*أحمد الخطيب
( ثقافات )
إلى الشاعر عبد الرزّاق عبد الواحد
___________
في الصباح الذي أتعبَ القلبَ
لم ينهضِ الحلْمُ من غفوتهْ
في الصباحِ المُطاردِ من قهوةِ الريحِ
مرَّ الفتى
واختفى فجأةً
قلتُ أبحثُ عنّي هنا في الزّقاقْ
في الصباح الذي أتعبَ القلبَ…،
في صحوتهْ
هناكَ على غيمةٍ طار منها الحمامُ
ولم يدفعِ السرَّ من سكرتهْ
عاد منتشياً صافياً وجسوراً
صديقي الذي لم أهيئ لهُ ساحة البيتِ
أو ساحة الوقتِ
أو ساحة الظلِّ والأغنياتِ
…عاد من غربةٍ في الشتاتِ
وقالَ: هناك سرى الماءُ مع غيمةٍ
كلُّ أوجاعها سوسنٌ في السّباق
وكانت على البابِ تصطكُّ من وجعٍ طفلةٌ
قلتُ هذي يمامةُ أورادنا يا عراق
فاحتفى بالعرائسِ
قلتُ: إذن افتحِ البابَ هذا أنا
فاحتفى بالرّفاق
واحتفى بالصدى
واهتدى للفيوضِ التي أثّثتها يدُ الماءِ
قال: إذنْ من أنا؟!
قلتُ أنتَ العراق
وأنتَ النبيُّ الذي مرَّ في كلّ وادٍ
فقالَ إذن
كيفما دُرْتُ في نهر دجلةَ
تبقى الرسالةُ مفتوحةً للوفاقْ
هنا الآنَ يستعجبُ القولَ مني العراق
أماري جنون الكلامِ
ولا أطلقُ الماءَ من غيمةٍ في الجوار
على شرفةٍ من جليدٍ
وأهتفُ: يا ريحُ لا تخلعي جثّتي
أنا الآنَ وحدي
بلا شرفةٍ لا نوافذَ فيها
سوى أنّها وردةٌ من دهانِ الشِّقاق
هنا الآن أبدأُ من سلّة الريحِ
هذا السِّباق
على قصعةِ الموتِ كان الفتى واقفاً
والحمامُ على ذمةِ الوقتِ
يستنهضُ القمحَ من عتمةٍ الأرضِ
أو من شقوقِ يدي…
هنا الآن مذياعُ هذي الأخاديدِ
يصدحُ بالرملِ
لا يفتأ الرملُ لحمي
إذن فاهجريني
بلا أيِّ منفى
لأصفى
وأهجرَ شمعَ الخرابِ
وشمعَ الطلاق
كما أنني لستُ أدركُ أيَّ الخياراتِ
كانتْ تفيضُ بأحلامنا
كنتُ أجتثُّ من ثُلُثِ الليلِ هذا الخناق
لأشعلَ في الضوءِ
شمعي المذابَ على جانبيِّ الحياةِ
وأقفلَ صندوقَ عمري
على راحةِ الوجدِ
حتى يعافَ الصّدى راحتي
إنْ تدلّى الصّدى في الصَّداق
وأملي لكلِّ الذينَ تأدّبَ فيهم خيالُ المماتِ
بأنَّ الردى لا حدودَ لأسرارهِ في العناق
لأني شهدتُ الولادةَ عن ظهرِ عينٍ
تخلّى الفؤادُ عن الكحلِ
قلتُ: إذنْ يا نميرَ الشفاهِ أجز حالتي
فالردى والسرابُ هنا لا يطاق
لأني شهدتُ بأنّ العراق عُرى
لاكتشافِ المفاصل عند التهابِ الحديثِ
أقاموا عليَّ الحدودَ
ولا حدَّ لي
فكيف يراقُ النبيذُ الذي لا يراق
حمامُ الخطى
كنَّ فوق الرصيفِ
ولا من شجرْ
فعلّلَ لي قامتي كلُّ هذا المطر
فقلتُ: إذن أستردُّ الخطى
من سياجِ المريدينَ
ولا شيخ لي يا عراق
سوى ما تنزّلَ من رُطبِ النخلِ
كان الإمامُ
وكنتُ أصلي
ولا حاجة لي للنّفاقْ
حمامُ الخطى
في قميص أبي
كان يبكي سنيناً عجافاً
وكان يشدُّ الرِّحالَ إلى ظلِّ ريقي
أبي من تزوّجَ ظلي
وقال اتئدْ يا رفيقي
فكلُّ المرايا تصدُّ عن النبعِ هذا الوفاقْ
أبي من تسلَّلَ فجراً إلى قهوتي
ثمَّ عادَ إلى دمعهِ
واقفاً مثل نخل العراقْ
أبي من رأى في الحقيقةِ رأساً
وفرَّ من الخلوةِ
الظلِّ نحو يدي
واستفاقْ
حمام الخطى يا أبي
…ليس مثل الحمامِ الذي طارَ
من صحن بيتِ الرفاقْ
إذن فانتظرني
لعلَّ يدي مرّةً تنحني فوق كفِّكْ
لتبلغَ في آخرِ العمرِ إيقاعَ عرشي
وعرشِكْ
وتمسحَ عن أخوةِ الظلِّ
ذئبَ التمنّي
وذئبَ الفِراقْ
كأنّي أنا يا عراق
وحيدُ الأغاني التي في الأماني
تجرُّ الخيولَ إلى مِرْبَعٍ عالقٍ في جبالِ العراق
كأنّي أنا يا عراق
سليلُ دمٍ ناطقٍ بالسلالةِ
منذُ التقينا على جمرةِ الريحِ
سليلُ اغتنائي بأيام أمّي
وعشقِ العراق
سليلُ انفتاحي على الناسِ في كلِّ حربٍ
وعيدٍ
وأمشي إلى الموتِ من أجل أن تستقيمَ
البلادُ التي ابنها ما يُسمّى العراق
سليلُ القصيدةِ من عهدِ ليمونةٍ
في مزارع كفِّ العراق
…سليلُ انبعاثي من الجمرِ حدّثني
أنْ أحدِّثَ شمسَ المساءِ
وأن أُنزلَ النجم حدّي
وأنْ لا أطيلَ الوقوفَ على شرفة الاحتراق
وحدّثني أنْ أقصَّ الحديثَ على أيِّ منفردٍ
جاءَ من لحمِ دربي
وحدّثني أنْ أشقَّ الرحيلَ إلى حَدَثٍ غامضٍ
والتفاتةِ عينٍ
إلى جهةٍ في التفاتةِ طفل العراق
…كما أنَّ أمّي أضافتْ إليهِ سماءَ
من الفضّةِ الحانيةْ
فقلتُ إذنْ لا أنامُ
وفي جعبة النخلِ شيءٌ من البؤسِ
شيءٌ من القهرِ
والسّلبِ
شيءٌ من العزْلِ
والانفتاحِ على وجهةٍ خاويةْ
وقلتُ: إذنْ عزّني يا فراتُ الذي قد أراهُ
مُعمّى على لغةٍ في السّياق
حصارُ المدى مثلُ أيامهِ فارغٌ
غير أنّي حصدتُ السؤالَ عن الماءِ
في جرّةِ الجارِ
فانحازَ في قلقِ الأرجوانِ
إلى آخرِ الناي حُزناً
ومالَ إلى آخرِ النبعِ
قال الحصى ظاهرٌ في الحواشي
فقلتُ انصياعُ الطيورِ إلى ساقها
يوم تلتفُّ ساقٌ بساقْ
وجيء بمنفى
إلى جرّتي يا عراق
فأين دِلالُ الخيامِ
وأينَ الخيالُ الذي سوّرَ البيتَ من غير سور العراق
وأينَ قوافي الرياح التي شيّعتها القصائدُ… في حبِّ
… حبِّ العراق؟!!
حصارُ المدى مثلُ أيامهِ
فارغٌ يا عراق
رأى القلبُ أنثى الحريرِ
تشبُّ إلى شرفة الانعتاق
ونحو كتابِ الغيابِ
وجنّةِ أيامنا
فانتهينا إلى أملٍ غارمٍ
مُغرمٍ تحت سقفِ العراق…..
حصارُ المدى مثلُ أيامهِ
فارغٌ يا عراق
…وجُزنا التبصّرَ
إنْ لم تكنْ أنتَ…،
من ذا يكن يا عراق
لهذا الذي لم ترَ الأرضُ
من قبلُ اسماً لهُ في سجلِ الزمانِ
ولم ترَ من قبلُ اسماً لهُ في مرايا البراق
يقولونَ مالَ إلى رمزهِ شاعرٌ
كي يمرَّ البنفسجُ من دارة الريحِ
فاختارَ لوحَ الصّدى
والقراميدُ حمراءُ في كلِ بيتٍ
فما حجّةُ الشعرِ في أن يجيّشَ بوح العراق.
ومالَ إلى لوحةٍ من رياشِ الخيالِ
لينهضَ حبرُ العراق
ومالَ إلى سُنّةِ الطينِ
يبعثُ فيها مياه الفراتِ التي
أرهقتها مذابحُ أهل العراق
حصارُ الكلامِ هنا واثقٌ
من حميم الوصالِ
وخيل العراق
يقولون إنّي تنبّأتُ
حين خرقتُ السفينةَ من أجل عين العراق
ومن أجل ماء الفراتِ
وماء الحياةْ
يقولون إنّي تنبّأتُ حين تقدّمتُ نحو الرصاصِ بكلّي
وإنّي تحمّلتُ أوجاعَ ظلي
ولذتُ إلى الحبرِ من أجلِ ظلِّ العراق
وإنّي أنا السيفُ في لمعة الشمسِ
أحرثُ باب التفاصيلِ
كي لا يضيع العراق.
وكي لا تمرَّ الدقائقُ في لحم خيل العراق
وكي لا ينمّى هنا الماءُ يوماً لغير التهجّدِ
في حبِّ… حبِّ العراق
يقولون إنّي تنبّأتُ بالمعسراتِ
فقلتُ: انتفضْ يا صباح العراق
ويا وجهَ أهزوجةٍ في أغاني العراق
ويا دمعَ طفل العراق.
أعِنّا على الصّدقِ
يا قلبَ روح العراق
أعِنّا على الموتِ
نحيا كما أنتَ في كلِّ شيءٍ
تمدُّ يداً تصطفي روحنا يا عراق
أعِنّا على عيْنِنا
كي نرى الماءَ يسبقُ ماء الغيومِ
وينشئ من كان ميْتاً
ويحييهِ وحيُ العراق
حصار المدى مثلُ أيامهِ
فارغٌ يا عراق
وفارغةٌ سيرةُ اللاعبينَ
بأرضِ العراق