«لعنةُ» المكان أم عبثُ التاريخ؟


*أدونيس


ـ 1 ـ
 في التجارب التّاريخيّة الكبرى، يمكن أن يُحاكمَ الإنسانُ بوصفه إنساناً، وليس بوصفه حاكماً أو محكوماً. «الربيع العربيّ» تجربة تاريخيّة كبرى – بالمعنى العبثيّ الفاجع. لكن، مَن نحاكم هنا؟ العربيّ، وحده، أم «الأجنبيّ» أيضاً؟ أم نحاكم الاثنين معاً؟
وكيف نحدِّد هذا «العربيّ»، وذلك «الأجنبيّ» ؟
أسأل، لأنّ هذا «الرّبيع العربيّ» استنفد أغراضه. وهو سؤالٌ يتضمّن سؤالاً أكثر أهمّيّةً: ما أغراضه؟
هل كانت قتلَ القذّافيّ، وطرد بن علي من السلطة، و «الإطاحة» بحسني مبارك، و«تدمير» سورية، وتفتيت شعبها وتهجيره؟
هل كانت «بناءً» لمفهوم آخر لما يُسَمّى «الثورة العربية» يعتمد في المقام الأوّل على تكوين جيش «ثوريّ» آخر اسمه «المُرتَزِقة» من جميع أنحاء العالم، لا على أبناء الشعب المعنيّ ذاته، لأنّ ثوراته صارت «تقليديّة» هل كانت من أجل «ابتكار» الأساليب والطرق الثّوريّة «الأشدّ فتكاً»، لكي تكون الأكثر «إقناعاً»، كالذّبح والسّبي، وبيع النساء، والنّهب والسّلب، وتدمير العمران وفي المقدّمة : المتاحف، والمعالم التّاريخيّة القديمة؟ ومن ثمّ استبقاء «المرتزقة» جيشاً جاهزاً، مدرَّباً، يمكن «تصديره «إلى دولةٍ أو أكثر، وفقاً للخطط «الثّوريّة»، وللحاجات الاجتماعيّة، الثّقافيّة الاقتصاديّة.
هل كانت اختباراً أوّل للشرق العربيّ (الأوسط )، بوصفه شرقاً إسرائيليّاً؟
مرّةً ثانية، مَن نحاكم؟ وكيف؟
لكن لا يصحّ الكلام، في هذا السياق، على «الثائرين» من دون الكلام على السلطة، ومن دون طرح السؤال الكبير : ما السلطة ؟ ما دورها ؟ وأين تتوقف مشروعيّة هذا الدور؟
لا بدّ إذاً، في هذا السياق من الكلام على مفهوم السلطة ووظيفتها، عند العرب، ومشروعية السلطة، التي تأخذ دور الخصم والحَكَم ، وتمنح نفسها حقوق الزّجر بلا حدود ولا تحديد للغاية، في انعدامٍ شبه كامل للديمقراطيّة، نظراً وممارَسة.


ـ 2 ـ
هل من جواب أو أجوبةٍ عند «المفكّر» العربيّ ؟ مثل هذا الجواب أو هذه الأجوبة يفترض وجود مفكّرين مدعوكين بعذاب تاريخهم، بتباريحه وانشقاقاته، وشجعانٍ في قول الحقّ، ومناضلين دون أن يكونوا «أنصاراً» أو تابعين.
أهناك عند العرب مثل هؤلاء المفكّرين؟ الآن، وقتهم.


ـ 3 ـ
«المكانُ لعنةُ البشر المسكونين بالزّمن»، يقول ريجيس ديبري. هل الحوض الشّرقيّ من المتوسّط هو «لعنة» العرب؟ هل يكشف المشروع الإسرائيليّ، عن هذه «اللعنة» – في صورتها العليا؟ خصوصاً أنّ العرب «يملأون» المتوسِّط ولا مكان لهم فيه.


ـ 4 ـ
لماذا لا مكان للعرب في «مكانهم»؟
ألأنّهم رفضوا أن يفهموا «الأرض»؟
ألأنّهم لم يعرفوا كيف يقرأون الأوديسّيه نائمةً على ذراع أختها البكر» ملحمة جلجامش»؟ ألأنّهم لم يعرفوا كيف يزاوجون بين غرناطةَ ومكّة؟
ألأنّهم أهملوا النّظر إلى ضفاف المتوسّط الغربيّة بعين الأبجديّة نفسها التي ابتكرتها ضفافُه الشّرقيّة ؟ ألأنّهم رفضوا أن تتآخى ليلى ومجنونها مع بياتريس ودانتي؟ ألأنّ أليسّارَ تونس، وكليوباطرة القاهرة وزنوبيا دمشق كنّ بين أجمل الكواكب في سماء المتوسّط؟


ـ 5
منذ بدأت «ثورات الرّبيع العربيّ» لم نقرأ لهذه الثّورات كلمةً واحدة عن حقوق المرأة – الإنسان. عن الحريّة والعدالة والمساواة. ثورات بالجمع، ليس لديها فكرة جديدة واحدة خارج الاقتتال على السّلطة!
لم نقرأ غير الرؤوس المقطوعة وغير الجثث وغير السّبي والنّهب، وغير الخراب والدّمار.


ـ 6 ـ
أنت أيّها التّمثال، نكِّسْ رأسكَ.
تهيّأْ لكي تصبح رماداً.
ـ 7 ـ
لم تستطع سورية أن تحرّر مواطنيها،
هكذا استَعْبَدها التّاريخ.
لم يستطع العرب أن يتحرّروا من داخل، في عقولهم وحياتهم،
هكذا استعبدهم الطّغيان.


ـ 8 ـ
كلّما يئست الشّواطىء، شواطىء المتوسّط الشرقيّة،
هدَرَ البحر، وقالت أمواجُه:
لا مكان عندي لليأس.


ـ 9 ـ
مع ذلك، للعرب تلامذة ! وفي بلاد الأسياد نفسها.
مثلاً، كلّ يومٍ نتجرّع السّمَّ كأساً كأساً، غير أنّنا لا نموت !
الآخرون في القارّات الأخرى يتتلمذون علينا. يتمسّكون بنا،
ببقائنا، بثرواتنا، أكثر من أيّ وقتٍ مضى.
كأنّنا حقّاً مراياهم. كأنّنا في آنٍ وعيهم ولاوعيهم !
ـ 10 ـ
كما يموت المؤلِّفون، تموت كذلك النّصوص.
لا يبقى غيرُ التّآويل !


ـ 11 ـ
قلْ لعقلك أن يدخل في قارورةٍ ضيِّقة. ثمّ عليك أن تسدّها على نحوٍ شديدِ الإحكام، ثمّ عليك أن ترميها في مكانٍ معتم، حتى ينزل رأسُك في الحُفرة الأخيرة – هذا، إذا قُيِّض له أن يملك حقَّ النّزول!


ـ 12 ـ
كان محيي الدين بن عربيّ، الصوفيّ الكبير، الذي لا يكاد أن يكون له مكان في الحياة العربية إلا قبره في دمشق –
كان يقول: كلُّ مكان لا يُؤَنَّث، لا يُعَوَّل عليه.
اليوم يمكن أن يكرَّر هذا القول بصيغة ثانية:
كلُّ مكانٍ تُهيمِن عليه الثقافة الذّكوريّة وتحكمه لا يُعوّل عليه.
ولَئِن صحّ القول إنّ للتغيير أساساً ومُنطَلَقاً، فهذان يكمنان بدئيّاً في الأنوثة. وهذه مُعَطَّلةٌ ومشوّهة، في الثقافة العربية، عمليّاً ونظريّاً. مشوَّهة باختزالها في الجنس والمِتعة. ومعطّلَةٌ بالنّظر إليها كأنّها، تشريعيّاً، ليست مجرّد ضلعٍ من جسد الذّكورة فقط وتابعة له، وإنّما هي كذلك اغتنامٌ وتملُّك.
أميل، شخصيّاً، إلى الظّنّ أنّ أزمةَ الحياة العربيّة، سياسيّاً، هي في المقام الأوّل ثقافيّة – على أن ننظر إلى الاقتصاد، بوصفه بعداً مكوِّناً من أبعاد الثقافة. تتمثّل هذه الأزمة في أنّ الثقافة العربيّة تنكسر لعوامل كثيرة، وأنّها بسبب هذه العوامل، تصبح أكثر فأكثر ظاهرةً بسيكولوجيّة، انفعالية، وتبتعد أكثر فأكثر عن الفعلِ – بحثاً، وتساؤلاً، واستقصاءً. وفي قلب هذا الانكسار النّظرُ إلى المرأة، لا بعين الإنسان بل بعين الذّكورة – خصوصاً في كل ما يتعلق بحقوقها وحرّياتها وحضورها، والمشاركة الفعّالة في بناء المجتمع، نظريّاً وعمليّاً.
إنه السؤال القديم إيّاه يتكرّر باستمرار: ما العمل؟
نعرف أنّ هناك إجابات متنوّعة، ومتعددة. غير أنّها كلّها تشترك في نقطة واحدة هي التي يجب تفكيكها، مجابهةً وتحليلاً وتجاوزاً. وهذا لم يتحقّق. وهي لذلك تدور جميعاً حول المشكلة أو تُداوِر. وذهبت بعض الإجابات إلى استعادة القديم، مؤكّدةً أنّ المسألة ليست في كيف تتحرّر المرأة، وتصبح سيّدة مصيرها، شخصياً واجتماعيّاً وسياسيّاً، بل هي على العكس، في كيف تُسبى وكيف تكون جاريةً أو زوجة، وكيف يُستَمتَع بها، وكيف تلبس. وماذا عليها أن تقرأ ؟ وهل لها الحقّ في أن تفكِّر؟
هنا يكمن كثيرٌ من القيود التي تشلُّ حركيّة التقدُّم، وتجعل الفكر التقليديّ مُسيطِراً على نحوٍ كامل. ولن تنكسر هذه القيود إلاّ بتحرير الابن من سطوة الأبوّة. وهو تحريرٌ لا يمكن أن يتمّ إلاّ بتحرير المرأة. بهذا وحده تستعيد المرأة هويّتَها الإنسانيّة، بوصفها كينونةً حرّةً، وإرادةً مدنيّة مستقلّة، سيّدة حياتها، وسيّدة مصيرها.
ما العمل إذاً ؟
ثمّةَ شعوبٌ يمكن أن تظلّ خارج التاريخ أو على هامشه، بفعل شهوةٍ تتملّكها هي شهوة التّبعية. وهي شهوةٌ تخلق في الدّاخل شهوة الاستتباع – هذه التي تهيمن على المجتمعات العربية. وهي نفسها تخلق عند الإنسان وهمَ التغيّر، أو وهمَ الثورة. فأن تثور تبعاً لهذه الشهوة، هو أن تغيّر قواعد الاستتباع وقواعد التملّك – وليس أن تغيّر المجتمع.
وتلك هي ثورات العرب، منذ أربعة عشر قرناً.
ما العمل، إذاً، مرّةً ثالثة؟
هل سيستيقظ الفرد العربي بنفسه، في ما وراء الإيديولوجيات التي تتمحور حول السلطة بوصفها آخر المطاف وسدرةَ المنتهى، وفي ما وراء الموروثات جميعاً، تلك التي لا فعل لها إلا محو ذاتيّته، وإلغاء فرادته؟
هل سيجرؤ على القيام بثورة الداخل، فيما وراء ثورة الخارج، انسجاماً مع الآية الكريمة: «لا يغيِّرُ الله ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم» ( الرّعد: 11)، ثورة الأعماق، والهواجس، والتطلّعات، والضَمير، والقلق، والإبداع، والمخيّلة، والمعرفة – ثورة الكينونة البشرية التي تميّز الإنسان بين جميع الكائنات.
ونعرف أنّ جميع ثورات الخارج، ثورات السلطة والقبيلة والعشيرة والإيديولوجيات فشلت كلّها، على مدى أربعة عشر قرناً، لسبب أساس هو أنّها حافظَت جميعاً على الأدوات نفسها التي لا تستعبد المرأة وحدها، وإنّما تُلغي الذّاتيّة والفرادة.
مرّةً أخرى: هل سيستيقظ الفرد العربي، أنثى وذكراً؟ متى؟ وكيف؟
من نسأل ؟
أم ننتظر من يصنع لنا «ربيعاً عربيّاً» آخر وثوراتٍ «ربيعيّةً» أخرى؟
_________
*المصدر: الحياة.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *