتقاماً منه، ويعبّر عن سخطه بالتعليق بشكل غاضب عن عدم قدرته على تخيل قضاء الشتاء الطويل من دون قطيع يتسلى برعايته.
جَمي، الشقيق، هو أيضاً عاشق لقطيعه ويشعر بالأسى بسبب قرار الهيئة البيطرية الذي يقضي بقتل جميع الخرفان لكنه يتدبر أمره بدهاء وتكتم. وبينما يعبّر كيدي عن غضبه وحزنه بصخب وذلك بالإقبال على شرب الكحول والشجار مع أخيه، يَظهَر جَمي أمام السلطات الرسمية على أنه الأكثر تجاوباً وخاصة حين يتعلق الأمر بتطبيق مرسوم إبادة المواشي.
ليس فقط ذلك وإنما يضعهم أمام الأمر الواقع حين يقوم بذبح قطيعه بيديه وبصورة وحشية محولاً إسطبله إلى مقبرة خراف ستصيبهم هم أيضاً بالذهول لتصرفه الفردي المبكر دون أخذ الإذن منهم أو انتظار مساعدتهم.هذا التصرف ستتبين أسبابه فيما بعد وبشكل ساخر.
كلب الرسائل
يُلاحَظ على جَمي على سبيل المثال تحاشيه استقبال أي شخص في بيته وحين يزوره أحدهم فإنه لا يبادر بالقيام بواجبات الضيافة. وهناك أصوات غريبة تصدر من الطابق السفلي في البيت متبوعة بمحاولات متكتمة من جَمي لإبقاء الأمر سراً.
كيدي الحزين، من جهة أخرى، يعلن احتجاجه وامتناعه عن التجاوب مع الهيئة البيطرية بإهمال كل شيء حوله والانغماس في تعاطي الكحول وكأنه في حداد.
ويتخاطب الشقيقان مع بعضهما بوساطة إرسال الرسائل من خلال كلب أحدهما حتى لا يكسرا حاجز الصمت الذي بلغ الأربعين عاماً. هذه الوسيلة بحد ذاتها تضفي جواً ساخراً إضافياً رغم الجدية العالية التي تطبع تصرفاتهما وتبدو على وجهيهما.
تضطرهما الظروف القسرية للتقارب بشكل تدريجي، وأول تلك الظروف عندما يأتي رجل إلى باب جَمي ويخبره أن شقيقه قد فقد وعيه وهو ملقى في العراء على الثلج. ولأن جَمي لا يستطيع حمله بسبب وزنه الزائد وكبر حجمه فإنه يحل الأمر بتحميله في عربة نقل من تلك التي تُستخدم في البناء ونقله في الليل إلى قسم الطوارئ حيث يُنزله برافعة العربة أمام باب المستشفى ويعود أدراجه وكأنه أدى الواجب الذي كان منتظراً منه تجاه أخيه.
مشهد كيدي وهو محمول في رافعة عربة النقل الثقيلة وقيادته أثناء الليل في الشارع المغطى بالثلج يثير الضحك رغم مأساوية الحادثة.
وفي مرة أخرى سيُحضره شخص آخر وهو في حالة مزرية بسبب السُكر الشديد وملابسه رثة ومبللة بسبب السقوط في الثلج. وما أن تطأ أقدامه عتبة بيت شقيقه حتى يفقد وعيه. يضطر جَمي لتجريده من ملابسه المتسخة ووضعه في حوض الحمام الساخن وسينام كيدي في الحوض نفسه وعندما يستيقظ يكتشف سراً قد خبأه جَمي عن الجميع.
يفيق كيدي من نومه على صوت ضوضاء غير عادية في السرداب فيشك بأمر ما وعندما يذهب ليتفقد مصدر الضوضاء يُفاجأ بوجود مجموعة من الخراف مخبأة هناك ويتضح له أن أخاه قد أعد لها بيئة دافئة مما ساهم في جعلها تبدأ بالتزاوج في هذا المكان الصغير.
بمجرد رؤية كيدي للخراف تدب فيه الحياة وينتابه الفرح الغامر وعلى الفور يتضامن مع شقيقه ويبدأ بسؤاله عن عددها. أما جَمي فيجيب بحزم من أن هذه خرافه وعلى كيدي أن يبقى بعيداً عنها.
إلا أن الأمر يُكتشف حين يشك أحد العاملين في الهيئة البيطرية أثناء زيارة تفقدية بوجود مخبأ لخراف تُركت على قيد الحياة في منزل جَمي. حينها فقط تتوحد جهود الشقيقين في إنقاذ الخراف إذ يُبادر كيدي بتقديم خدماته لمساعدة أخيه ويحاولان معاً تهريب الخراف أثناء الليل.
تنتهي مطاردة فريق الهيئة للشقيقين والقطيع المتبقي من الخراف للضياع في صحراء واسعة من الثلج حيث تختفي الخراف أثناء عاصفة ثلجية ويسقط جَمي مغشياً عليه بسبب البرد الشديد.
كوميديا ملطفة
العمل على الأسلوب الكوميدي يتجلى في العديد من اللحظات الساخرة التي حين تأتي تكون ذات وقع خاص يُلطف من الحضور الذكوري الطاغي والمهيمن على كل من الصورة والمضمون لهذين الرجلين المتقدمين في السن.
تشمل السخرية على سبيل المثال الطريقة المشعثة لشخصيتي كيدي وجَمي سواء في اختيارهما لملابسهما التي تبدو خارج الزمن أو المظهر الخارجي المتمثل في الشعر واللحية المتروكين بإهمال واللذان يدلان على مسألتين: الأولى غياب الأنثى من حياتهما والثانية تحول مظهرهما إلى شكل أشبه بالأكباش الآيسلندية ذات الفراء الطويل والغزير. وكأنهما مع مرور الزمن قد أصبحا يشبهان خرافهما في الشكل والتصرفات، فهما صامتان وعنيدان وبدائيان.
إن الكاتب/ المخرج غريمر هاكونارسون الذي يعتني بصياغة فيلمه من نص أولاً ثم يحوله بإتقان إلى وثيقة بصرية غاية في الشفافية والجمال والمستوى الفني الراقي من التناول يتركنا أمام تجربة سينمائية مختلفة تعكس عالمه وجزءاً من ذاكرته الخاصة المرتبطة بطفولته والمكان الذي نشأ فيه. وعلى الرغم من صعوبة تقبّل الشخصيات بسبب صلافتها في بداية الأمر إلا أنه يدير عواطف المشاهدين بذكاء فذ ويحبس أنفاسهم بدهاء ويجعلهم متواطئين معها حين تحين أدنى فرصة لاختبار العواطف.
أما الجوانب البصرية فهي مبنية بدرجة تجعل رؤية المساحات البيضاء الممتدة والتي يكسوها الثلج محتملة بسبب الجمال الخارق لتكوينات الصورة وعمقها الإنساني والفني.
تُعتبر نهاية الفيلم واحدة من أجمل الحلول السينمائية التي يُمكن أن تكون خاتمة مذهلة لحكاية هذين الشقيقين الوحشيين والقاسيين عندما يكونان في مواجهة الموت، يسقط أمام الخوف على الآخر الكبرياء وعزة النفس وينتهي الغضب العتيق.
يتحول كيدي إلى طفل وكأنه جُرح عاطفياً حين يرى شقيقه فاقداً للوعي وينتابه الارتباك والتشوش في الليل الحالك وهاهما محاطان بالثلوج من كل اتجاه دون أن يعرف كيف عليه أن يتصرف. فيحفر نفقاً ليحمي أخاه من العاصفة ويزيل عن شقيقه ثيابه ثم يفعل هو الأمر نفسه ويحتضن أخاه بقوة وكأنه يريد أن يُعيد له الحياة بدفء جسده العاري وما زال يبكي حتى تتلاشى الصورة إلى السواد تاركاً الكثير من الأسئلة وشحنة عالية من التعاطف مع هذه اللحظة الرهيبة.
——-
الاتحاد