محمد أبو عرب
ظل أصدقاء الشاعر الراحل محمود درويش يرون وهم يسردون حكاية عزلته، أنه شاعر يعرف ما الذي يعنيه الوقت، فكان يستقظ مبكراً، يصنع قهوته، يشربها وهو يطل من شرفة بيته، ثم يرتدي ملابسه ويتأنق كأنه ذاهب إلى موعد غرامي، ويبدأ عمله مثل نحات، ويجلس على مكتبه، ويبدأ مشواراً طويلاً من الكتابة والقراءة، وكان الكتاب الذي لا يفارق مكتبه ولا يتوقف عن الرجوع إليه هو «لسان العرب»، فيغرق في المفردات وحكايتها حتى صار كل هذه القامة الشعرية العالية.
إنها بلا شك القراءة، تلك المهارة التي تشبه النصل الذي عليك أن تشحذه ليشذب معنى الأشياء في رأسك، فكما يقول الروائي التونسي كمال الرياحي في حديثه عن طقوس الكتابة لديه: «إن الكتابة تشبه رياضة الملاكمة، وهي الجولة العاشرة على الحلبة بعد تسع جولات منهكة من القراءة».
وصل الكتّاب إلى تلك النتيجة مبكراً، فكانت العرب تقول لمن أراد ان يجيد كتابة الشعر، إذهب وأحفظ ألف بيت شعر، ثم أذهب وانساها، وظل المثل الصيني «اقرأ ألف كتاب وسيتدفق منك الكلام مثل نهر» يدل الكتّاب إلى طرائق التعامل مع المفردات والكلمات.
لذلك تبدو سيرة القراءة سيرة موازية للكتابة، فكما ينتقي الكتّاب أقلامهم، وأنواع الأحبار، أو حتى المقاعد الوثيرة، والعزلة اللازمة لكتابة مؤلفاتهم، يعيشون طقوساً للقراءة، تشبه إلى حد بعيد التوحد مع فكرة الكتاب والغرق في عالم يصبح فيه الإنسان ليس قارئاً بقدر ما هو شخصية تمشي بين المفردات، وتبحث عن الحقيقة في المتن، فتبعد الفائض من الكلام، وتغرق في جماليات اللغة، وتبكي إذا لزم الأمر، وقد تضحك، وقد تغني، وقد تدهش، وقد ترمي الكتاب على طول يدها من النافذة.
إنها طقوس الدخول إلى عوالم جديدة، حياة كاملة موازية لسيرة أعمارنا، فالكثير من القراء ينسون أنفسم في عوالم الكتّب، ويعيشون فيها ساعات طويلة، ليجدوا أنفسهم في نهاية الكتاب أمام جملة تقول: «انتهى»، فيستيقظون وكأنهم كانوا يعيشون حلماً هم الأبطال فيه.
لهذا تتنوع طقوس القراءة وتتفاوت بين القراء، وتكاد تشبه إلى حد بعيد طقوس الكتابة لدى الروائيين والمفكرين، فكما ينتقي الكاتب مكانه المفضل للكتابة، والوقت الذي يعكف فيه على أوراقه، يختار القراء الشغوفون طقوسهم، فمنهم لا تحلو له القراءة إلا بعد منتصف الليل وفي عزلة كاملة يشح فيها الضوء، وكأنهم بذلك يتعاملون مع الكتب بوصفها باباً يفضي إلى عالم آخر، لا يريدون لأحد أن يقطعهم عنه، أو يخرجهم منه.
ومنهم من يهوى القراءة في القطارات والمواصلات العامة، حيث تقطع المسافات الطويلة، فلا يلجأ إلى الكتاب بوصفه عالماً بقدر ما يلجأ إليه بوصفه حالة عصية على الزمن خارجة عن حدوده، إذ فيها لا يعود للزمن سيرته الملولة وانتظاره الطويل، وكأنه يختصر المسافة بعيداً عن الوقت الذي يمضيه الراكبون العاديون.
وهناك نوع من القراء يذهبون إلى المقاهي لا لشرب القهوة والحديث مع الأصدقاء وقضاء وقت من المتعة، وإنما فقط للقراءة، إذ يحبون الضوضاء الطفيفة التي تحدثها جلبة المقهى، والهدوء المفتعل التي يحدثه الكتاب ما أن يشرع القارىء في تقليب صفحاته، فلا تصبح القراءة في هذه الحالة زمناً أو عزلة، بقدر ما هي تجاوز للواقع وحركته، وانفصال عن الحركة والفضاء المحيط، فيصبح الكتاب أشبه بكبسولة فضائية تقذف القارئ إلى عالم خارج حدود الكون.
مقابل هذه العوالم المألوفة يظهر للقراء عادات غريبة، لا يمكن حصرها، فمنهم من لا يفارق القلم يده، ويظل طوال مشوار القراءة يخط، ويؤشر على ما يشده ويعجبه من جمل، وكأنه بذلك يمارس دور المحرر، والمنقب الذي يحفر في صلب الكتاب للوصول إلى فلتاته وجمله الأكثر اشعاعاً، فيصبح الكتاب بين يديه مجرد صفحات ممتلئة بالإشارات، والخطوط، والعلامات، والملاحظات الهامشية، وغيرها.
يحدث هذا كثيراً مع القراء المشاكسين، إذ يخلقون بذلك حالة تفاعل مع النص المكتوب ويتحول الكتاب إلى كتلة معرفية حية، قابلة للنقاش، والخلاف، والمعارضة، والموافقة، فلا يظل كما يتعامل معه الكثير من القراء، مجرد وعاء معرفي يقدم المعلومة والمتعة وحسب.
إلى جانب هذا النوع من القراء، يظهر قراء من النوع الأكثر عبثاً، ومجازفة، فيبدون وهم يقرأون الكتب وكأنهم يأكلونها، إذ يهترئ الكتاب بين أيديهم، وتثنى صفحاته، وتظهر عليه علامات التعب، فما ان يصل القارئ إلى نهايته حتى يأخذ الكتاب نفساً عميقاً ويرتاح، فالكتاب بالنسبة لهؤلاء يُقرأ لمرة واحدة، ولا يشعرون بلذة الانتهاء منه من دون ذلك الأثر البالغ على صفحاته، وغلافه.
سيرة القراءة لا تتوقف عن العلاقة التي ينتجها القراء مع الكتاب، فهي تتنوع وتختلف باختلاف القراء، وتنوع مرجعياتهم الذهنية، حتى باختلاف الكتب أنفسها، إذ بعض الكتب تتطلب نوعاً من القراءة العنيفة، وأخرى الهادئة المسالمة، وغيرها الرائقة المنتقاة، المتأنية كما هي المجموعات الشعرية، فلا يمكن المقارنة بين قراءة كتاب شعري لشاعر فرنسي من عصر الباروك، بكتاب في الفلسفة الوجودية.
إضافة إلى ذلك تفرض القراءة حالة متكاملة لا تتوقف عند الكتاب ومقعد الجلوس ومكان القراءة وحسب، بل تمتد إلى نوع الثياب التي يرتديها القارىء عند إقدامه على كتاب جديد، ونوع المشروبات التي يحتسيها، ولون الضوء في الغرفة أو المكان، وحتى نوع الأقلام التي يستخدمها، وربما الموسيقى التي ترافقه في مشوار القراءة.
يؤكد ذلك ما ترويه سير الكثير من الكتاب والمبدعين، فالفنان الإسباني بابلو بيكاسو على الرغم من قراءته الانتقائية إلا أنه كان يمر على الكتب مثلما يمر على كل شيء عدا اللوحة، على عجل، يتصفحه وهو يرتدي ملابسه الخفيفة، ويداعب الطيور التي كان يربيها في بيته وعلى رأسها البوم البري.
لهذا ترتبط القراءة بشخصية القارىء ذاته، ومزاجه في ممارسة شغفه، إذ قد يفضل المشروبات الساخنة مع القراءة، وارتداء ملابس البيت المريحة، وهو بذلك ينساق إلى الصورة النمطية التي ظلت تقدمها السينما الغربية في تقديم صورة الفرد الغربي القارئ، ومنهم من لا يعتني بكل ما حوله، وقد يقرأ حتى وهو يستلقي تحت شجرة، أو وهو على شاطئ البحر، أو حتى وهو يمارس تمارين الرياضة الصباحية.
طقوس وعوالم القراءة لا يمكن حصرها، تتنوع وتتراكم بعدد القراء في العالم، إلا أن منها ما يظل غريباً فريداً وعجيباً حد الدهشة، إذ تروي سيرة الروائي اللبناني أمين معلوف، أنه كثيراً ما يغرق في القراءة البحثية التي تنصب في إطار اشتغاله على روايته التاريخية، فلا تبدو القراءة لديه متعةً للتسلية وتذوق جماليات النصوص الإبداعية بقدر ما تبدو منتقاة ومختارة لخدمة نصه الروائي، وهذا ما تكشفه سيرة الروائي السوري نبيل سليمان.
ستظل للقراءة جمالياتها، وللكتاب شغفه الذي ينتشلنا من راهننا إلى ما لا يمكن وصفه، وستظل عوالم القراءة تتنوع بقدر القراء في العالم كله، فهي جميلة سواء كانت على حافة شجرة في الأدغال الإفريقية، أو أمام حقول الأرز في سهول الصين الشاسعة، أو على ضفاف نهر متجمد في إحدى البلاد الأوروبية.
———
الخليج الثقافي