*هاروكي موراكامي / ترجمة أحمد شافعي
خمسة أيام كاملة قضتها أمام التلفزيون، محملقة في حطام البنوك والمستشفيات، وشوارع كاملة من متاجر تتصاعد منها النار، وخطوط القطارات السريعة الممزقة. لم تنطق كلمة. بقي فمها مزموما، وهي غائصة في وسائد الأريكة، لا ترد حتى على كومورا حينما يكلمها. لا تهز رأسها، ولا تطرق برأسها. بل إن كومورا لم يكن يعرف إن كان صوته حينما يتكلم ينفذ إليها.
تنتمي زوجة كومورا إلى منطقة في الشمال من ياماجاتا، وفي حدود ما يعرفه، لم يكن لها أصدقاء أو أقارب قد يكونون تضرروا في كوبي. ومع ذلك بقيت مغروسة أمام التلفزيون من الصباح إلى الليل. فكان كومورا حينما يستيقظ يجهز لنفسه التوست والقهوة ويتوجه إلى العمل. ويعد لنفسه، عند عودته إلى البيت في المساء، وجبة سريعة مما يعثر عليه في الثلاجة ويأكله وحده. وتكون هي لا تزال محملقة في النشرة المسائية حينما يتوجه إلى السرير. ولم تكن، في وجوده على الأقل، تأكل أو تشرب، بل ولم تذهب مرة إلى الحمام. كان يحيط بها جدار حجري من الصمت، توقف كومورا عن محاولة النفاذ منه.
وفي اليوم السادس، عندما رجع من عمله إلى البيت مساء الأحد، كانت زوجته قد اختفت.
***
كومورا كان مسؤول مبيعات في أحد أقدم متاجر أجهزة الصوت في حي أكيهابارا، «مدينة الإلكترونيات»، بطوكيو، متخصصا في تسويق المعدات رفيعة المستوى وله عن كل صفقة عمولة محترمة. وكان أغلب عملائه أطباء، ورجال أعمال مستقلين، وقرويين أغنياء. وكان له في هذا العمل ثمانية أعوام وينال منه دخلا معقولا منذ البداية. كان الاقتصاد في حالة جيدة، وأسعار العقارات ترتفع، والنقود تتدفق في اليابان، فتكتظ الجيوب بالأوراق من فئة العشرة آلاف ين، ويبذل الجميع في إنفاقها أقصى طاقاتهم. فكانت أعلى البضائع أسعارا أسرعها مبيعا.
كان كومورا طويلا نحيلا مهندما. مهذبا مع الناس. وفي فترة ما قبل زواجه واعد الكثير من النساء. حتى تزوج، في السادسة والعشرين، فوجد رغبته في المغامرات قد تلاشت، ببساطة وغرابة. فلم يبت إلا مع زوجته طوال سنوات زواجهما الخمس. وليس ذلك لأن الفرص لم تعد تسنح له، بل لأنه فقد أي اهتمام بالعلاقات العابرة وليالي المغامارات العارضة. كان يفضل على ذلك كثيرا أن يرجع مبكرا إلى البيت، فيتناول وجبة مريحة مع زوجته، ويتكلم معها قليلا على الأريكة، ثم يمضيان إلى السرير . كان ذلك كل ما يريده.
اندهش أصدقاء كومورا من زواجه. فبالمقارنة مع منظره الكلاسيكي الأنيق، كانت زوجته تبدو عادية للغاية، قصيرة، بدينة الذراعين، وفي منظرها خمود، بل بلادة. ولم يكن ذلك على المستوى الجسدي وحسب: فقد كانت تنقصها الجاذبية أيضا. كانت نادرا ما تتكلم، وغالبا ما كان يرتسم على وجهها العبوس.
ومع ذلك، وبدون أن يفهم هو نفسه السبب، كان كومورا يشعر دائما أن توتره تبدّد كلما يجد نفسه وزوجته تحت سقف واحد، فكان ذلك هو الوقت الوحيد الذي يشعر فيها حقا بالارتياح. كان ينام جيدا في وجودها، فلا تؤرقه الأحلام التي طالما كانت تؤرقه من قبل. . ولم يعد يقلقه الموت أو الأمراض التناسلية أو شسوع الكون.
أما زوجته في المقابل فكانت تكره نمط الحياة المدنية المزدحمة في طوكيو، وتتوق إلى ياماجاتا. كانت تفتقد أبويها وأختيها الكبيرتين، وتذهب لزيارتهم كلما شعرت أنها بحاجة إلى ذلك. كان أبواها يديران حانة ناجحة توفر للأسرة حياة مريحة. كان والدها مغرما بها، وهي ابنته الصغرى، ويدفع لها بسعادة ثمن تذاكر السفر، فكثيرا ما كان كومورا يرجع من عمله إلى البيت ليجد زوجته ذهبت تاركة رسالة على مائدة المطبخ تقول فيها إنها في زيارة لأبويها لفترة. ولم يعترض على ذلك قط. بل كان ينتظر رجوعها، فترجع دائما، بعد أسبوع أو عشرة أيام رائقة المزاج.
ولكن الرسالة التي تركتها له زوجته بعد خمسة أيام من الزلزال كانت مختلفة: فقد كتبت تقول له «لن أرجع أبدا» ومضت فشرحت ببساطة ووضوح لماذا لم تعد تريد أن تعيش مع كومورا. كتبت «المشكلة أنك لا تمنحني أبدا أي شيء. أو، لمزيد من الدقة، أنت لا يوجد بداخلك ما يمكن أن تعطيه لي. أنت طيب وحنون ووسيم، ولكن الحياة معك أشبه بالحياة مع الهواء. وهذه ليست غلطتك. هناك الكثير من النساء اللاتي سيقعن في غرامك. لكن من فضلك لا تتصل بي. وتخلص من الأشياء التي أتركها خلفي».
ولم تكن تركت الكثير وراءها على أية حال: فأحذيتها، ومظلتها، وفنجانها، ومجفف شعرها ذهبت جميعا. لا بد أنها وضعت ذلك كله في صناديق وشحنتها بعد خروجه إلى العمل في صباح ذلك اليوم. ولم يكن باقيا في البيت مما يمكن أن يقال عنه «أشياؤها» إلا دراجة كانت تذهب بها إلى السوق وكتب قليلة. حتى اسطوانات البيتلز وبيل إيفانز التي كان كومورا يجمعها من أيام عزوبيته اختفت هي الأخرى.
في اليوم التالي حاول الاتصال ببيت أبوي زوجته في ياماجاتا. ردت حماته قائلة إن زوجته لا تريد أن تكلمه. بدا في صوتها الاعتذار. قالت له أيضا إن زوجته سوف ترسل إليه أوراق الطلاق اللازمة قريبا ليوقعها ويرسلها إليها على الفور.
ردَّ كومورا قائلا إنه قد لا يستطيع أن يرسلها على الفور. فالأمر مهم وهو يريد أن يمنحها حقها من التفكير.
قالت حماته «يمكنك أن تفكر كيفما يحلو لك، ولكنني لا أعتقد أن ذلك سوف يغيّر أي شيء».
ورأى كومورا أنها قد تكون على حق. فمهما طال به الانتظار، كان كل شيء ليبقى على حاله. كان على يقين من ذلك.
***
بعد فترة قصيرة من إرساله أوراق الطلاق، طلب كومورا إجازة من عمله لمدة أسبوع. ففبراير شهر شديد البطء، وكان بالفعل قد حكى لرئيسه ما يجري في حياته. فلم يصعب عليه الحصول على الإجازة.
جاء إلى كومورا وهو يتناول الغداء زميل له يدعى ساساكي وقال «عرفت أنك ستأخذ إجازة، فهل تخطط لعمل شيء معين؟»
قال كومورا «لا أعرف. هل ينبغي أن أفعل شيئا معينا؟»
كان ساساكي أعزب، ويصغر كومورا بثلاث سنين. كان قوامه معتدلا، وشعره قصيرا، ويرتدي نظارة ذات إطار ذهبي دائري، وكان كثير الكلام، شديد الثقة في نفسه، فكان ذلك ينفّر الكثيرين منه، ولكن علاقته كانت على ما يرام مع كومورا لما هو عليه من سلاسة.
«معقول! ولكن بما أنك ستخرج في إجازة فلم لا تسافر إلى مكان لطيف؟»
قال كومورا «فكرة لا بأس بها».
ماسحا نظارته بمنديله، شخص ساساكا إلى كومورا كأنما يبحث في وجهه عن إشارة إلى المكان المناسب.
سأله «هل سبق أن ذهبت قط إلى هوكايدو؟»
قال كومورا «عمري».
«هل تحب أن تذهب؟»
«لم تسأل؟»
ضيَّق ساساكي عينيه وتنحنح قائلا «الحقيقة أن لديّ طردا صغيرا أريد أن أبعثه إلى كوشيرو، وأرجو أن تحمله عني إلى هناك. سيكون هذا معروفا كبيرا منك، وسيكون من دواعي سروري أن أدفع لك ثمن التذكرة. ويمكن حتى أن أدفع لك ثمن الإقامة في الفندق بكوشيرو أيضا».
«طرد صغير؟»
قال ساساكي «بهذا الحجم» وأشار بيده إلى علبة بحجم أربع بوصات. «ليس ثقيلا».
«شيء له علاقة بالعمل؟»
هز ساساكي رأسه قائلا «إطلاقا. شيء شخصي تماما. كل ما هنالك أنني لا أريد أن يتعرض للعبث، ولهذا لا أستطيع أن أبعثه بالبريد. أريد أن يتم تسليمه باليد، إذا أمكن. الحقيقة أنني ينبغي أن أقوم بهذا شخصيا، ولكن ليس لدي الوقت اللازم للطيران إلى هوكايدو».
«لا بد أنه شيء مهم؟»
زمَّ ساساكي شفتيه بقوة وأومأ. «ليس قابلا للكسر، ولا يحتوي على ’مواد خطرة’. لا داعي إطلاقا للقلق منه. لن يستوقفوك حينما يظهر في جهاز الأشعة في المطار. أعدك أنني لن أعرضك لمتاعب. السبب الوحيد الذي يمنعني من إرساله بالبريد هو أنني فعلا أنفر من الفكرة».
كان كومورا يعرف أن هوكايدو ستكون قارسة البرودة في فبراير، ولكن البرد ما كان ليختلف بالنسبة له عن الحر.
«لمن إذن أسلّم الطرد؟»
«أختي. أختي الصغيرة. هي تعيش هناك».
قرر كومورا أن يقبل عرض ساساكي. فقد كان في إطالة التفكير تعب أكثر من اللازم. لم يكن لديه سبب للرفض، أو شيء آخر يريد أن يفعله. اتصل ساساكي على الفور بشركة الطيران وحجز تذكرة بعد يومين.
وفي العمل في اليوم الثاني سلّم كومورا صندوقا كالذي يستعمل في حفظ رفات الموتى، إلا أنه أصغر، وملفوف بالورق. بدا من ملمسه أنه صندوق خشبي. لم يكن يزن شيئا تقريبا. وكان شريط لاصق شفاف يلتف من حوله، فوق الغلاف الورقي. أمسكه كومورا ثواني قليلة يتمعن فيه، وهزه هزة خفيفة لكنه لم يستشعر أو يسمع شيئا يتحرك بداخله.
قال ساساكي «أختي سوف تقلّك من المطار، وسوف ترتب لك أمر الغرفة. كل ما عليك هو أن تقابلها عند البوابة».
***
ترك كومورا البيت وقد وضع الصندوق في حقيبته ملفوفا في قميص ثقيل. كانت الطائرة مزدحمة بأكثر كثيرا مما توقع، فتساءل: ما الذي يجعل كل أولئك الناس يسافرون من طوكيو إلى كوشيرو في منتصف الشتاء؟
كانت صحيفة الصباح ممتلئة بتقارير الزلزال. قرأها في الطائرة من البداية إلى النهاية. كان عدد الموتى يرتفع. ومناطق كثيرة كانت لا تزال محرومة من الماء والكهرباء، وعدد لا حصر له من الناس فقدوا بيوتهم. كل موضوع في الصحيفة كان يحتوي مأساة جديدة، ولكن كل تلك المآسي بدت لكوموروا خالية من العمق. كان ما بعد الزلزال يبدو بالنسبة له أشبه بصدى خافت رتيب. كان الشيء الوحيد الذي يمكن أن يوليه أي تفكير جاد هو رحيل زوجته.
ولما تعب من التفكير في زوجته وتتبع خيوط ما جرى أغمض ونعس. ولما صحا عاد يفكر في زوجته من جديد. لماذا كانت تتابع أخبار الزلزال بكل ذلك التوتر، من الصباح إلى الليل، دونما أكل أو نوم؟ ما الذي رأته ولم يره؟
وإذا بامرأتين، ترتديان معطفين لهما نفس التصميم واللون، تقتربان من كومورا في المطار. إحداهما فاتحة البشرة، قصيرة الشعر، لعل طولها 167 سم، والمسافة من أنفها إلى شفتها الممتلئة العليا ممتدة بصورة غريبة، لدرجة أن فكّر كومورا في الحيوانات قصيرة الشعر ذات الحوافر. والأخرى كانت أقرب إلى 154 سم وكان جمالها ليزداد كثيرا لو لم يكن أنفها بالغ الصغر. كان شعرها الطويل ينسدل على كتفيها، وأذناها مكشوفتين، وعلى شحمة أذنها اليمنى شامتان أبرز القرط حضورهما. بدت المرأتان في منتصف العشرينيات. اصطحبتا كومورا إلى مقهى في المطار.
قالت الأطول بينهما «أنا كايكو ساساكي. أخي قال لي إنك قدمت له معاونة كبيرة. وهذه صديقتي شيماو».
قال كومورا «سعيد بمقابلتكما».
قالت شيماو «هاي»
قالت كايكو ساساكي، بنبرة احترام «أخي قال لي إن زوجتك ماتت أخيرا».
انتظر كومورا لحظة ثم قال «لا، لم تمت».
«ولكني تكلمت مع أخي أول أمس. وأنا متأكدة أنه قال بوضوح إنك فقدت زوجتك».
«حصل. تركت لي البيت. لكنها، في حدود معلوماتي، حية وبخير».
«غريبة. ما كان من الممكن أن أسمع بالخطأ شيئا مهما كهذا». ونظرت إليه نظرة متحرجة. وضع كومورا قليلا من السكر في قهوته وقلّبها برقة قبل أن يرتشفها. كان السائل خفيفا، ولا مذاق له. قال في نفسه، ما الذي أفعله هنا بحق الجحيم؟
قالت كايكو ساساكي «طيب، أكيد أنا التي سمعت خطأ. وإلا فكيف أفسر هذه الغلطة» وبدا عليها الرضا. تنفست بعمق وعضت شفتها السفلى «أرجو أن تغفر لي. كنت وقحة».
«لا تشغلي نفسك. هي ذهبت في كل الأحوال».
لم تقل شيماو شيئا أثناء حديث كومورا وكايكو، لكنها ابتسمت وهي تثبّت عينيها على كومورا. بدا أنه يعجبها. وصله ذلك من تعبير وجهها وإشارات طفيفة بلغة الجسد. حلَّ على ثلاثتهم صمت قصير.
قال كومورا «عموما اسمحي لي أن أعطيك الطرد المهم الذي جئت به»، وفتح حقيبته فتناول الصندوق من داخل القميص الثقيل الذي لفَّه فيه.
مدت كايكو يديها عبر المائدة، وعيناها الجامدتان مثبتتان على الطرد. وبعدما اختبرت ثقله، وبمثل الطريقة التي اتبعها كومورا، هزته قرب أذنها. وابتسمت له كأنما تشير إلى أن كل شيء تمام، وأسقطت الصندوق في حقيبتها الكبيرة المعلقة إلى كتفها.
قالت «لا بد أن أجري اتصالا، هل تسمح لي بالاستئذان للحظة؟»
قال كومورا «إطلاقا. على راحتك تماما».
أنزلت كايكو الحقيبة عن كتفها ومضت باتجاه كابينة تليفون بعيدة. تأمل كومورا طريقتها في المشي. بدا له أنه يشهد لحظة من الماضي وقد اندفعت في مفاجأة اعتباطية إلى الحاضر.
سألته شيماو «هل زرت هوكايدو من قبل؟»
هزّ كومورا رأسه.
«أيوة، فاهمة طبعا، مشوار طويل».
أومأ كومورا. ثم التفت يستعرض ما حوله. وقال «ومع ذلك غريبة. جلوسي هنا، لا يبدو وكأنني قطعت كل تلك المسافة».
«بسبب الطيران. هذه الطائرات سريعة بطريقة مقرفة. لا يستطيع عقلك أن يجاري جسمك».
«ربما تكونين محقة».
«هل كنت تريد أن تقوم بهذه الرحلة الطويلة؟»
قال كومورا «أعتقد ذلك».
«بسبب رحيل زوجتك؟»
أطرق كومورا.
قالت شيماو «مهما تبتعد في سفرك، لا يمكن أن تهرب من نفسك».
كان كومورا يحملق في السكَّريَّة على المنضدة أثناء كلامها، ولكنه رفع في ذلك الوقت عينيه لتلتقيا بعينيها.
قال «صحيح. مهما يبتعد المرء في سفره، لا يمكن أن يهرب من نفسه. إنها أشبه بالظل، يتبع المرء أينما يكون».
نظرت شيماو إلى كومورا نظرة ثاقبة وقالت «أراهن أنك كنت تحبها، أليس كذلك؟»
تجاهل كومورا السؤال. «أنت صديقة كايكو ساساكي؟»
«صحيح. نفعل بعض الأشياء معا».
«أية أشياء؟»
بدلا من أن تجيبه سألته «أنت جائع؟»
قال كومورا «لا أعرف. أشعر أنني جائع وغير جائع».
«تعال نذهب فنتناول شيئا ساخنا، نحن الثلاثة. تناول شيء ساخن الآن سوف يساعدك على الاسترخاء».
تولت شيماو قيادة سيارة سوبارو رباعية الدفع، وكايكو ساساكي جالسة بجوارها، بينما وضع كومارو نفسه في المقعد الخلفي الضيق. لم يكن في قيادة شيماو شيء معين مزعج، ولكن الضوضاء في المقعد الأخير كانت لا تحتمل، فوجد الإطارات كلها خربة فيما يبدو. لا بد أن السيارة كانت قد قطعت أكثر من مائة ألف ميل، فكان الناقل الآلي ينحشر كلما هدأت السرعة، والحرارة ترتفع وتنخفض داخل السيارة. تخيّل كومورا وقد أغمض أنه بات محبوسا في غسالة.
لم يكن مسموحا للجليد بالتراكم في شوارع كوشيرو، ولكن كتلا وسخة من الثلج كانت تتراكم اعتباطا على مسافات متساوية في جانبي الطريق. كانت الغيوم كثيفة ومنخفضة، وبرغم أن الغروب لم يحل بعد، فقد بدا كل شيء معتما وموحشا. والريح كانت تهب في المدينة زاعقة وحادة، فلم يكن ثمة مارة، وبدا حتى أن إشارات المرور نفسها متجمدة.
أوضحت كايكو بصوت مرتفع وهي تنظر وراءها إلى كومورا أن «هذا الجزء من هوكايدو لا يسقط عليه كثير من الجليد. نحن قريبون من الساحل والرياح هنا قوية، فمهما يكن ما يتراكم تذهب به الريح. والجو مع ذلك بارد، لدرجة التجمد. يبدو أحيانا وكأنه يخلع عنك أذنيك».
سألته شيماو «سمعت عن السكارى الذين يموتون متجمدين وهم نائمون في الشارع؟».
سأل كومورا «هل لديكم دببة هنا؟»
قهقهت كايكو والتفتت إلى شيماو قائلة «دببة!»
قهقهت شيماو بالطريقة نفسها.
قال كومورا على سبيل الاعتذار «أنا لا أعرف الكثير عن هوكايدو».
قالت كايكو «أعرف قصة جيدة عن الدببة. أليس كذلك يا شيماو؟»
قالت شيماو «قصة عظيمة».
ولكن كلامهما توقف عند ذلك الحد، ولم تحك أي منهما القصة. لم يطلب كومورا أن يسمعها. وسرعان ما وصلوا إلى مقصدهم، محل نودلز كبير على الطريق. ركنوا السيارة في الموقف ودخلوا.
طلب كومورا شرابا ووعاء ساخنا من النودلز باللحم. كان المكان قذرا وخاويا، والمقاعد والموائد متهالكة، ولكن اللحم كان رائعا، فلما أنهى كومورا طعامه شعر فعلا بمزيد من الاسترخاء.
قالت كايكو «قل لي يا كومورا، هل هناك شيء معين تريد أن تفعله في هوكايدو؟ أخي يقول إنك سوف تقضي أسبوعا هنا».
فكر كومورا للحظة ولكنه لم يتوصل إلى أي شيء يريد أن يفعله.
«ماذا عن نبع ساخن؟ أعرف مكانا ريفيا بسيطا غير بعيد عن هنا».
قال كومورا «ليست فكرة سيئة».
«أنا متأكد أن المكان سيعجبك. مكان لطيف فعلا. ولا دببة ولا أي شيء».
نظرت المرأتان كل إلى الأخرى وعادتا إلى الضحك من جديد.
قالت كايكو «عندك مانع أسألك عن زوجتك؟»
«لا»
«متى رحلت؟»
«همهم… بعد الزلزال بخمسة أيام، يعني منذ أكثر من أسبوعين الآن».
«هل لذلك علاقة بالزلزال؟»
هزّ كومورا رأسه. «ربما لا. لا أعتقد».
قالت شيماو وقد أحنت رأسها قليلا «مع ذلك، أتساءل لو أن هذه الأشياء تكون مترابطة بطريقة ما».
قالت كايكو «أيوه. الأمر فقط أن المرء لا يرى الروابط».
قالت شيماو «صح. أشياء كهذه تحدث طول الوقت».
قال كومورا «أشياء كهذه؟»
قالت كايكو «مثل ما جرى لشخص أعرفه على سبيل المثال».
قالت شيماو «قصدك ساييكي؟»
قالت كايكو «بالضبط. ذلك الرجل، ساييكي. هذا يعيش في كوشيرو. عنده حوالي أربعين سنة. كوافير. وزوجته رأت السنة الماضية طبقا طائرا. كانت تسوق على طرف البلدة وحدها تماما عند منتصف الليل ورأت طبقا طائرا ضخما يهبط في حقل. بصوت زاعق، فوووو. كما في اللقاءات القريبة التي تحدث للبعض مع الأطباق الطائرة. بعد أسبوع تركت له البيت. اختفت ببساطة، ولم تظهر مرة ثانية. لم تكن هناك مشكلات أسرية أو أي شيء».
«وكان ذلك بسبب الطبق الطائر؟» تساءل كومورا.
«لا أعرف السبب. الأمر أنها رحلت. ولا تركت رسالة ولا أي شيء. كان عندها طفلان في الابتدائي، وذهبت بكل بساطة. ولم يعرف لها خبر منذ ذلك الحين. طوال الأسبوع الأخير قبل رحيلها لم يكن لها كلام مع أحد إلا عن الطبق الطائر. لم يكن أحد ليستطيع إيقافها. كانت تظل تسترسل وتسترسل في الكلام عن ضخامته وجماله».
تمهلت حتى يستوعب القصة.
قال كومورا «زوجتي تركت رسالة. وليس لدينا أطفال».
قالت كايكي «هذا يعني أنك أفضل حالا من ساييكي بقليل».
قالت شيماو مومئة «أيوه. الأطفال فارق كبير».
قالت كايكو في عبوس إن «والد شيماو ترك البيت وهي في السابعة. هرب مع شقيقة زوجته الصغرى».
سادهم الصمت.
قال كومورا بهدف تغيير الموضوع «ربما لم تهرب زوجة ساييكي بل اختطفها كائن فضائي في الطبق الطائر».
قالت شيماو بتعبير قاتم «يمكن. نحن نسمع مثل هذه القصص طول الوقت».
سألت كايكو «قصدك من نوعية أن تكوني ماشية بالليل ويأكلك الدب؟» وضحكت المرأتان.
***
ترك الثلاثة مطعم النودلز ومضوا إلى فندق غرامي قريب. كان يقع على أطراف البلدة، في شارع يمتلئ بالفنادق الغرامية وباعة شواهد القبور. كان الفندق الذي اختارته شيماو عبارة عن مبنى غريب مقام على شكل قلعة أوروبية، وفوق أعلى أبراجه علم أحمر مثلث.
أخذت كايكو المفتاح من الاستقبال، وركبوا المصعد إلى الغرفة. كانت الشبابيك ضيقة، مقارنة مع السرير الكبير بصورة عبثية. علَّق كومورا سترته على المشجب ومضى إلى المرحاض. خلال الدقائق القليلة التي قضاها هناك، قامت المرأتان بملء حوض الاستحمام، وتخفيف الإضاءة، وتشغيل التدفئة، وفتح التلفزيون، وفحص قوائم الطعام الخاصة بمطاعم البلدة، والتأكد من أزرار المصابيح المثبتتة أعلى السرير، وفحص محتويات الثلاجة.
قالت كايكو إن «ملاك الفندق أصدقاء لي. طلبت منهم أن يجهزوا غرفة كبيرة. هذا فندق غرامي، ولكن لا تجعل هذا يضايقك. هذه المسألة لا تضايقك، أليس كذلك؟»
قال كومورا «على الإطلاق».
«رأيت أن ذلك أكثر منطقية بكثير من سجنك في غرفة صغيرة ضيقة في أحد الفنادق الرخيصة بجوار المحطة».
قال كومورا «أنا متأكد أنك على حق».
«لماذا لا تدخل لتستحم؟ أنا ملأت الحوض».
فعل كومورا ما قيل له. كان الحوض ضخما. فلم يرتح كومورا أن يغطس فيه وحده. ربما العشاق الذين كانوا يترددون على هذا الفندق كانوا يستعملون الحوض أزواجا أزواجا.
اندهش كومورا، عندما خرج من الحمام، لما رأى أن كايكو ساساكي قد رحلت. وكانت شيماو لا تزال هناك، تشرب وتشاهد التلفزيون.
قالت شيماو إن «كايكو رجعت إلى البيت. وأرادت أن أعتذر لك وأقول إنها سوف تأتي صباح الغد. هل عندك مانع أن أبقى هنا قليلا وأشرب ؟»
قال كومورا «لا».
«متأكد أنه ما من مشكلة؟ تريد مثلا أن تكون وحدك، أو لا تستطيع أن تسترخي في وجود شخص أو شيء؟»
أصرّ كومورا أنه ما من مشكلة. جلس يشرب ويجفف شعره بمنشفة وهو يشاهد التلفزيون مع شيماو. كانت فقرة إخبارية عن زلزال كوبي. ظلت الصور تتكرر هي نفسها: بنايات مائلة، وشوارع مهدمة، وعجائز باكيات، وارتباك، وغضب بلا هدف. ولما بدأت الإعلانات، أطفأت شيماو التلفزيون بالريموت كنترول.
قالت «تعال نتكلم، ما دمنا هنا».
قال كومورا «لا مانع».
«عن أي شيء نتكلم؟»
«في السيارة قلت أنت وكايكو شيئا عن دب، فاكرة؟ قلت إنها قصة عظيمة».
أومأت قائلة «أوه، نعم، قصة الدب».
«تريدين أن تحكيها لي؟»
«أكيد، ولم لا؟»
أتت شيماو بشراب جديدة من الثلاجة وملأت كأسيهما.
قالت «ولكنها فاحشة بعض الشيء. فهل عندك مانع؟»
هز كومورا رأسه وقال «لا، تفضلي».
«قصدي أن بعض الرجال لا يحبون قصصا معينة من النساء».
«لست منهم».
«هي قصة شيء حدث معي فعلا، ولذلك هي محرجة».
«أحب أن أسمعها إذا لم يكن لديك مانع».
قالت شيماو «لا مانع عندي إذا لم يكن عندك مانع».
قال كومورا «لا مانع عندي»
«قبل ثلاث سنوات، تقريبا في الوقت الذي التحقت فيه بالكلية، كنت أواعد شخصا. كان أكبر مني بسنة. وذات يوم كنت أنا وهو بالخارج نتريّض، في منطقة جبلية تقع في الشمال» تناولت شيماو رشفة شراب «كنا في الخريف، والتلال جميعا ممتلئة بالدببة، فذلك هو الوقت الذي تستعد فيه الدببة للبيات الشتوي، فتكون بالخارج للبحث عن الطعام وتكون في منتهى الخطورة. فتهاجم الناس في بعض الأحيان. وكانت قد هاجمت بالفعل أحد المتريضين قبل ثلاثة أيام من وصولنا. فأعطانا شخص ما جرسا نحمله معنا. وكان المفترض أن نهزّه ونحن نسير فنحذر الدببة من أن بشرا في المكان. لأن الدببة لا تهاجم البشر عمدا. قصدي أن الدببة نباتية إلى حد كبير. فهي ليست مضطرة إلى مهاجمة البشر. ما يحدث هو أنها تصادف البشر فجأة في منطقتها فتتفاجأ وتغضب وتهاجم كرد فعل انعكاسي. أما لو سرت وأنت تهز جرسك فسوف تجتنبك الدببة تماما. فهمت؟»
«فهمت».
«هذا إذن ما نفعله، نسير ونهزّ الجرس. ووصلنا إلى مكان لم يكن فيه أحد من حولنا، وفجأة قال إنه يريد أن … يفعلها. ويمكن القول إن الفكرة راقت لي أنا أيضا، فقلت لا بأس، وذهبنا إلى ذلك المكان المشجر على جانب من الطريق بحيث لا يمكن أن يرانا أحد، وفرشنا قطعة بلاستيك. لكنني كنت خائفة من الدببة. قصدي، تخيّل بشاعة أن يهاجمك دب من الخلف ويقتلك ! طريقة للموت لا أريدها إطلاقا، أم لك رأي آخر؟»
وافقها كومورا على أنها طريقة للموت لا يمكن أن يريدها.
«فكنّا هناك إذن، نهز الجرس . وحافظنا على ذلك من البداية إلى النهاية. تررررن .. تررررن».
«من منكما كان يهزّ الجرس؟»
«كنا نتناوب. كنا نتبادل الجرس كلما تعبت أيدينا. كان الأمر شديد الغرابة ».
ضحك كومورا هو الآخر ضحكة قصيرة.
صفقت شيماو وقالت «أوه، رائع، هذا رائع. بوسعك أن تضحك، أخيرا يا رجل».
قال كومورا «بالطبع يمكنني أن أضحك» ولكنه لما فكر تبيّن أنها المرة الأولى التي يضحك فيها منذ فترة. متى كانت المرة الأخيرة؟
سألته شيماو «هل تمانع أن أستحم أنا أيضا؟»
قال كومورا «لا»
وبينما كانت تستحم، مضى كومورا يشاهد عرض منوعات لممثل كوميدي وقد رفع الصوت. لم يستظرفه على أي مستوى، ولكنه لم يدر إن كان العيب في العرض أم فيه هو. شرب وفتح كيس مكسرات أخذه من الثلاجة. وبقيت شيماو في الحمام لفترة طويلة للغاية ثم خرجت بعد ذلك.
سألته «متى كان آخر لقاء مع زوجتك؟»
«في نهاية ديسمبر على ما أعتقد».
«أتعرف فيم أفكر؟ عليك أن تهوّن على نفسك وتستمتع بالحياة أكثر من هذا. قصدي فكر في هذا: غدا قد يقع زلزال، أو يخطفك الفضائيون، أو يأكلك دب. لا أحد يعرف ما الذي قد يجري».
ردد كومورا «لا أحد يعرف ما الذي قد يجري».
قالت شيماو «لا بد أنك كنت تفكر في زوجتك».
قال كومورا «أيوه» ولكن الواقع أنه كان يفكر في الزلزال. كانت صوره تأتيه واحدة بعد الأخرى، كأنما بالعرض البطيء، بارقة على الشاشة ثم متلاشية بالتدريج. طرق سريعة، ألسنة لهب، دخان، أكوام حطام. لم يستطع أن يقاطع سلسلة الصور الصامتة.
وضعت شيماو أذنها على صدره العاري.
قالت «هذه الأشياء تحدث».
«أو هوه».
«لا ينبغي أن تجعل هذا يضايقك».
قال كومورا «سأحاول».
«ولكن الرجال يتركون الأمر يضايقهم على أية حال».
لم يرد كومورا بشيء.
«قلت إن زوجتك تركت رسالة، صح؟»
«قلت هذا»
«ماذا قالت فيها؟»
«إن الحياة معي كالحياة مع الهواء».
«الهواء؟» ورفعت شيماو رأسها ناظرة إلى كيمورا «ماذا يعني هذا؟»
«معناه، في تصوري، أنه لا يوجد شيء بداخلي».
«وهذا صحيح؟»
قال كومورا «يمكن. ولكنني لست متأكدا. ربما لا يكون بداخلي شيء، ولكن ماذا يعني هذا الـشيء؟»
«أيوه، فعلا، تعال نفكر في هذا. ما معنى الـ شيء؟ أمي كانت مجنونة بجلد السلمون. كانت تتمنى لو أن هناك نوعا من السلمون ليس فيه إلا الجلد. معنى هذا أنه أحيانا يمكن أن يكون الأفضل ألا يكون هناك شيء بالداخل. ألا ترى هذا؟»
حاول كومورا أن يتصوّر نوعا من السلمون كله من الجلد وكيف يمكن أن يكون شكله. ولكن حتى بافتراض وجود شيء كهذا ألا يكون الجلد نفسه داخل الجلد؟ أخذ كومورا نفسا عميقا.
قالت شيماو «سأقول لك شيئا على أية حال. أنا لا أعرف هل بداخلك شيء أم لا شيء بداخلك، ولكنني أظن أنك رائع، وأن العالم مليء بنساء يمكن أن يفهمنك ويقعن في غرامك».
«هي الأخرى قالت هذا».
«ماذا؟ رسالة زوجتك؟»
«أو هوه».
قالت شيماو «بل تمزح!».
قال كومورا «بت أفكر، ما الشيء الذي قد يكون في الصندوق الذي جئت به؟»
«هل يزعجك ذلك؟»
«لم يكن يزعجني من قبل. لكن الآن، لا أعرف لماذا، بدأ يزعجني».
«منذ متى؟»
«الآن فقط».
«فجأة هكذا؟»
«أيوه، بمجرد أن بدأت التفكير فيه، فجأة».
«أتساءل ما الذي جعله يبدأ في إزعاجك، هكذا، فجأة».
حملق كومورا في السقف للحظة ثم قال «وأنا أيضا أتساءل».
أنصت الاثنان لأنين الرياح. كانت الرياح تهب من مكان يجهله كومورا، وتهب عليه، عابرة إلى مكان آخر يجهله.
قالت بصوت منخفض «أنا أقول لك لماذا. لأن الصندوق يحتوي الشيء الذي كان بداخلك. لم تكن تعرف ذلك حينما حملته وأعطيته لكايكو بيديك. والآن لن تسترده مطلقا».
رفع كومورا جسمه عن المرتبة ونظر من أعلى إلى المرأة. أنف دقيق، شامتان على شحمة الأذن. في صمت الغرفة، أخذ قلبه يدق بعنف، بصوت أجش. انشقت عظامه وهو ينحني إلى الأمام. ولجزء من الثانية شعر كومورا وكأنه على شفا ارتكاب عنف لا مثيل له.
قالت شيماو «مجرد مزحة» وقد رأت نظرة وجهه. «قلت أول ما خطر في ذهني. كانت نكتة سخيفة. أنا آسفة. لا تعتبرها إهانة شخصية. لم أقصد إيذاءك».
أرغم كومورا نفسه على الاسترخاء وغاص برأسه مرة أخرى في الوسادة. أغمض وتنفس بعمق. تمدد السرير الضخم من حوله كأنه بحر في الليل. وكان قلبه لم يزل يخفق بعنف.
سألته شيماو «هل بدأت تشعر قليلا وكأنك قطعت طريقا طويلا؟»
قال كومورا صادقا «همهم، الآن أشعر وكأنني قطعت طريقا طويلا للغاية».
حركت شيماو إصبعها على صدر كومورا متبعة تصميما معقدا، وكأنها تتحسس تعويذة سحرية.
قالت «لكن بصدق، أنت بالفعل لم تزل في البداية».
_________
هذه القصة مستوحاة من زلزال ضرب كوبي في اليابان سنة 1995، ونشرت في نيويوركر الأمريكية في 19 مارس سنة 2001 مترجمة من اليابانية إلى الإنجليزية بقلم جاي روبن.
__________
*المصدر: جريدة عُمان.