«الوليمة المتنقلة لهمنجواي»..سردية المكان وفضاء النص


*فاطمة الشيدي


القراءة الجارحة أو العميقة، هي القراءة القائمة على فعل التأمل، وسيرورة البحث في النص، لرصد رموز وعلامات سيميائية، تشكل فرقا بنائيا يدفع للحيرة التي تفضي للتأويل حول فكرة النص وفضاءاته المكانية والزمانية، وممكناته اللغوية والمعنائية، ولاحقا تصنع قاسما مشتركا لروح الكتابة، وثيمة حيوية بين عدة نصوص يتتبعها القارئ بحثا عن قراءة أولى في مسامات الحياة، ألا وهي قراءة الناص للأمكنة، تلك التي تسهم في تشكيل ملامح نصه السردية، وأفقه المكاني الذي يتحرك عبره، ويطلق فيه رؤاه ووعيه عبر الحياة والنص. ليحدث الاتحاد الضمني بين القراءتين في استنطاق المكان. ففي القراءة الثانية (القراءة اللغوية) تستعاد القراءة الأولى (قراءة الحواس)، ويحدث تتبع ضمني للقراءة الأولى في الأمكنة التي جرت عليها خطوات الناص، ودار ضمنها السرد واقيا، أو تخييليا، فتصبح قراءة السرد عبر المكان، وقراءة المكان عبر السرد، وهذا ما يتمايز به ناص عن ناص، أي القدرة على التقاط الصورة المكانية عبر الحواس، ثم خلق المكاني السردي بعمق أكثر عبر قوة التشكيل الفني، والمخيلة وعناصر الصياغة المكانية والزمانية. بإعادة «تركيب السرد والمنحنى الدرامي الذي يتخذه»1.
فالمكان السردي هو المكان الواقعي عبر المخيلة، ولذلك يصبح المكان السردي مختلفا إلى حد ما عن المكان الحقيقي، حيث يتم تشكيله عبر اللغة بشكل مغاير قليلا أو كثيرا، وإن كان يحتفظ ببعض الملامح الثابتة، إلا أنها تصبح أجمل وأكثر إدهاشا حتى على من عاش فيه، واستوثق تفاصيله، وبالتالي فيحسب للسارد «قدرته على اختزان أمكنة مغايرة لما يعهده المتلقي، أو تقديم المكان الذي يعيشه المتلقي في صورة فنية مختلفة» 2 
وفي رواية « (الوليمة المتنقلة، أو باريس عيدا حسب الترجمة الفرنسية) يظهر الخلق السردي عبر تقديم همنجواي سيرة المكان الباريسي في 255 صفحة، وفي 18 فصلا بهدوء مغرق بالتفاصيل، وتصوير مكاني دقيق لحياة طبيعية جدا يعيشها السارد/ البطل، ويرسم للقارئ عبرها جماليات المكان بساطة وعمقا، حضورا وغيابا، فيحضر المكان بوصفه بطلا رئيسا للعمل الأدبي، ومدى أفقي لكل أحداثه وتعرجاته صعودا ونزولا في الزمن، وعبر شخوص الرواية/الحياة من أصدقاء وأقرباء يتجلى هذا المكان حضورا مغايرا وجارحا في ذاكرة السارد/ البطل، الذي يدون كل شيء بلسانه وقلمه عبر حكاية شخصية/ مكانية، واصفا كل الأمكنة التي يتحرك ضمنها في عبوره الطبيعي جدا للحياة والسرد معا مع زوجته وأصدقائه من كتاب وشعراء وفنانين، أو حتى من يتعرف عليهم في المكان، ويروي بعض سيرتهم فيه، ويحضر المكان في الرواية بقوة بكافة أشكاله في الحكاية الرئيسية أو الحكايات الجانبية التي تبزغ وتتفرع، ثم تنطفئ وتختفي من السرد الكلي للحكاية الكبرى، التي تدور على لسان البطل/ السارد/ الكاتب، الذي يرسم لنا بدقة تفاصيل الأمكنة، «الشارع والمقهى والحدائق، والجزر والرصيف والجسر والزقاق والمكتبة والشقة» فيثقلها بالمحمولات الروحية والإنسانية والفكرية العميقة الخاصة به وبمن حوله، ويغدق عليها الكثير من التفاصيل، ويروي عبرها تفاعلات المكان مع روح البشر وحكاياتهم الجانبية المتناثرة والمتكاثرة، كمصور سينمائي يحمل عدسته مخلدا صورة المكان عبرها، متحركا عبر الساحات والميادين مثل: «ميدان سان ميشيل، وساحة كونتر إسكراب، وساحة البانتيون، وساحة لوفوا، وساحة سان سلبيس، وساحة النجمة، وشارع تلسيت، شارع موفتار، شارع الكاردينال لوموان، شارع نوتردام دي شامب، وشارع السين، وشارع الأوديون ،شارع يعقوب، شارع دي سان بيريز، وشارع ديكارت، وشارع دلامير» متريثا كثيرا عند المقهى والحانة والمطعم، فيمضي مسترسلا في السرد، موغلا في الوصف، لأنها غالبا موضع التدوين، ومكان الكتابة الأثير والراحة الروحية، وتناول الطعام والشراب، مثل: «مقهى الهواة، مقهى النخبة، حانة دونجو، مطعم زنجي تولوز، ومطعم الفايكنج، مطعم ميتشود، مطعم البرج الفضي، ومطعم بورنيير، ومطعم ميتشو، ومطعم ليبس، مقهى القردين، مقهى القبة، ومقهى الطارمة، ومقهى الكوخ الصغير» وهناك مكتبة شكسبير، وفندق فولتير، ونهر المارن، ومتحف اللكسمبورج، ويتحرك الكاتب ضمن المكان، مع مجموعة من الكتاب، واصفا طبائعهم الشخصية، ومستوى كتاباتهم في حوارات تكشف لنا رؤية همنجواي لكتاب عصره، أو حتى نظرته لسابقيه من الأدباء.
إن همنجواي في« الوليمة المتنقلة» يعيد تشكيل المكان «باريس» عبر روح الحياة والسرد معا، ويخلده عبر اللغة في الزمن، فهو يقدم لنا سيرة مكانية وحياتية تشف عن شغف الكاتب بالمكان الباريسي في عنفوان شبابه، وتمتعه بلذة الحياة فيها، راسما المكان والزمن والأحداث والأشخاص، بلغة عذبة وسهلة، كما هو معروف عن همنجواي، لغة تقول ولا تمتنع ، وتشف ولا تخفي، معمقا تجربته عبر الكتابة والمكان معا، باثا لنا بعض أسراره في الكتابة، بلا نصح ولا إرشاد، بل بطبيعية مطلقة وتسجيل سردي حكائي، لروح الكتابة بوصفها عمله الأساسي، ومهمته الكبرى.
يقول: «ولكن يحدث أحيانا أن أشرع في كتابة قصة ما، ولا أتمكن من التقدم فيها، فكنت أجلس أمام النار وأعصر قشور البرتقالات الصغيرة على أطراف اللهب وأشاهد الرذاذ الأزرق الذي تخلفه. وأنهض وأحدق في سطوح باريس وأقول لنفسي: لا تقلق، لقد كتبت دوما من قبل، وستكتب الآن، كل ما عليك أن تفعله هو أن تكتب جملة حقيقية واحدة، اكتب أصدق جملة تعرفها، وهكذا أتمكن أخيرا من كتابة جملة واحدة، ثم أواصل من هناك، لقد كان ذلك أمرا ميسورا، لأن هنالك دائما جملة حقيقية أعرفها أو رأيتها أو سمعت شخصا يقولها، وإذا بدأت الكتابة بتكلف، أو كمن يمهد لتقديم شيء ما، شعرت بأن علي أن أحذف المحسنات والمقدمات والإلتواءات اللفظية، وأرمي بها بعيدا، لأبدأ بأول جملة خبرية حقيقية بسيطة كتبتها» 3
«وحين أكتب فإن من الضروري أن أقرأ بعد الكتابة، لأنك إذا واصلت التفكير في ما تكتب، فإنك في اليوم التالي ستفقد الشيء الذي تكتب عنه قبل أن تستطيع الاستمرار فيه في اليوم التالي، ومن اللازم أن تتريض بدنيا، وأن ينال التعب من جسدك» 4
وهكذا على الكاتب أن يفهم الدرس، ويستوعب عمقه من أستاذ عظيم كهمنجواي، الكاتب الفذ، والمغامر المجنون، الذي يجعلك تشعر كثيرا بالغيرة المفرطة منه، ليس فقط لأنه كاتب عظيم، بل لأنه عاش حياة رائعة ومتنوعة، ومارس أغرب الهوايات كالتزلج على القمم العالية والمراهنة على الخيول، واشترك في سباق الدراجات، وقام بأصعب الأعمال ليقدم أعمالا حقيقية، وليس أقلّها أنه عمل مراسلا حربيا في حربين كبيرتين وكتب من أتونهما تماما، رواية «ولاتزال الشمس تشرق» عن الحرب العالمية الأولى، و«لمن تقرع الأجراس؟» عن الحرب الأهلية الأسبانية، وكان في الأولى سائق سيارة إسعاف، وفي الثانية مراسلا حربيا، ومارس اصطياد الأسود في أفريقيا ليكتب رائعته «ثلوج كليمنجارو» ثم القرار الإرادي بإنهاء حياته بشجاعة قصوى. ليقول لنا ان الكتابة مغامرة وينبغي أن يكون الكاتب على قدرها، والحياة فرصة وينبغي استغلالها حتى آخر رمق وبكل الممكنات المتاحة، أو حتى غير المتاحة. ويشعرنا بالضعف للتقوقع في القليل والسطحي من الحياة واللغة فقط.
«قال لي ذات مرة: نحتاج إلى ألغاز حقيقية أكثر في حياتنا ياهام، والذي يعوزنا جدا في هذا العصر، هو الكاتب غير الطموح، والقصيدة الجيدة غير المنشورة. وتبقى طبعا مشكلة الدعم المادي» 5
_______
1.حسن بحراوي. بنية الشكل الروائي: الفضاء – الزمن – الشخصية, ط1, الدار البيضاء, المركز الثقافي العربي, 1990م, ص32.
2. مصطفى الضبع. استراتيجية المكان, القاهرة, الهيئة العامة لقصور الثقافة, أكتوبر 1998م, ص37.
3.إرنست همنجواي، الوليمة المتنقلة، ت د.علي القاسمي، دار رؤية للنشر والتوزيع 2013، ص 41
4.المرجع السابق ص 56
5.المرجع السابق ص 202
______
*المصدر: جريدة عُمان

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *