في سيرة ليفي ـ ستراوس: ما من ثقافة دونية لأخرى


بول شاوول


910 صفحات مساحة السيرة التي كتبتها المؤرخة إيمانويل لوييه (عن دار فلاماريون، باريس)، عن الإنتروبولوجي الفرنسي الكبير ليفي ستراوس. خطوة وعرة، عبرتها، مسلحة بعمل دؤوب، على مخطوطات ستراوس، ورسائله، وصوره، ورسومه، وملاحظاته، وكتبه، وعائلته، ومساره الطويل (توفي عن مئة عام وعام). إنه شاعر الأعراق، والشعوب الخلفية، والهامشية، ذات العادات والتقاليد البدائية. عمل ميداني، أكاديمي، عرفت المؤرخة كيف تجمع بين السيرة والمعلومة والتاريخ، وبين نضارة الأسلوب، مما شكل جاذبية كبيرة للقارئ، الذي كان يمكن أن يصيبه الملل، أو التبرّم، وهو يتصفح كتاباً من ألف صفحة. فالأسلوب الدقيق والمتنوع في شعاب ستراوس، وفي «أدغاله»، وفي تحولاته، وفي نكساته ومغامراته، ومن ثم بتكريسه رحلة تحتاج إلى مجالدة، وشغف، وقوة، ومرونة، ومعرفة.

فحياة ليفي ستراوس، لم تكن كلها في المدن والمقاهي والجامعات، والشوارع السهلة، بل اخترقت عوالم جديدة، واكتشافات مذهلة. وهذا انعكس على أعماله البحثية، وميادينه، ورؤيته، وصوغه للمعطيات، بالوسائل كافة، الكتابية، والتحليلية، والاستقرائية. إذاً كان على المؤلفة أن تداخل كل هذه الفضاءات المتعددة، لصوغ سيرة، هي بعض نواحيها، اكتشاف لهذه الشخصية الثقافية الفذة في فرنسا والعالم.
 ولد ستراوس عام 1908، من عائلة برجوازية ألزاسية اتخذ مهنة أستاذ فلسفة ومناضل اشتراكي، إلى أن بدت له طريق أخرى عام 1934: وظيفة مدرس في جامعة ساو باولو في البرازيل. وقد تأثر في بداياته بالسوريالية، لكنه نحا منحى آخر باهتمامه بالأنتولوجيا، التي كان يمثلها آنئذ في فرنسا ألفريد ميترو، وبجانبه متحف الإنسان، وكان بدأ التداول في تلك المرحلة عن «الذهنية البدائية» وظهر اهتمام في وصف الحياة المتوحشة التي كان يعيشها أناس عراة ليس لديهم أي اتصال بالحضارة الغربية.
 تتابع المؤرخة بتؤدة، وعن قرب، وبتفاصيل معروفة، ومجهولة، حياته، ومراحله، بتلك الدقة «الحية» لا الجرداء ولا الجافة، منذ طفولته وحتى رحيله. وتتوقف عند دراساته الأولى في ليسيه جاسون دي سايلي، ثم في ليسيه كوندورسي. ويلتقي في نهاية سنوات الدراسة شاباً اشتراكياً من حزب بلجيكي، فينخرط في اليسار، ويكتشف بسرعة المرجعيات الادبية لهذا الحزب الذي كان مجهولاً، حتى تلك اللحظة، منه، جامعاً ماركس وكارل كوتسكي، ثم صار مناضلاً في الفرع الفرنسي «للأممية العمالية» مكلفاً تحريك «فرق الدراسات الاشتراكية». وفي عام 1928، يصبح أميناً برلمانياً للنائب جورج موني.
 يتزوج من دينا دريفوس عام 1932، عالمة اثنولوجية وأقنعته بالانخراط في هذا السلوك، هو الذي كان على وشك اتخاذ وظيفة سياسية على غرار كثير من الشخصيات التي عرفها في تلك السنوات. وتزوج مرة أخرى من روز ماري اولمو 1946، ثم وللمرة الثالثة يتزوج من مونيك ردمان.
تروي المؤرخة أن ستراوس بعد عامين من التعليم في ليسيه فكتور دوري وليسيه لاون، اتصل به مدير مدرسة الدراسات العليا سيليستين بوغليه، ليقترح عليه أن يصبح عضواً في البعثة الجامعية في البرازيل، بصفته أستاذ علم الاجتماع في جامعة ساوباولو، حيث يدرس ما بين 1935 و1938. ضربة تلفون قررت نزعته الاثنوغرافية، كما نشر في كتابه «Tristes Tropiques». فمن 1935 إلى 1939، ينظم مع زوجته الأولى دينا، ذات التكوين الاثنولوجي، عدة مهمات اثنوغرافية في ماتو غروستو، وفي الأمازون. ومد ستراوس، عندها، كما تقول المؤرخة، جسراً بين علم التحليل النفسي والماركسية من ناحية، والجيولوجيا من ناحية أخرى، وكأنه وجد العلم الذي تتزاوج فيه كل النزعات السابقة.
 في عام 1938، قادته الرحلة الاستكشافية التي يتقدمها وزوجته السابقة دينا، إلى عبور دولة ماتو غروسو. وانطلقا من كيوابا، مدينة قديمة كانت مقصد الباحثين عن الذهب، في سيارة فورد 34. والتقيا هناك نابيكوارا حيث حصلا على وثيقة من 200 صورة. وبسبب التهاب في العيون، اضطر عدد من أعضاء البعثة، ومنهم دينا، إلى ترك البعثة.
وهكذا تعود دينا إلى ساو باولو ثم إلى باريس. وانفصل الثنائي عام 1939. أما ليفي ستراوس فقد تابع رحلة الاكتشاف مع بعض مرافقيه، فزاروا شعوب ماندي، وتوبي كواهيب في دولة روندونا. وأمنت كل هذه الشعوب لليفي ستراوس جمع المواد الأولية التي ستكون أساس رسالته «البنى الأولية للقربى»، والتي نوقشت عام 1949.
ولدى عودته إلى فرنسا عشية الحرب العالمية الثانية، خضع للاستنفار ما بين 1939 و1940 على خط ماجينو كعميل ارتباط، ثم التحق بليسيه مونوبيليه، بعد إعفائه من مهمته عام 1940، بسبب القوانين العنصرية لفيشي.
ويغادر فرنسا عام 1941 ليلجأ إلى نيويورك، حيث كانت تتمتع بحركة ثقافية كبيرة. وفي عام 1942، ينضم إلى «فرنسا الحرة»، حركة المقاومة الخارجية التي أسسها الجنرال ديغول، كمذيع في دائرة الإعلام والحرية، ثم يدرس في مدرسة نيويورك للبحث الاجتماعي. وهناك التقى رومان ياكوبسون، الذي تابع محاضراته ويصبح مقرباً منه وحاسماً في الأمور الثقافية. وقد وفر له العالم اللغوي ياكوبسون العناصر النظرية التي كان يفتقدها، في عمله الاثنولوجي حول «نظم القربى».
تطوع في القوات الفرنسية الحرة وشارك في البعثة العلمية الفرنسية في الولايات المتحدة. وينشئ مع هنري فوسينيون وجاك مارتيان وجان بيران المدرسة الحرة العليا للأبحاث في نيويورك عام 1942.
وفي عام 1944، استدعي ستراوس من قبل وزير الخارجية الفرنسية، ليعود إلى الولايات المتحدة عام 1945 ليحتل منصب مستشار ثقافي لسفارة فرنسا.. لكنه ما يلبث بعد ثلاث سنوات (1948) أن استقال ليتفرغ لعمله العلمي. وهكذا نشر عام 1949 رسالته الجامعية «البنى الأولوية للقربى». وفي هذا العام نفسه، يصبح مديراً مساعداً لمتحف «الإنسان» ثم يحصل على كرسي الدراسات في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا.
ضمن هذا الزخم في الإنتاج ينشر عام 1955 كتاب الأيسر والأشهر «Tristes Tropiques». هذا الكتاب يجمع بين السيرة الذاتية والتأمل الفلسفي والشهادة الاثنوغرافية وقد استقبل كتاب ومفكرون الكتاب بترحيب كبير مثل ريمون ارون وموريس بلانشو وجورج باتاي وميشال ليريس. ومع نشر مجموعته الانتروبولوجية البنيوية عام 1958، يقدم أسس عمله النظري في إطار دراسته الشعوب الأولى وأساطيرهم.
لكن عام 1959، اختير أستاذاً في «الكوليج دي فرنس» في كرسي الانتروبولوجيا الاجتماعية. لكن أحد أساتذة الجامعة جورج غورفيتش لم يتقبل هذا الاختيار. وفي عام 1961 أنشأ مع إميل نيفنيتسف وبيار غورو مجلة «الإنسان» التي تنفتح على مختلف التيارات الاثنولوجية والانتروبولوجية.
لكن بين 1960 و1970 يكرس عمله ونشاطه وجهده لدراسة الأساطير الاميراندينية. ودراسات الأساطير هذه تثمر عن عدد من الكتب في مجلدات عدة أولها «النيء والمسلوق» (1964)، لكن في هذا الوقت بالذات بدأ بعض المفكرين والمنابر والمجلات ومنها «Les Tents Modernes» بتوجيه انتقادات لفكر ليفي ستراوس. لكن ابتداء من 1970، نشرت كتب مخصصة بأعماله ومنها ما وصفه الانتروبولوجي الألماني إدمون لونش. وقد عمد ستراوس إلى إعطاء مقابلات صحافية في الإذاعات والمجلات والجرائد لتبسط بعض أفكاره، وفي هذا الإطار، وقبل أن تتحول الايكولوجيا (علم البيئة) ايديولوجيا، أعطى ليفي ستراوس بعمقه وبعد نظره نظريته البيئية الراديكالية، وهكذا يعتبر رائداً في المجال البيئي.
ويواصل ليفي ستراوس أبحاثه في الميثولوجيا ويصدر كتباً عدة «الأسطورة ومعانيها» (1978) و«Enfin Histoire de Lynx» (1991).
 تشير المؤلفة إلى أن ستراوس وابتداء من عام 1994 قلّ نشر كتب له.. مع هذا استمر في إعطاء مقاربات قراءة لمجلة «الإنسان» بشكل منتظم. وفي عام 1998، وفي مناسبة ذكرى ميلاده التسعين، كرست مجلة «Critique» عدداً خاصاً به وحفل استقبال في «الكوليج دو فرانس». وفي نيسان من عام 2002 يعطي مجلة «الإنسان» مقدمة حول عدد خاص «بمسألة القربى».
 في العام 2005، وأثناء بعض مقابلاته التلفزيونية الأخيرة، يعلن «ما يتأكد لي، هي الكوارث الحالية؛ اختفاء مرعب للأجناس الحية، سواء كانت نباتية أو الحيوانية، ونظراً لفداحة هذا الواقع، فإن الجنس البشري بات يعيش نوعاً من نظام التسمم الداخلي، وأفكر في الحاضر والعالم الذي عشت فيهما وأنهي أيامي معهما، لم يعد عالماً أحبه».
وفي أيار 2008، جزء من أعماله اختاره ستراوس ينشر في أحد مجلدات «مكتبة البلياد» تحت عنوان «أعمال».
وفي تشرين الثاني، بمناسبة بلوغه المئة عام، نظمت في هذه المناسبة تظاهرات عدة، وهي تظاهرات ثقافية تخللتها احتفالات به في بعض الجامعات، ومنشورات، وكتابات تظهر دوره الكبير.
ويوم الجمعة 30 تشرين الأول من عام 2009، توفي ليفي ستراوس نتيجة نوبة قلبية في منزله في باريس.
 آراء
وقد حييته سيمون دوفوار وساندته مجلة «الأزمنة الحديثة». لم يفهم أحد في الوسط الأكاديمي قدرته على وصف بنى الأنساب، وظاهرة تحريم زواج الأنساب كممر من الطبيعة إلى الثقافة. ويذكر أنه قدم مداخلة في اليونسكو عام 1952 بخطاب ملتهب «عرق وتاريخ» لإعلان حبه للمجتمعات المتوحشة، القريبة من الطبيعة، مؤكداً هكذا أن ما من ثقافة هي دون الأخرى.
وبعد فشلين في «الكولاج دي فرانس» يصوغ خلال أشهر «Les Tristes Tropiques» (1955)، وهو الكتاب الذي جعله مكرساً في النهاية: «أكره الأسفار والاكتشافات»، بحث بروسي أتوبيوغرافي، حزين، ما بين اعترافات روسو و«مذكرات بعد القبر» شاتوبريان، أشارت رودنسكو إلى أن الكاتب ليفي استقبل كلحظة كبيرة للضمير الغربي، عاكساً طريقة الإنسان نذير نفسه، ومستعمر ذاته».
ولم تتردد المؤلفة إيمانويل لوييه في وصف مختلف وجوه حياة وشخصية ليفي ستراوس: العادية، الغذائية، شغفه بالأساطير، طريقة عيشه، حتى عند ارتدائه ملابس الهنود، وتتميز سيرة كلود ليفي ستراوس التي وضعتها إيمانويل لوييه «بكيفية أسلوبها، وتبحرها في تاريخ فرنسا الثقافي، ولكن أيضاً في عودتها إلى أرشيفات ورسائل ليفي ستراوس إلى أهله» (كما يقول الباحث فريدريك كيك). وستصدر هذه الرسائل عن «دار سوي» مع مقدمة لكاتبها، التي أعلن عنها عام 2002، وتمهيد لمونيك ليفي ستراوس، التي اختارت أن تنشرها بعد موت زوجها». ويقول فريدريك كيك «وأبعد من المسار الرسمي (دراسات، أسفار، كتب) التي جمعت تحت عنوان «عزيزي ملاكاً»، تسمح بمعرفة الإنسان نفسه بشكل حميم، ماذا كان يحب، ماذا يأكل؟ ويؤكد كيك «إن كل الجنس والتغذية هما الثابتان التي تسعى البشرية إلى ترتيبها بأنظمة القربى وطرق الطاولات، كلها تتغير، بين هذين النقطتين «زواج القربى وآكلة اللحوم».
والجدير بالذكر مكاتبة ليفي ستراوس أهله يومياً. تظهر أن هؤلاء، بعلاقتهما المتبادلة المريحة، تضمن استمرارية في حياة شغوف متقطعة: عزلة وملل من الخدمة العسكرية، في ستراسبورغ عام 1932، وتكشف حياته البوهيمية في نيويورك بعد انفصاله عن عشيقته دينا وعلاقة أولى بروز ماري، وتخبرنا إيمانويل لوييه «أن أم ليفي ستراوس التي كان يزورها يومياً كانت تستقبل النساء الثلاث اللواتي تزوجهن».
——-
المستقبل

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *